رواية : رؤوس الحرية المكيّسة

رواية " رؤوس الحريّة المكيّسة " . ثلاثة اقسام. جاسم الرصيف

Monday, December 10, 2007

القسم الأول: رؤوس الحرية المكيّسة

رؤوس الحرّيّة المكيّسة

رواية

جاسم الرصيف

عن رؤوس ، كيّستها ( الحريّة !!؟؟ ) ، في مواسم الدم ّ ( الرخيص ؟؟ ) !! .

إلى :

من رفضوا مهنة مسامير أحذية في بساطيل الغزاة .

جاسم الرصيف

أيلول ( سبتمبر ) 2006

** 1 **

** زمن **

بعد ساعة ( قد ) تبدأ الحرب !! .

ومع أنه ، مثل كل الرجال في الخندق الذي حفروه منذ يومين ، من مواليد حرب مضت ، إذ ولدته ( العضباء ) يوم إنتهت الحرب مع أيران ، وكان عمره ثلاث سنوات عندما مرت حرب الكويت ، التي يتذكر منها الطائرات المغيرة ودوي ألإنفجارت المروعة ، إلا أنه ظل ّ قلقا مثل ألآخرين من ( حرب جديدة !! ) مازالوا يثرثرون عنها متمنين ( معجزة ما !! ) تمنعها ولو في اللحظة ألأخيرة .

جلس على حافة الخندق . قدماه تتأرجحان بحركة عابثة ، مواجها جهة الغروب ، بعد ان وضع بندقيته ( المؤمّنة ) ، حسب ألاوامر ، على ساقيه الهزيلتين ، فيما قرص الشمس يزداد إحمرارا وهو ( يغلي ) الغيوم قبل ختام النهار في ألأفق البعيد . لم يشارك في الثرثرة عن الحرب ، حسب توصية أمه ( العضباء ) ، لأن ( اللّسان حصان ) قد يضل نحو ( تهلكة ) في هذه ألأيام بالذات .

قبل صيفين ، إشترت له ( العضباء ) عربة خشبية بثلاث عجلات وأخذته إلى ( سوق الخضار ) بعدما قالت بوجه جاد وحزين في آن : ــ يابا !! . صرت رجلا ألآن . تعلمت القراءة والكتابة ، والحمد لله . وأصحاب الشهادات مثل غيرهم يركضون باحثين عن عمل ، أي عمل ، ولايجدون !! يابا !! . الحصار أكلنا ، وراتب المرحوم ماعاد يكفي !! .

وتوقفا ، في ساعة مبكرة من الصباح ، عند واحد من تجار الجملة ، دخلت مكتبه ( العضباء ) ، ورآها ( زمن ) تتوسل به مع مجموعة من الرجال بوجه يكاد يبكي ، ثم خرجت وعلى وجهها لمحة فرح وهي تقول له : ــ إنتظر هنا ! شغّلوك ! وعد قبل الغروب ! .

ومذاك وهو يحمّل الخضار في عربته منذ الفجر حتى صلاة العصر في ( سوق المعاش ) .

مازالت تربة الخندق طازجة ، رائحتها الذكية في أنفه ، وقرص الشمس تزداد حمرته قتامة وهو يأفل تاركا وهجه على أطراف الغيوم ، في فضاء بردت نسائمه يغيب هو ألآخر في أوائل الليل ، لذا إلتفّ ( بأحسن بطانية ! ) أخذها من البيت وفق ( عيب من الناس !! ) إذا أخذ بطانية عتيقة إلى الخندق ، وهو ( ألإبن الوحيد ) لأمه ، عندما ذهب ليمضي ليلته ألأولى بصفة ( مقاتل ) .

وحالما إختفى قرص الشمس وجه ( زمن ) بندقيته إلى ذات النقطة التي غاب عنها ومثل دور من يطلق النار بعبث طفولي ، ولكن ( دليو ) ، البدين ، الضاحك أبدا من ( سوء حظه ) فاجأه بصوت عال : ــ أطلق يا إبن ( العضباء ) !! أطلق لعلها تعود !! .

فشعر هذا بالخجل واعاد بندقيته على ساقيه ساكتا ، فيما تساءل ( ملا ّ حمادي ) ، آمر المجموعة ، النائب الضابط المتقاعد : - هل بندقيتك مؤمّنة ياولد ؟ .

هز ( زمن ) رأسه بالأيجاب بعد أن تأكد من ( لسان ألأمان ) في البندقية .

بعد خمسة أشهر سيبلغ السادسة عشرة من عمره ، و ( سيدور اللّبن في خصيتيه ) ، قال ( الشيخ بعيو ) ، فهو ( رجل إذن !! ) ، بحجّة ألقاها في وجه ( العضباء ) التي حاولت الإعتراض على تجنيده ( للجيش الشعبي ) ، لأنه ( إبنها الوحيد الذي يعيل العائلة ألآن !! ) ولأنه ( مازال طفلا يبكي إذا جاع !! ) ، ولكن ( الوطن يحتاج كل القادرين على حمل السلاح ألآن ) كما قال ( الشيخ ) غير آبه بتوسلاتها ، فلم يذهب إلى ( سوق المعاش ) منذ يومين .

فتح أحدهم مذياعه على أغنية وطنية شائعة منذ أيام بأنغام دبكة شعبية ، يخاطب فيها المغني ( السيد الرئيس ) قائلا : ــ ( روح بيها وع الزلم خليها !! ) ، فهب ( دليو ) بخفة لاتتناسب مع بدنه الثقيل المحشور في ( دشداشة) ضيقة ، إذ لم يعثر ( الشيخ بعيو ) على بذلة عسكرية تناسب حجمه ، وراح يدبك خارج الخندق ملوحا ببندقيته بحماس ، ثم أطلق النار مرتين ( خلافا للأ وامر !! ) ، وعاد لاهثا إلى مكانه وهو يقول : ــ والله سيركب أمهاتنا !!.

وتظاهر الجميع بعدم سماع ما قال ، وتغاضى ( ملا حمادي ) عن المخالفة ، ولم يفهم ( زمن ) من ( سيركب أمهاتنا !!) ، ولا تطوع أحد لإفهامه ، ولكن كان متأكدا أنه واحد من ( الزلم ) الذين سيخوضون الحرب في هذا الخندق ، إذا حصلت بعد ألآن أو في أي وقت ، فتحسس الطلقات الخمس التي أعطاها له ( الشيخ بعيو ) والتي وضعها في جيبه خوفا على ( أموال الحكومة ) من الضياع .

ــ هل بندقيتك مؤمّنة يا ولد ؟ .

باغته ( ملا حمادي ) بالسؤال للمرة الخامسة منذ الصباح .

أجاب ( زمن ) بضيق لم يتوقعه من نفسه : ــ أي ! أي والله ياعمي !! .

عندئذ أبعد ( دليو ) ، شبه غاضب ، ( ملا حمادي ) عن طريقه ، وأخذ البندقية من ( زمن ) وهو يقول له ساخرا : ــ شوف ! طلقة من هنا !! ــ وصوّب نحو السماء المظلمة ــ تدمّر كل الطائرات ألأمريكية وحتى البريطانية معها !! وطلقة من هنا !! ــ وأشار نحو الجبال ــ ستمحو ( العلوج ) ومعهم ( البيش مركة ) !! وثالثة تضربها من فوق ( برج الثالولة ) فتتوقف الإتصالات بين ( بوش ) و ( بلير ) !! والرابعة للنصر والفرحيات !! .

فسأله ( زمن ) ضاحكا ببراءة ، وهو يتحسّس الطلقات الخمس في جيبه : ــ والخامسة ؟! .

أجاب هذا فورا : ــ تطلقها في ( ... ) أم الذي جنّدك !! .

فضج ّ الخندق بالضحك ، وشعر ( زمن ) بالخجل للمرة الثانية في ذلك المساء .

** الثالولة **

كما كف واسعة ، منبسطة بسخاء ، يميل سفح ( وادي الحرامية ) نحو مجرى مياه ألأمطار الموسمية ، مفرّطا بتربة قبور الغرباء ، التي إتسعت حتى ( تل الهوى ) ، أيام الحصار الدولي ، صعودا نحوالطرف الغربي للحي ، الزاحف هو ألآخر ، كما مخلوق ضخم بطئ الحركة ، ( جسده ) من بيوت تلاصقت على جدران صفيح وخشب وطين مشفوعا ببعض قطع الكونكريت المستعملة سابقا في مكانات أخرى ، و( نبضه ) في أزقة متعرجة تعج بالاطفال والحيوانات السائبة والعجائز اللواتي إتخذن من أبواب البيوت مواقع لقاءات يومية يتأكدن عليها أنهن مازلن حيات وقادرات على الثرثرة ومراقبة المارة وممارسة هوايتهن في إغتياب ألآخرين .

وعلى حافة ( تل الهوى ) ، الذي يستهل البر الغربي ، أو يختتمه ، عند الطرف النامي من ( الثالولة ) القريب من ( مزبلة الشيطان ) ، حفر مقاتلو الحي خندق القتال ، الذي بدا كما ( فم ضفدع !! ) يسخر من الذاهبين إلى ، أو العائدين ، من المدينة مع أخبار الحصار الدولي الذي سحق الجميع و( الحرب الجديدة ) التي يثرثر عنها أكثر من ثلاثين رجلا ، مع بنادقهم شبه الفارغة ، بإمرة ( ملا ّ حمادي ) الذي أعلن صراحة أنه ( دائخ !! ) بمسؤولية لم يسع إليها ، ولم يتوقعها ، ولكنه صار ( عبدا مأمورا ) .

وإسوة بمدن العالم الكبرى ، إتخذت ( الثالولة ) قرارا بنصب رأس برج لكهرباء الضغط العالي ، تركته عصابة (عواليس ) سرقته من الحكومة ، ولم تعد إليه لسبب ما ، ذات ليلة ، فإستقر الرأي أن تستخدمه ( الثالولة ) برجا لآذانات الصلاة ، بعد تطوير الجدران الهزيلة المخصصة لغسل الموتى منذ سنين ، لذا تفنن ( ألأعرج البدراني ) في لملمة قطع الصفيح والخشب والكونكريت وألأسلاك المعدنية على جبلة كبيرة من الطين حوّلت ( حرام العواليس ) إلى مصلّى عند الحاجة ، مما أسعد ألأطفال بمعلم جديد يعبثون حوله يوميا .

ولما كان ( برج الثالولة ) ، أو ( مئذنة الضغط العالي ) ، كما يحلو لبعض المازحين تسميتها ، قد نصبت حسب توفر الفراغات في الحي إلى جوار بيت ( العضباء ) ، ( زوجة الشهيد ) ، فقد صار ( ملا ّ حمادي ) من أصدقاء العائلة ، يتبادل الثرثرة عن ( الحال وألأحوال ) معها كلما إنتهى من أداء آذان للصلاة هناك ، عبر مكبرة للصوت تعمل بالبطارية ، ولم يكن يكتم إعجابه بفكرة تحويل حاوية ماء ضخمة ، ( تانكر ) ، الى بيت سكني لافت للنظر ساهم ( البدراني ) في إعادة هندسته ببراعة مشهودة ، وكانت هذه تنتفخ فخرا كلما وصف ( الملا ّ ) الفكرة التي خطرت في ذهنها وهي تبحث عن سكن لبنتيها وولدها الوحيد ( بالعبقرية ) .

وذات يوم تجرأت ، بعد تردد طال ، أن تطلب منه قرضا لتشتري عربة حمل لوحيدها ( زمن ) ، الذي قررت منعه من الذهاب الى المدرسة بعدما تدهورت قيمة الراتب التقاعدي ، الذي كانت تقبضه عن زوجها الذي إستشهد قبل يومين من توقف الحرب مع أيران ، فقال لها آسفا على قرارها :ــ لاحول ولاقوة الابالله !! .

ثم سكت قليلا قبل أن يقول لها وهو يتنهد هازا رأسه الهزيل : أبشري بالخير يا ( أم زمن ) !! .

فسوّرته بكل ماخطر في بالها من دعاءات .

** كاشان **

تركت الدكان تحت رعاية ( البدراني ) ، قبيل الغروب ، كالعادة ، وجلست على كرسي عتيق خلف بيتها القديم ، المشرف على ( وادي الحرامية ) والضفة ألأخرى من الوادي ، المزدانة بأبّهة قصر ( الشيخ بعيو بعاص ) في حي ( الزنجيلي ) ، وراحت تراقب الدقائق ألأخيرة للفتيان والفتيات في ( مزبلة الشيطان ) وهم يتهيأون للعودة مع آخر الحمولات قبل حلول الظلام .

وصلت أول مجموعة من الفتيات ، وأفرغت أكياسها من ألأحذية المطاطية التالفة وعبوات البلاستيك وأجزاء المحركات والبطاريات وألأسلاك وغيرها من النفايات ، وكانت أنشط المجموعات الست العاملة في ( شركة كاشان ) ، وتلك هي حمولتها الثالثة لهذا النهار . قبل أسابيع كانت هذه المجموعة تجلب بين خمس وست حمولات ، ولكن أيادي البلدية تراخت عن العمل ، فما عادت تجلب الكثير من أزبال المدينة ، مذ بدأت ألإستعدادات للحرب الوشيكة بتجنيد القادرين على حمل السلاح من الرجال .

نبهت ( كاشان ) مسؤول البلدية ، وهي تدس ( المقسوم ) في كفه القذرة ، إلى أن هذه الظاهرة قد ( قطعت رزقها ؟! ) ، ولكن ( أبو راسين ) هز رأسه الزورقي الشكل آسفا وقال لها باليأس القدري الذي تعودته الناس منذ الحربين الماضيتين: ــ الحرب ، يا كاشان ، الحرب !!.

ثم مضى مع غيمة من الذباب تلاحقه دائما ، تاركا لمخيلتها أن ( تفهم !! ) علاقة الحرب بالبلدية و بالأزبال التي تنبشها ( أصابعها ) في ( وادي الحرامية ) .

بلغ مجموع ماجنته مجموعة ( عنود ) من النفايات ثلاثة وأربعين كيلوغراما ونصف ، جبرتها ( كاشان ) إلى أربعة وأربعين ، ( مشكورة ) من الفتيات الثلاث اللواتي كن ينشرن رائحة ( مزبلة الشيطان ) الحادة النفاذة ، ولما كان وارد المجموعة ليوم أمس هو ثمانية وأربعين كيلوغراما ، حصة ( كاشان ) منها أربعة وعشرين ، فقد دفعت لكل واحدة منهن ثمن ثماني كيلوغرامات ، بالتساوي ، فقبلت واحدة من الفتيات الثلاث كفها المسودّة الوسخة ووضعتها على جبينها ( حمدا لله !! ) ثم إنطلقت راكضة نحو بيتها .

تكومت تلال النفايات في ( البيت القديم ) ، او بيت ( ضايع عبد الموجود ) كما إعتادت العجائز أن يسمّينه ، كما في كل مساء . ومع أن ( كاشان ) تعرف عن يقين أن ( أصابعها ) تعثر على لقيات ثمينة ، كالمصوغات الذهبية والساعات وحتى النقود ، إلا أنها لم تسأل أحدا من الفتيان أو الفتيات عنها ، لأنها واثقة أن لا أحدا منهم سيصدق معها على عوز ثقيل جعله يجمع الزبالة ليعيش ، في ظل نظام الصمت السائد في ( الثالولة ) شبه الخالية من الوشاة .

لذا فهي تكتفي ( بنصفها ) السهل المريح مما تجنيه تلك ( ألأصابع ) من ( ساعة الحساب ) غروب كل يوم ، ومن ( ساعة البيع ) ، التي تجني منها ربحا آخر ، خاصا بها وحدها ، على مساومات مملة تتكرر في كل صباح مع ( المخضرم بن عمشة ) الذي يشتري منها كل نوع من النفايات على حدة ليبيعه بدوره الى معامل المدينة التي تعيد تصنيع بعضه ، ويبيع البعض ألآخر للمهربين الدوليين الذين تخصصوا في تهريب المعادن عبر الشمال ، الذي فقدت الحكومة السيطرة عليه منذ ثلاثة عشرعاما ، الى أيران وتركيا .

وعندما إنتهت ( ساعة الحساب ) مع كل المجموعات كان الليل قد حل ، فإنتظرت ( كاشان ) حتى ينتهي ( البدراني ) من وزن خضار إشترتها زبونة عجوز ، لم يتوقف لسانها عن الثرثرة ، عن الحصار والحرب و ( صدام ) و ( بوش ) ، حتى بعد أن اخذت ما إشترته فراحت تثرثر لنفسها بصوت عال وهي تمضي في الزقاق ، بعد أن شتمت مجموعة راكضة من ألأطفال ( أولاد الجائفات !! ) السائبين كاد أحدهم أن يسقطها على ألأرض .

أعطت ( البدراني ) سيكارة مستوردة من سيكائرها وأشعلت واحدة لنفسها وسألته قلقة

: ــ هل ستحصل الحرب ؟! .

وعلى ضوء الفانوس ، رأى ( البدراني ) في عينيها الجميلتين قلقا لم يره من قبل ، ولأول مرة إنتبه الى بعض التجاعيد الصغيرة تحت عينيها تشي بعمرها الحقيقي ، الذي قارب الخمسين ، فشعر بأن ( الزمن غدّار!! ) حقا بحق البشر أيا كانوا . لذاأجاب وهو ينفث دخان سيكارته في الفضاء: ــ عساها لاتحصل !! لاسبب حقيقا واحدا لها ، وكل العالم رفض حصولها ، ولكن من الخاسر فيها إذا حصلت ؟! .

** زمن **

تناول العشاء ، الذي جلبته له أمه مع وصية ( السياسة لعنة فلا تقربها !! ) ، على حافة الخندق المتربة في ليلته الثالثة التي أمضاها في العراء مع رجال ، لم يتوقفوا عن الثرثرة في السياسة ، زجهم ( الشيخ بعيو ) بقوة التهديد بعقوبة ( ألإعدام للخونة ) مشفوعة بقوة ( الدفاع عن الوطن ) في محنته الجديدة ، ثم مضى على جناح وعد بجلب المزيد من العتاد والرجال .

أمضى ( ملاّ حمادي ) الليلتين الماضيتين ( دائخا ) من كل شئ ، بين آذانات أصر على مواصلتها بصوته الواهن من ( برج الضغط العالي ) ، وبين متابعته لستة عشر ولدا وبنتا وزوجة نالت لقب ( أرنبة وادي الشيطان ) عن جدارة في حبل وولادة بين حبل وولادة ، وكأنها لم ترتح هي ألأخرى مذ تزوجت رجلا ( دائخا !! ) دائما في البحث عن طعام لعائلة تزداد فردا كل عام ، بين من رضيع وحاب وسائب في ألأزقة رث الثياب !! .

( لا تثرثر !! ) أوصته ( العضباء ) ، ربما للمرة الرابعة في ذلك الغروب ، على حبتي بطاطا مسلوقتين ورغيف خبز ، مازال ساخنا ، وبعض الخضار ، فقضم بصلة خضراء بصوت مسموع هازا رأسه لأمه التي واصلت وصف ماجرى في البيت هذا اليوم ، وماحصل في ( الثالولة ) ، التي تبعد عنه ستين أو سبعين خطوة ، ولكنه لا يدري ماذا يحصل فيها على إلتزامه ( مقاتلا ) في الخندق ، لأن ( ملاّ حمادي ) أخبرهم بأن ( أحدا ما سيزورنا ) ، ولابد أن يكون هذا ( ألأحد ) شاهد ميدان ( كبير الرأس ) في الحكومة .

سكن الليل بعد أن ذهبت ( العضباء ) ، وإختلس ضياء فضي نفسه من بين غيوم مسافرة في ( سلام مذهل !! ) من مكان ما إلى مكان ما دون عوائق ، فتوهجت جمرات السيكائر في ( فم الضفدع ) ، مع ثرثرات هامسة ، وعلا شخير ( العم دليو ) ، و ( داخ !! ) ( زمن ) في فهم إتساع السماء لملايين النجوم اللامعة وأقمار التجسس الغمّازة التي يقال أنها تصور كل شئ على ألأرض باحثة عن ، أسلحة التدمير الشامل في العراق ، و قطعات الجيش العراقي إستعدادا للحرب .

ربّما صوّروني !! .

همس لنفسه وهو يلتف ( بأحسن بطانية ) دون أن يتوقف عن أرجحة قدميه في فراغ الخندق ، تاركا بندقيته على ألأرض . سقطت من تحته كتلة كبيرة من التراب ، فتنحنح ( ملاّ حمادي ) ، ولكن ( زمن ) سبقه في الكلام وصاح : ــ مؤمّنة !! .

وهو يرفع بندقيته عاليا ، فضج الرجال بالضحك ، وقهقه ( ملاّ حمادي ) لأول مرة منذ ثلاثة أيام .

كانوا يسخرون من ( تربية أرملة ) ، كلما إرتكب خطأ ، ولم يزعل ( زمن ) ، على حقيقة أن ( العضباء ) أرملة حقا ، وقد ربته على عدم مخالطة الناس خوفا من ( أصدقاء السوء ) فتخلف عن كثير مما إعتاده الآخرون ، مع أنه لم يجد خطأ في خوفه من ( دم دجاجة !! ) لأنه كان يكره مرأى الدم ، وظل يخجل من عدم معرفته لإستعمال البندقية التي وضعها ( الشيخ بعيو ) بقوة في يده لمقاتلة ( المغول الجدد !!) ، كما كان يخجل من عدم معرفته لقصة ( المغول ) الذين غزوا ( بغداد ) في عهد ما .

شقت أنوار سيارتين ظلام مابعد منتصف الليل ، من أزقة حي ( الزنجيلي ) ، وظلتا ترميان بسيوفها الضوئية يمينا ويسارا ، أعلى وأسفل ، حتى وصلتا الخندق ، فإنتفض ( ملاّ حمادي ) من مكانه في وقفة إستعداد عسكرية حاملا بندقيته بطريقة مهيبة ، لايجيدها غير العسكريين من ذوي الخبرة ، وتبادل مع رجل ، من ثلاثة نزلوا من السيارتين ، حديثا هامسا أيقظ بعده ( دليو ) من شخيره على جملة مسموعة : ــ الجماعة يريدونك !! .

وقف هذا كقطعة مجتزأة من جدار في الظلام ، بدشداشته الضيقة على كرشه ، أمام الرجال الثلاثة . قال له أحدهم بتهذيب كبير : ــ أخي ! أترك بندقيتك عند ( ملاّ حمادي ) وتعال معنا لمدة خمس دقائق !!.

فأعطى ( دليو ) البندقية ( لملاّ حمادي ) بهدوء ودون نقاش ، ثم مضى مع الرجال في سيارتهم . وعندما غابت أنوار السيارتين في شوارع المدينة المعتمة همس ( ملاّ حمادي ) بصوت مسموع كانت فيه نبرة الرثاء وألأسف واضحة : ــ لا حول ولا قوة إلا بالله !! .

وظلت النجوم وأقمار التجسس تتغامز متواطئة على أمر ما ، والبرد يشتد في الفجر الذي كان يمضي على المقاتلين النيام في أوضاع مختلفة في الخندق ، رغم نداء ألآذان للصلاة الذي أداه ( ملاّ حمادي ) في ( برج الثالولة ) ، ولم يعد ( دليو ) !! .

** الثالولة **

في مقهى ( أخو عرنه ) ، المجاور لهيكل ( سيد فولاذ ) ، إنقسم الزبائن الى فرق ، رأت إحدها ، وأكثرها من المطلوبين للحكومة ، أن وجود ( الرشاشة الرباعية لمقاومة الطائرات ) ، التي نصبها الجيش قبل اربعة أيام على البر الغربي ( للثالولة ) ، سيعرض المنطقة كلها للخطر ، لأن ألأمريكان سيقصفونها حالما تبدأ الحرب ، حتى لو لم تطلق النار على طائراتهم ، وبدلالة ماجرى بعد حرب الكويت ، وما تلاها تحت حجة حماية ألأكراد شمال خط ( 36 ) ، فيما رأت فرقة اخرى أنها من ضرورات الحرب على اية حال وايا جاءت النتائج ، وحافظ فريق ثالث على حياديته بالصمت وعدم التدخل في امور ( سياسية !! ) .

وعندما اطلق ( ملاّ حمادي ) آذان العشاء ، إنطفأت القوة الكهربائية في حي ( الزنجيلي ) فتحول ( وادي الحرامية ) الى خط أسود يتعرج نحو الجنوب ، أشد قتامة من البرية الغارقة بفضة أوائل الليل .

سخر أحدهم : ــ نالهم ( الملاّ ) بسوء حظه !! .

وتناول احد المطلوبين بندقيته ، وأطلق رصاصة ( مذنّبة ) من فوق قصر ( الشيخ بعيو ) ، خطّت لنفسها ذنبا متوهجا طويلا لثوان ثم ذابت في الفضاء المعتم .

: ــ سيعود ألآن الى مربطه ، هذا المسكين !! .

قال شاب ، هرب من الجندية منذ ثلاث سنوات ، بشئ من الغضب ، إذ ماعاد قادرا على دفع نفقات السفر من والى فوجه ، ولم يعلق أحد على ملاحظته سياسية النكهة .

تنحنح رجل عجوز ثم نهض قائلا بصوت مسموع : ــ ( إن بعض الظن إثم ) !! .

وبدا ان لارابط بين كلامه وبين مايجري ، ثم غادر المقهى معتمدا على ذاكرته وعصاه للتعرف على الزقاق المؤدي الى بيته . وغادر المطلوبون بعده نحو البر الغربي .

: ــ عواليس !! تهضم معداتهم حتى ال ... !! .

قال ( أخو عرنه ) بعد ان ابتعد هؤلاء ، وزم شفتيه إمتعاضا عندما سقطت نظراته على البندقية التي سلمها له ( الشيخ بعيو ) مع خمس طلقات . ثم نظر نحو السماء وهو يتنهد ، فلم ير غير الغيوم وبضعة نجوم تتلاصف على نفسها ، آمنة ، بعيدة ، فدعا الله أن يمنع الحرب ، وكرر دعاءه بصوت أعلى وهو ينظف اقداح الشاي ، قبيل منتصف الليل ، إستعدادا لغلق المقهى .

ولكنه نسي أفكاره عندما سمع صرخات : ــ مات !! إنه ميت !! .

وركض مع آخر الزبائن نحو الزقاق الذي تجمع فيه عدد من الرجال والنساء حول جثة الرجل العجوز شبه الاعمى الذي غادر بعد آذان العشاء . كان مسجى على ألأرض القذرة ، وميتا حقا ، وذووه ذهبوا لإستعارة عربة ( العضباء ) الخشبية لنقله ، فعاد ( أخو عرنه ) الى مقهاه ، ولكنه فوجئ بإختفاء بندقيته ( الحكومية ) . بحث عنها كالمجنون وهو يردد مرعوبا متوسلا كل من يلاقيه : ــ سيعدمونني !! بندقية الحكومة سرقوها مني !! ارحموني !! البندقية للحكومة !! .

وعندما يئس من العثور عليها ، راح يردد غاضبا : ــ علسوني !! أنا صاحب اطفال ياناس !! والله لانستحق رحمة الله !! يعرفون انها للحكومة !! سيعدمونني !! في الحرب !! في الحرب تسرق بندقيتي !! حسبي الله !! حسبي الله !! .

** كاشان **

زارت ( البرشة ) في منزلها ( لأداء الواجب ) ، الذي لايخلو من إرضاء فضول شخصي لمعرفة تفاصيل ( المصيبة !! ) ، وعرضت ، كما ألآخرين ، إستعدادها لمساعدة العائلة المنكوبة ( بكبيرها ) الذي أخذته الحكومة لمدة ( خمس دقائق !! ) ولم يعد حتى اليوم .

: ــ ميلي وأنا السند يا أختي !! .

قالت ( للبرشة ) الموجوعة ، قميئة الجسد ، شاحبة الوجه ، على ضوء الفانوس النفطي الذي نسيت أن تنظف زجاجته فراح يلقي أضواء مبتورة على جدران الغرفة الطينية ومحتوياتها القليلة الرثة ، التي لاتتناسب مع ضخامة ( دليو ) وأولاده البدينين الثلاثة الساكتين على بلواهم رغم شهرتهم في السخرية من كل مايجري .

ومرت فترة من الصمت الكئيب قطعها ( ألأحيمر ) ، أكبر أولاد ( دليو ) وهو يقول ( لكاشان ) ضاحكا : ــ أنت ذكية ياخالتي !! تقولين هذا الكلام لأمي ، وهي مثل صوصي دجاج منقوع ، ضربه الحصار ، ولاتقولينه لي !! .

وأشار نحو كرشه الضخم ضاحكا مع أخويه فقالت له ( كاشان ) مجاملة : ــ حتى أنت ، تعال وأنا السند !! . ولكنها إنتبهت ، ولأول مرة منذ زمن بعيد ، الى أن هذا قد ( كبر !! ) ، وصار شابا تجاوز سن الخدمة العسكرية ، ولا بد أنه هارب منها ألآن ، بوجهه ألأحمر الوسيم وعينيه السوداوين الواسعتين وشفتيه ( الشهيتين ) ، فتوقفت عن رغبتها في ألإستمرار في مجاملته كي لايظنها إمرأة متوحدة رخيصة ، كما تتخيل بقية الرجال عنها .

كررت عرضها السخي على ( البرشة ) ، وهي تنهض مستأذنة للمغادرة : أن تقترض ماتشاء من الدكان ( حتى يفرجها الله !! ) ، فتمتمت هذه لها بدعاءات وكلمات شكر كثيرة ، فيما أطلق ( ألأحيمر ) ضحكة في غير محلها فسر نكهة الحماقة فيها : ــ أتخيل نفسي ( مائلا ) عليك ياخالتي وأنت تستغيثين من أجل نفس واحد !! .

فضحكت ( كاشان ) ولكمته على كرشه بلطف ، وبجرأة لم يتوقعها هذا من أية إمرأة في ( الثالولة ) ، التي تتناقل أخبار مثل هذه اللكمة على أجنحة خيالات شتى ، لذا إبتلع لعابه وهو يكاد يتنفس على إشارة عدها ( واعدة !! ) من أجمل إمرأة في الحي ، حافظت على نظارة فتاة في الخامسة والعشرين ، وهي بعمر أمه وربما أكبر !! فيما كانت هذه تنظر نحوه مندهشة من غفلتها عن البلوغ السريع للأطفال في الحي .

وعندما منحت نفسها ( للبدراني ) ، كما تعودت منذ سنين ، في ساعة متأخرة من الليل ، تخيلت ( ألأحيمر ) وهو يجن على جسدها البض ، فشعرت بنكهة أخرى ( للحب ) زادت من حيويتها تحت هذا ، حتى فوجئا بطرقات خافتة على الباب الخارجي ، فأسرع ( البدراني ) على غير عادته حتى إنقلب عنها وهو يلهث ، عندئذ إرتدت ملابسها على عجل ، وسارعت نحو الباب وهي تصيح مستغربة من وقت الزيارة المتأخر : ــ أي ! أي !! جئت، جئت !! .

فتحت الباب ، وهي تلهث ، فواجهها رجل ملثم يحمل على كتفه بندقية وبيده بندقية أخرى ، قال لها دون مقدمات : ــ عندي بندقية للبيع !! .

ألقت نظرة أخرى على البندقيتين ، ثم طلبت منه أن ينتظر ، وعندما عادت بعد قليل وبيدها رزمة من النقود أعطاها الرجل البندقية ، وراح يعد النقود على عجل حتى صاح مستغربا : ــ خمسون الف ؟! ثمنها نصف مليون !! .

ــ أعد لي النقود وخذ بندقيتك إذن !! .

قالت له بهدوء وحزم ، وهي تشعر بعينيه تطلقان نحوها نظرة حاقدة أدخلت بعض الخوف الى نفسها ، وفكرت أن تعيد له بندقيته وتستعيد نقودها ، ولكن هذا مضى في الزقاق ، ثم توقف بعد خطوتين وقال لها قبل أن تغلق الباب : ــ ياقحبة !! ياعالوسة !! .

** زمن **

أيقظه صراخ طائرة مرت على إرتفاع منخفض ، ثم دوي عدة إنفجارات في مكان ما من المدينة . كانت الساعة قد تعدت العاشرة صباحا كما قدر ، إذ لم يكن يمتلك ساعة .

بدأت الحرب إذن !! .

فكر وهو يرى معظم رفاقه في الخندق صاحين ، ربما منذ فترة طويلة ، وهم يتحدثون عن قصف بغداد منذ الفجر ، والهجوم الذي سبدأ من ألأراضي الكويتية ، بعد أن رفضت تركيا الهجوم عبر أراضيها . وكانت المذياعات تتناقل أخبار القصف الصاروخي بعيد المدى الذي يجري عبر كل الجهات المحيطة بالعراق .

ــ أين العرب ؟! .

تساءل مقاتل بصوت عال .

أجاب آخر :ــ باعونا !! باعونا ، فأنساهم !!.

أبعد ( زمن ) البطانية عن صدره وكتفيه . تأكد من وجود بندقيته ، وهو يرى ( ملاّ حمادي ) يعود راكضا مع بندقيته من ( الثالولة ) ، فيما مرت طائرات أمريكية أخرى خلفت وراءها مزيدا من ألإنفجارات وأشجار الدخان المتنامية في فضاء المدينة . وتمتم ( ملاّ حمادي ) كلمات ، غير مفهومة غاضبة تشبه الاعتذارات ، في غير أوانها ، وظلت عيون الجميع عالقة بجهات السماء ألأربع تنتظر غارة أخرى .

ــ كنت مع ( ألأرنبة ) يا ( ملاّ ) فباغتتنا طائرات الاعداء !! لاتنكر !! اذا حبلت بولد سمه ( خندق ) !! .

مازحه مقاتل .

عقب آخر ضاحكا : ــ واذا كانت بنتا فسمّها ( ثالثة ) !! .

وضحك الجميع حتى ( الملاّ ) ، الذي اقسم لهم انه ذهب لارسال أكبر الاولاد الى ( سوق الخضار ) ، وشعر ( زمن ) بالخجل من خوفه عندما لم ير خوفا على وجوه الرجال .

بدأت الحرب إذن !! .

لأول مرة يعيش ( زمن ) حربا ويعيها ، ولأول مرة يحمل سلاحا حقيقيا بين يديه ، وإن مازال لايعرف كيف يطلق النار ، ولا سأل أحدا أن يعلمه .وعندما فكر أنه قد يواجه الجنود ألأمريكان والبريطانيين قرر أن يسأل ( الملا ّ ) ليعلمه كيف يطلق النار .

لم تطلق الرشاشة الرباعية لمقاومة الطائرات أية طلقة . كانت تدور منذ الصباح حول نفسها بحثا عن هدف ، بحركة باعثة على الملل ، فيما المدينة التي آوت ( أربعين من ألأنبياء ) تتلقى قصفا مستمرا وتنزف أشجارا من الدخان والنيران نحو السماء الواسعة . ولم يتذكر ( زمن ) طعام الفطور حتى رأى ( العضباء ) قادمة مع إمرأة أخرى من جانب ( برج الثالولة ) ، الذي إقترح مقاتل ، وهو يسخر ، هدمه كيلا تظنه أمريكا موقعا ( لأسلحة التدمير الشامل ) فأضحك الكثيرين .

نفض ( زمن ) الغبار العالق ببطانيته كي لاتعنفه أمه عن إهمال أكيد ، ووقف على حافة الخندق ، وهو ينظر نحو الجهة الشرقية من المدينة ، التي قيل أن ألأمريكان وألأكراد قادمون منها ، ولكنه لم ير غير الغيوم العالية وضباب ألأفق البعيد وسحب الدخان التي غطت أجزاء كبيرة من المدينة ، وإلتفت نحو ( ملاّ حمادي ) لعل هذا يرشده إلى ما يستطيع فعله بعد الفطور ، ولكنه شعر بجسده يحلق عاليا في الفضاء ، فجأة ، مع إنفجار مرعب ، وماعاد يسمع شيئا .

** الثالولة **

رصفت ( العضباء ) ثلاث قطع من ( الكونكريت ) ، مجهولة المصدر ، وسط فسحة ألأرض المتروكة بين بيتها و ( برج الضغط العالي ) ، للطبخ عليها ، ورصفت ستا أخرى حولها من أجل الثرثرة مع بنتيها ، وبعض الجارات في أوقات الفراغ الكثيرة . وكانت إبنتها ( صمود ) ، ذات الثمانية عشر عاما ، ترضع طفلتها ( هجران ) من ثديها النحيل ، حتى أغفت هذه فأدخلتها ( التانكر ) ثم عادت لمساعدة امها في تقشير البطاطا ، قبل أن تشرق الشمس ، بينما ذهبت( عنود ) ، ذات الستة عشر عاما ، إلى شغلها في ( شركة كاشان ) بعد أن إلتهمت ، وعلى عجل ، شيئا من البطاطا المسلوقة مع الخبز وقدحين من الشاي ، ( مشغولة ألأفكار !! ) كما لاحظت ( العضباء ) بقلق .

: ـ ( الكاز ) سينفد غدا ً !! .

قالت ( العضباء ) لإبنتها بحزن بدا قدريا على وجهها المتخشب ألأسمر ، وكررت الجملة مرات ، كما ألأطفال الذين يتمرنون على حفظ نشيد مدرسي ، ولم تعلق ( صمود ) على كلامها ، لأنها تعرف أن أمها ستردد هذا ( النشيد ) ، لأيام أو أسابيع ، حتى تنال شيئا من النفط ألأبيض بأية طريقة .

( زمن ) في الخندق ، وعربة الشغل مربوطة بسلسلة فولاذية على جدار ( التانكر ) . هكذا تريد الحكومة ، وهكذا أرادت ( العضباء ) خوفا من الحكومة . كثيرون هربوا ، منذ اليوم ألأول لتجنيدهم ، من الخنادق التي إنتشرت حول المدينة ، غير مبالين ( بالشيخ بعيو ) ولا ( بالرؤوس الكبرة ) ألأخرى رغم التهديدات ( بحكم ألإعدام ) ، وصاروا مطلوبين رغم عذر ( لقمة العيش !! ) .

ولكن ( العضباء ) لم تشأ لوحيدها أن يخالط ( مطلوبين ) ، إعتادوا الفرار إلى ( وادي الحرامية ) ومخابئ البرية الغربية ، وأماكن أخرى ، لأنها تظن أنهم كانوا على إستعداد للزنى بعماتهم إذا إحتاجوا إمرأة ، وسرقة ماتمتلكه أمهاتهم إذا إحتاجوا شيئا من المال !! .

ألقى ( ملاّ حمادي ) عليهما تحية الصباح مستعجلا ، وأدى آذان الفجر بصوته الواهن المشروخ ، الذي يسرق نهايات الكلمات الطويلة فتتحول ( أكبر ) إلى ( أكبا ) و ( الفلاح ) إلى ( فلا ) ، على إنقطاع في النفس ، فلم تتردد ( العضباء ) في ممارسة عفويتها معه عندما نزل من الدرجات الثلاث التي إرتقاها على البرج ليؤذن ، إذ قالت له بود ّ : ــ يا أخي لماذا لاتترك هذه المهمة لغيرك ؟! .

: ـ لم يتطوع لها غيري يا ( أم زمن ) !! وصوتي ألآن هو ( ألأجمل !! ) في ( الثالولة ) .

أجاب ضاحكا .

عندئذ سألته ( العضباء ) غاضبة : ــ بربك الذي ناديت بإسمه قبل قليل ، هل يفهم ( زمن ) شيئا من القتال ؟! لم يمس بندقية في حياته !! يخاف من دم دجاجة !! ويبكي إذا جاع !! ويقول ( الشيخ قندرة عتيقة !! ) أنه ( رجل ) !! و ... !!

فقاطعها ( ملاّ حمادي ) ، وهو يهم بالإنصراف ، إذ كان قد سمع منها هذه الشكوى مالا يقل عن عشر مرات خلال اليومين الماضيين : ــ إتكلي على الله !! إتكلي على الله !! .

ولكن ( العضباء ) ألقت بيدها السليمة على كتفه وهي تتوسل : ــ شوف !! راتب المرحوم ماعاد يكفي بسبب الحصار . الحكومة أخذت زوجي ، وألآن تأخذ إبني الوحيد !! . كيف نأكل يا ( ملاّ ) ؟! . كلنا نساء !! ولا أم في الدنيا ترضى أن تشتغل إبنتها في نبش الزبالة وهي في سن الزواج !! لا أم في الدنيا لاتخاف على إبنها الوحيد من القتال !! والله ينهزم إذا نبح عليه كلب في الزقاق !! قل لهم ، ليعفونه من هذا الواجب !! .

عندئذ تملص هذا من قبضتها وهو يكرر آسفا : ــ أنا مثله ألآن يا أختي ( عبد مأمور ) !! ولاحول ولاقوة إلا بالله !!.

ثم مضى مستعجلا ، فعادت ( العضباء ) لمساعدة ( صمود ) في سلق مزيد من البطاطا وهي تردد مخاطبة نفسها بدهشة : ــ الخوف يصنع ألأعاجيب !! عبد مأمور !! عبد مأمور !! .

** كاشان **

حالما فرقعت مكبرة الصوت بآذان الفجر من برج ( الثالولة ) إستيقظت ( كاشان ) مثقلة بصداع ، لم يمنعها من تفقد أكياس النفايات ، التي هيأها ( البدراني ) ، حسب أصولها المعدنية ، لهذا اليوم . أنعشتها لذعة البرد فتمطت ، فيما كان الليل ينحسر عن زرقة داكنة ، ثم أيقظت البنات من ( دوخة الفساء !! ) ، كما إعتادت أن تقول لهن متأففة كل فجر ، وعادت إلى غرفتها .

أغلقت الباب بالمفتاح ، وأخرجت رزمة من النقود من مخبأ سري ، تحت فراشها ، مغطاة بأحذية عتيقة، لايثير مرآها ألإنتباه ، ثم عادت الى الحوش . كان محرك السيارة العتيقة ، التي تمتلكها ولا تعرف كيف تقودها على أمل أن تتعلم ذلك ذات يوم ، يشخر ويطلق أصواتا تشبه أصوات إطلاقات نارية ، بين فترة وأخرى !! وكان ذلك إشارة صوتية غير مخطط لها يعلم منها اهل ( الثالولة ) أن الخضار الطازجة ستصل المحلة بعد ساعتين أو ثلاث . أخذ ( البدراني ) رزمة النقود ومضى ، وهو يلعن ، كما إعتاد كل صباح ، ظاهرة الغش الذي ضرب كل شئ ، حتى وقود السيارت ، من جراء الحصار .

مع أوائل أشعة الفجر ، إجتمعت ( أصابع كاشان النظيفة ) ، أو ( شركة الشيطان ) ، كما يحلو لبعض الساخرين تسميتها ، في حوش البيت القديم بإنتظار توجيهات ( كاشان ) . تأكدت هذه من حضور الجميع ، ثم كررت ذات التعليمات التي كانوا يسمعونها كل صباح : النبش الجيد ، وألإنتباه والسرعة ، ثم ( توكلوا على الله ) .

وكما في كل يوم تأخرت مجاميع الفتيان بالانصراف ريثما تتقدمها مجاميع الفتيات ، ( لقياس ) مؤخراتهن بأنظارهم اللاهبة ، فتغاضت ( كاشان ) عن هذا ( ألإمتياز الخاص ) بهم دون فتيان المحلة .

عندما دخل ( المخضرم بن عمشة ) بسيارته الحوش ، راسما على شفتيه الدسمتين إبتسامته الشهوانية البلهاء ، وراح يزن النفايات ، طير لها بعض كلمات الغزل وهو يدفع لها ثمن كل شئ نقدا ، وقبل أن يهم بالذهاب قالت له بهدوء : ــ لدي شئ آخر !! .

أجرى فحصا عاجلا على البندقية ، التي ( إشترتها ليلة أمس ) ، ثم وضعها بسرعة تحت أكياس النفايات في حوض السيارة ، وعد على يدها رزما من النقود حتى أعلن : مائة وخمسين .

فأطلقت صرخة خافتة مستنكرة : ــ هل تنهبني ؟! لا ! يفتح الله عليك من غيري !! .

فأضاف خمسين ألفا أخرى وهو يقول لها جادا : ــ هذا ما أدفعه . وأنا سأبيعها لغيري ، فماذا أربح ؟! .

فأخذتها منه متظاهرة بالإمتعاض من ( خسارتها في هذه الصفقة !! ) ، ومضت قبل أن يسرف في الغزل اليومي نحو الدكان .

بعدما إختفى صوت سيارة ( المخضرم ) بقليل ، شعرت ( كاشان ) بأن ( الثالولة ) تهتز ثم تغرق في دوي إنفجار هائل ، لم تسمع مثله إلا في الحربين الماضيتين ، ثم أصوات طائرات تخطف نفسها في الفضاء . وعندما إلتقطت أنفاسها من رعب المفاجأة ، وهي تفكر بأن الحرب قد إبتدأت رغم دعوات وإبتهالات الناس كي لاتحصل ، غادرت الدكان بسرعة .

رأت سحابة من الدخان والنيران تنبعث من أعلى ( تل الهوى ) ، حيث موقع الرشاشة الرباعية لمقاومة الطائرات ، ولم تر من خندق ( الثالولة ) غير جسد رجل واحد ملقى عند منتصف السفح ، وشلت الحيرة والخوف حركتها في ما تفعله ، حتى فوجئت بصيحات الفتيان والفتيات في الحوش القديم ، والذين جاءوا راكضين للإطمئنان على ذويهم !! .

** البدراني **

مجد ( الثالولة ) أنها حي من صفيح وطين يحمي خارجين على القانون ، بالولادة ، والتوارث ، منذ ( ضايع عبد الموجود ) ، الذي نال لقب ( المؤسس ألآول ) وحتى آخر الغرباء الذين دفنتهم البلدية قبل أيام في مقبرة تتسع على كف ( وادي الحرامية ) وضفاف ( مزبلة الشيطان ) ، في جيرة حميمة تكرر نفسها بقبور جديدة ، تحفر أحيانا على قبور درستها مياه ألأمطار وأكوام الزبالة الطازجة على بقايا أكوام زبل نبشتها ( أصابع كاشان ) ، بسخاء ينحدر جنوبا حتى آخر الدنيا عبر البرية المفتوحة على كل التضاريس ، وكلمات ( السيد الرئيس ) وهو يلقي خطابا غاضبا ، أشعث الشعر ، بنظارة طبية سميكة ، يراها الشعب للمرة ألأولى ، في اليوم ألأول للحرب : ( فداكم وفدى أمتنا المجيدة ألأهل والولد !! ) ، وأي ولد ، يا سيدي ، وأي أهل ، وأية أمة !! زاغت المفردات عن معانيها منذ زمن بعيد ، وأنت لاتدري !! هذا زمن يخادع مقدساته من جراء الجوع و( مكارمك السخية للمقربين ) ، تمردت فيه الكلمات عن مألوف أيحاءاتها قبل أن تبدأ الحرب ، وانت تدري ولاتدري !! .

أعداؤك جاءوا مع أدلاء من بني جلدتك ، على ذات الجوع وذات المكارم ، وكأن التأريخ ينسخ نفسه منذ مئات السنين ، وأنت تدري ولاتدري !! كل إمرأة في ( الثالولة ) نافذة ، وكل رجل باب . و ( العضباء ) التي فقدت ( بابها ) في حرب مضت ، وضعت ولدها الوحيد بابا ، قبل ألآوان ، وهو هش طري ، من جراء الفقر في الحصار، والبعد عن دائرة ( المكارم الرئاسية ) ، وأنت تدري ولاتدري !! . بخمس طلقات سيحارب أعظم قوتين و أنت تدري بأنك تدري!! ، يبكي اذا جاع ، ويخاف من دم دجاجة !! وحرب ولدت من رحم غيرها ، وهذه حرب برائحة النفط جاءت ، وأنت تدري ، و لاتدري !! وحدها قوانين اللصوص صارت هي القانون ، وانت عالق وحدك بما تدري ولاتدري!! .

وكما للأحياء التي لم تجع في المدينة خنادق ، صار ( للثالولة ) خندقها المحسوب على الوطن وأنت تدري ، ولا تدري !! . يا لأبهتها ( الثالولة ) وهي تزهو ( بفم ضفدع ) يسخر من القادمين والذاهبين عنها وعنه !! السلاح مباح في أزقتها لأول مرة مذ تأسست في غفلة عن زمانها وزمان ( ألأمة المجيدة ) ، وأنت تدري ، ولا تدري !! لم ينل واحد من أبنائها هدية ولا وساما ولا مكرمة ولا ماء نظيفا ولاكهرباء ، ولا شارعا ، غير الخروج على القانون ، في أجنحة الجوع ، في ( وادي الحرامية ) و ( مزبلة الشيطان ) ، وأنت القائد وحدك لكل الحروب والمكرمات ؟!

وهاهي الحرب تمر على وجوه المارة كما يمر شحاذ أدمنته ألأرصفة في كل الفصول . وفي شجرة القصف ألأول ، تتنامى على ( تل الهوى ) ، تستظل ( الثالولة ) خوفها من هذه الحرب بمظلة الحروب التي صارت ( قديمة ! ) ، محروسة ( بسيد فولاذ !! ) شرقا و( مئذنة الضغط العالي !! ) غربا ، ومقبرة الغرباء و ( مزبلة الشيطان !! ) جنوبا ، وجهة الشمال مازالت للأفاعي والعقارب البرية !! وأنت يا سيدي ، تدري ولا تدري !! .

أعداؤك قادمون من بين بني أمتك ، وأنت ؟؟!! ، وللحرب أبهة شحاذ ألفناه منذ حروب ، لاجديد فيه غير زمانه وهو يتسول بين ساقي عاهرة تسميها أنت ( أمة ) ونسميها إمرأة غريبة الطباع إستمتعت بالإغتصاب فأدمنته !! حتى الشمس ، يا سيدي الرئيس ، شمس آذار تسرق نفسها من بين الغيوم ، التي ما أمطرت ، كانها تسخر منا هي ألأخرى !! ، على أوصاف طلقت معانيها ، منذ بدأ الحصار ، في سماء تخلت عنا ، ونحن نتظاهر بأننا ( لاندري !! ) ، مثلك ، من أجل لقمة طعام وقليل من الحرية غير مكسو بمحرمات ( الشيخ بعيو ) ، وانت تدري ، ولاتدري !! .

** الثالولة **

نثار الرشاشة الرباعية ، مع موقعها ، تجاوز خندق ( الثالولة ) حتى سفح ( تل الهوى ) ، حيث عثرت جموع الرجال مع قلة من النساء وألأطفال على جثامين ثلاثة جنود تمزقت جثثهم ببشاعة ، وأصيب رابع بجراح ، حملته ألأيادي العارية بحنان عبر ألأزقة بحثا عن سيارة تنقله الى أقرب المستشفيات .

لملم الرجال أشلاء الجنود على بطانياتهم ، وصرفوا النساء الفضوليات وألأطفال خوفا من قصف جديد ، وعندما تساءل أحدهم محتجا غاضبا : ــ حتى لم يطلقوا النار !! .

بدا السؤال غبيا على تعليق آخر : ــ إنها الحرب !! .

فتساءل ألأول : ــ ولكن أين ( الشيخ بعيو ) ؟! .

أجاب الثاني : ــ إختفى مع كثير من ( الرؤوس الكبيرة ) منذ يومين !! يقاتل ألآن مع زوجاته من مكان آخر ، وحده الله يعرفه !! .

مسح ألأول الفضاء بكفه ثم قال وهو يطلق ضحكة مبتورة ساخرة : ــ نحن بخير إذن !! .

وكانت ( العضباء ) تحتضن إبنها على سفح ( تل الهوى ) وهي تصرخ : ــ يابا !! يابا !! .

كأنها ماعادت تستطيع نطق غير هذه الكلمة ، فيما كان هذا يحاول التملص من ذراعها السليمة القوية التي أطبقت بها على ظهره ، وهو ينظر بخجل نحو مقاتلي الخندق و الرجال والنساء وألأطفال المحيطين به !! .

طلب ( ملاّ حمادي ) من الجميع أن يتفرقوا خوفا من غارة أخرى ، فتراخت يد ( العضباء ) عن ( زمن ) وهي ترى الناس تنصرف عائدة الى بيوتها بعد أن إطمأنت أن ( زمن ) قادر على الوقوف على قدميه ، وأنه لم يصب بغير كدمات وجراح صغيرة من جراء عصف ألإنفجار القريب ، ولكنها صرخت به غاضبة وهو يحاول العودة إلى الخندق : ــ إعطهم بندقيتهم !! ( بخيرهم ما خيرونا وبشرّهم تذكرونا !! ) ، إعطهم البندقية ، قلت لك !! .

فتلوى ( زمن ) من ألألم الذي بدأ يشعر به ساكتا ، وتدخل ( ملاّ حمادي ) قائلا لها : ــ توكلي على الله يا أختي !! توكلي على الله !! أنا لست الحكومة ، وأنا ( عبد مأمور ) !! فلا تورطيني ، أرجوك !! . لا أستطيع سحب بندقيته أي مقاتل!! ولكن فليأخذها معه ، وإذا سألوني عنه سأذكر أنه جريح !! .

: ــ إعطها إذن ( لشيخ قندرة ) !! .

صاحت ( العضباء ) غاضبة .

أجاب واحد من مقاتلي خندق ( الثالولة ) القريبين منهما : ــ وأين ( الشيخ ) ألآن يا ( أم زمن ) ؟! ركب ( هدايا السيد الرئيس ) وإختفى !! لا أحد في قصره ألآن غير حراس ألأثاث ، وقد ينكر هؤلاء إستلامهم للبندقية عندما تنتهي الحرب ، فيتورط إبنك بأموال الحكومة !! .

عندئذ بكت ( العضباء ) .

** العضباء **

جلس ( زمن ) متوجعا إلى جوارها على حافة الخندق . كان قلقا وخائفا كما طائر بري وضع توا في قفص . سقته هذه بعض الماء وطلبت منه أن يتبول ( ليتخلص من الخوف !! ) ، وشعر بالخجل ، للمرة الثانية ، في ذلك الصباح بعدما سمع كلمة ( الخوف ) الذي أقرت أمه أنه قد أصيب به بحضور رجال بدا أنهم غير خائفين . ثم إنحدر ببطء ، بعد أن وافق ( ملاّ حمادي ) على بقاء أمه في الخندق( بدلا عنه ) ريثما يرتاح في البيت .

وعندما إختفى إبنها خلف ( برج الثالولة ) ، مسحت ( العضباء ) دموعها التي بردت عن وجهها وقالت لأقرب المقاتلين مولولة مرعوبة : ــ كانت ساخنة !! وكفها مازالت تتحرك !! وظننتها ذراع ( زمن ) فجننت !! ماذا فعلتم بها ؟! .

وفهم هذا أنها تعني ذراع جندي إستشهد في موقع الرشاشة الرباعية ، سقطت بينها وبين إبنها لحظة ألقصف فقال لها مطمئنا : ــ وضعها ( الملاّ ) في الجامع .

وهمس ( ملاّ حمادي ) بنبرة عزائية : ــ لا حول ولا قوة الا بالله !! .

وهو يخرج من الخندق ، متأهبا ببندقيته ( المؤمّنة ) ، في وقفة تأهب عسكرية ، لملاقاة مجموعة من السيارات وصلت الطرف ألآخر من الخندق وترجلت منها مجموعة من الرجال ، معها آلات تصوير تلفزيونية ، فيما كانت المدينة تنفث المزيد من أشجار الدخان نحو السماء الرمادية ، فأمسكت ( العضباء ) بندقية ( زمن ) ونهضت عن ألأرض هي ألأخرى ، عندما إقترب منها رجل تقدم بقية الرجال ، بدا مستغربا وجودها في الخندق فبادره ( ملا ّ حمادي ) مفسرا : ــ تقف نيابة عن ولدها ( زمن ) الذي أصيب قبل قليل أثناء الغارة وذهب ليرتاح في البيت لأن إصابته ليست خطيرة .

قال هذا بفرح : ــ أنت على رأسي !! وسأنقل موقفك إلى أعلى القيادات !! .

وكانت كاميرا التلفزيون تصورها من كل الجهات ، وهي تتمتم إسمها الكامل قلقة ، رافعة البندقية إلى أعلى ، كما طلب منها أحد المصورين ، ولكنها رفعتها مقلوبة فصحح لها ( ملاّ حمادي ) الوضع المطلوب وهو يبتسم معتذرا من ( للرفيق المسؤول ) .

وعندما إبتعدت السيارات على وعد بمزيد من الرجال والعتاد ، قال ( ملاّ حمادي ) ( للعضباء ) مبتسما : ــ تعدل حظك يا ( أم زمن ) !! .

: ــ نعم والحمد لله !! نجا ( زمن ) من موت أكيد !! .

قالت وهي تجلس على حافة الخندق .

ضحك هذا من ( غبائها!! ): ــ أعني ، سيرفعون إسمك للقيادة ، وستنالين مكرمة سخية يا مخبولة !! هل فهمت ؟! صوروك !! وسيراك العراق كله هذا المساء في التلفزيون !! .

فنظرت نحوه ببلادة على فهم ( مكرمة ) إرتبطت ( بحظ !! ) كانت واثقة أنه ( على أسوأ مايكون !! ) مذ وعت هذه الدنيا ، ثم إنخرطت في نوبة بكاء وراحت تتمخط بين أصابعها وتمسح مخاطها بالتراب ، ولأنه لايستطيع إحتمال بكاء النساء الذي يستدرجه هو ألآخر الى البكاء ربّت ( ملاّ حمادي ) على ظهرها ، كما يفعل مع ألأطفال الموجوعين ، وطلب منها أن تذهب الى البيت ( حتى يتعافى ابنها !! ) ، ثم أعانها على النهوض ، وهي تردد : ــ كانت الذراع اليسرى !! عرفت ذلك من الساعة !! عقارب الساعة كانت تدور !! .

** البدراني **

مطفأة فوانيس النفط في ( الثالولة ) حسب تعليمات ( حرب النفط ) في زمن ( العواليس ) ، ويتخفى القمر بين الغيوم وأشجار الدخان ، كما عاشق ممنوع ، وتومض أقمار التجسس مؤكدة أن لا امان على ألأرض التي مازالت تشق أنوار بعض السيارات عليها الظلمة ، فتومض جوانب البيوت والمآذن وأكتاف أشجار الدخان المتنامية من ألأماكن المقصوفة توا ثم تغيب في ظلام فجيعتنا الجديدة .

بيض ( السيد الرئيس ) السجون فإسودت شوارعنا بالوجوه القلقة وألأسلحة المباحة ، وما زالت المعارك البرية عند أطراف ( أم قصر ) ، و( الكويت ) تبشر ( بالعهد الجديد ) القادم من أراضيها نحو العراق . ( بغداد ) تتعرض لسجادات من الصواريخ القادمة من الفضاءات العربية ، وترسل غابات من الحرائق والدخان نحو السماء ، و ( الصحّاف ) يصرّح : لن يخيفونا !! ومائة وستة عشر قتيلا ، وتسعة وخمسين جريحا مدنيا في ( البصرة ) صاروا مستهلا للعهد الجديد ، ومزيد من الطائرات والجنود والعتاد يحط في ( أربيل ) ، على ذات ألأجنحة بنكهة كردية .

مازال النفط سالما !! .

ومازالت فوانيسنا مطفأة !! .

( كاشان ) قلقة من شح الزبالة في ( وادي الحرامية ) ، وغاضبة لأن ( المخضرم ) يتواطأ مع الجميع !! غشها في ثمن البندقية المسروقة !! وربما هي بندقية ( أخو عرنه ) ، لا أحد يدري ، ولا أحد يريد أن يدري !! والعبرات تعميني على ( بغداد ) التي مازلت مطلوبا لها عن حماقة إطلاقتين طائشتين وعبور حدود دون إذن رسمي . خائف أنا على ( بغداد ) من بغداد !! .

موجع أنا على ( بغداد ) من ( بغداد ) إذ أشم رائحة جلدها يحترق ، وأنا في ( ثالولة الموصل ) !! .

خائفون يحرسون أنفسهم على ناصية ( تل الهوى ) وبقايا موقع الرشاشة الرباعية ، التي لم تعوض بأخرى ، و ( فم الضفدع ) مازال يسخر مما يجري !! جمرات سكائر زبائن مقهى ( أخو عرنه ) تتلاصف قرب ( سيد فولاذ ) ، وضريح ( النبي يونس ) يترنح على ( تل التوبة ) ومعه كل أضرحة ألأنبياء وألأولياء في المدينة التي ظللتها السحب وأصوات الطائرات المغيرة !! .

الشرطة اليمنية قتلت أربعة من أبناء ( ألأمة المجيدة ) ، التي إستغاث بها ( السيد الرئيس ) ، لأنهم تظاهروا ضد الحرب ، وجرحت العشرات ، برصاصها ( المجيد ) . كرّ وفرّ حول آبار النفط في ( البصرة ) . أودعت( الرؤوس الكبيرة ) عوائلها في قرى صارت ( عزيزة !! ) فجأة على حين حرب ، ووحدهم الفقراء ظلوا دروعا عند بوابات المدينة .

( روح بيهه وع الزلم خليهه !! ) .

يقول المغني .

قناة ( السويس ) مزدحمة بقوافل الغزاة ، وموانئ وبحار ( ألأمة المجيدة ) ملآنة بالجنود والعتاد من تخوم ( القاهرة ) حتى ميناء ( ألأحمدي ) بوابة ( العهد الجديد ) !! وزراء ( ألأمة المجيدة ) إجتمعوا مرة أخرى بعد أن قبضوا ثمن نفاقهم وأعلنوا أنهم ( ضد الحرب !! ) فيما بلدانهم تغص بالأمريكان والبريطانيين !! .

ياله من قرف يبعثه هذا الزيف !! .

يالها من أمة ذئاب تأكل جرحاها ونسميها ( مجيدة ) !! .

القتال في ( الناصرية ) ، وطلائع ألأمريكان في ( السليمانية ) و( أربيل ) ، و ( ملاّ حمادي ) مصرّ على أداء آذان صلاة العشاء من ( برج الضغط العالي ) ، وما من أحد ذهب إلى الصلاة عداه !! بنادق مقاتلينا جاهزة للقتال ، كل واحدة منها محشوة بخمس طلقات !! ولم يعد ( الشيخ بعيو ) ، ولاغيره ، بمزيد من العتاد والرجال !! وحتى المطر لم يسقط !! سقطت بدلا عنه منشورات أمريكية تبشر ( بالعهد الجديد ) وتدعو الجيش للإستسلام !! وحده مطر ( العهد الجديد ) مستمر على كل مكان في المدينة زارعا الحرائق وسحب الدخان وجثث عشرات ألأبرياء في قبور جديدة !!

نثرت الشرطة السودانية مخ طالب جامعي ، من أبناء هذه ( ألأمة المجيدة ) تظاهر مع آخرين ضد الحرب !! وما زالت آبار النفط بخير !! من يعلس من ألآن ؟! قمعت شرطة ( ألأمة المجيدة ) كل المظاهرات التي تدين حربا غير مشروعة ضد بلد من بلاد ( ألأمة المجيدة ) ، فيما تظاهرت كل شعوب ألأرض ضد الحرب ولم يقمعها أحد !! وحدها حملت تلك ( ألأمة المجيدة ) على عاراتها القديمة عارات جديدة !! .

** الثالولة **

إجتمعت ، عصرا ، ( وجوه ) ( الثالولة ) تحت ( برج الضغط العالي ) ، لمناقشة عدد كبير من القضايا التي إستجدت وبقيت بدون حل . وقد إستهل أكثرهم حبا لمتابعة ألأخبار عبر المذياع الجلسة بآخر تصريحات ( الصحاف ) عن الحرب ، وناظرها آخرون بواقع الحال الذي يؤكد أن طلائع ( مغول العصر !! ) تقترب من ( بغداد ) ، فلم يستطع أحد وصف الحال بأنه ( سئ !! ) ، كما تشير كل الوجوه ، ولا أحد تجرأ على وصفه ( جيدا !! ) كي لا تلاحقه صفة كذاب طوال عمره .

كانوا من الرجال الطاعنين في السن ، ممن مازالت روائح القرى النائية تنبعث من دشاديشهم ، ينصتون بأدب جم لمن هم أكبر سنا وينهضون للضيف ، أيا كان ، حتى لو إستعانوا بعصيهم ، أو أكتاف من يجاورهم ، للوقوف إحتراما للآخرين ، تأكيدا لمبدأ ( المجالس مدارس !! ) .

وكانت أعجل ، وأهم القضايا ، ذراع الشهيد ، التي عثرت عليها ( العضباء ) وهي تركض نحو إبنها المصاب على سفح ( تل الهوى ) ، بعد أن قصفت الطائرات ألأمريكية الرشاشة الرباعية ، فإستقرت ألآراء وبسرعة على دفنها في مكان معلوم من المقبرة ، ومعرفة لمن تعود من الشهداء الثلاثة ، للإتصال بذويه لاحقا كي يأخذوا ( أمانتهم ) من مقبرة ( الثالولة ) .

ولأن ( الحيّ أفرض من الميت ) فقد تم ألإتفاق على إعانة ( البرشه ) وأولادها الثلاثة ، مادامت ( الدقائق الخمس !! ) للحكومة لم تنته بعد فظل ( دليو ) في مكان ما ، وحده الله يدري به ، من جراء ( لسانه الطويل !! ) ، والبحث عن الواشي ، الذي خان ( الثالولة ) بواحد من أهلها ( أيا كان !! ) ، وتركت حرية ألإختيار لنوع المساعدات حسب إمكانيات العوائل ووفقا للحديث النبوي الشريف : ( تصدق ولو بشق تمرة ) .

وعندما فتح أحدهم مشكلة ( أخو عرنه ) ، الذي سرق ( عالوس ) بندقية الحكومة من مقهاه ، إنفتحت ألإجتهادات على تشكيك صريح من أحد العجائز بهذا ألإدعاء ، إذ سرد العجوز سجلا طويلا من إدعاءات سابقة لهذا الرجل ، مذ سكن ( الثالولة ) حتى هذه ألأيام ، فحصل خلاف حاد بين ( الوجهاء ) على صيغة المساعدة الممكنة ، مع أنها في النهاية تطوعية وغير ملزمة لمن لا يود المساعدة ، ثم إستقر ألأمر على تأجيل الموضوع ، لأن الحكومة لم تطالبه ببندقيتها بعد .

وخيم سكون ثقيل على الحضور عندما سمعوا قصفا قريبا ، وصل بعده ( ملاّ حمادي ) لأداء آذان العشاء . وبعد الصلاة الجماعية ، التي قاطعتها صرخات الطائرات المغيرة ، رغم كل الدعاءات وألإبتهالات التي كانوا يطلقونها ، سأل أكبرهم سنا ، وهو ينظف نظارته الطبية من الغبار بطرف دشداشته ، ( ملاّ حمادي ) عن ذراع الشهيد فلتفت هذا حوله مندهشا وهو يردد : ــ أعوذ بالله من الشيطان !! تركتها ملفوفة هنا !! .

ومسحت نظرات الحضور كل المكان دون أن يعثر عليها أحد ، لذا عاد العجوز يسأله : ــ إبني . هل أنت متأكد ؟!

أجاب ( ملاّ حمادي ) وهو يستعيذ بالله من الشيطان مرة أخرى : ــ والله ياعمي ، أنا متأكد !! غطيتها بقميص عتيق ثم طويت عليها جريدة ، ووضعتها هنا تماما !! وهذه بقعة دم منها تؤكد لك ما قلت !!.

** العضباء **

إستلقى ( زمن ) على فراشه في ( التانكر ) وحاول أن يغمض عينيه بعد أن عاد بعناء من الخندق ، ولكن ( هجران ) ، ابنة أخته ( صمود ) ، التي لم تكمل السنة ألأولى من عمرها بعد ، زحفت نحوه فلم يلاعبها كما إعتاد ، مع انه رغب بذلك ، إذ مازالت أطرافه كلها توجعه فضلا عن وجع الرضوض والكدمات التي راحت ( تشتعل !! ) فيه .

قال ( لصمود ) مستغربا : ــ مرت الطائرات . شعرت بها تمر . ولكن ألإنفجار حصل بعد ذهابها بعيدا في السماء !! كأنها تغدر هذه الطائرات !! تشعرين أنها مرت بسلام ، ثم .. !! يحصل الموت !! .

وكرّر وصف ماشعر به بطرق مختلفة ولعدة مرات ، عقبت ( صمود ) عليها بذات الجملة : ــالحمد لله على سلامتك !! .

دون أن ترفع عينيها عن قدر الغداء الموضوع على طباخ نفطي في الفسحة الفاصلة بين ( التانكر ) و ( برج الثالولة ) .

تساءلت ( العضباء ) حالما وصلت حاملة بندقية ( زمن ) وبطانيته : ــ هل بال ؟؟ .

أجابت ( صمود ) بدهشة : ــ نام ولم يبل !! .

رمت هذه ماتحمله على أرض ( التانكر ) وهي تقول بغضب : ــ يا جحشة !! سيمرض إذا ظلت الخوفة في بدنه ولم يتبولها !! .

ثم أيقظت إبنها وأجبرته على الذهاب إلى المبولة ، حيث تختلط ساقيتان صغيرتان لتصريف ماء الغسيل والبول معا من الزاوية البعيدة للبيت نحو منحدر الزقاق ، ومن ثم الى ( وادي الحرامية ) ، الذي تصب فيه كل سوائل ( الثالولة ) عبر ( مزبلة الشيطان ) .

وعندما عاد هذا مستاء ، سألته على الفور : ــ هل غسلت يديك ؟؟ .

فهز رأسه وكتفيه نافيا كما ألأطفال عندئذ قالت له غاضبة مرة أخرى : ــ صرت رجلا يا ( زمن ) ولاتعرف هذا !! ياخيبتي بك !! . يا خيبتي بخيمتي !! .

فعاد ممتعضا الى الفسحة وغسل يديه من ( ماء الوادي ) المحفوظ في قدر خاص هناك ، ثم إستلقى على فراشه دون أن يفهم سر ألإبتسامة التي إرتسمت على وجه أمه ، والتي تمتمت بحرارة ( الحمد لله !! ) ، بعد أن تأكدت من مشية ( زمن ) أنه لم يصب بأي كسر في عظامه .

وعندما زحفت ( هجران ) نحوه ثانية فاجأهها بنبحة قوية ، كما كلب غاضب ، فأجفلت الطفلة وبكت خوفا . قذفته ( العضباء ) بمخدة تحاشاها بمهارة ، متجاهلا شتائمها كالعادة ، ولكنها أجبرته على النباح ثانية كي تفهم الطفلة : ــ أنك تمزح معها !! وأن النباح لايخيف أحدا !! .

فنبح بطريقة أخرى ، عندئذ سخرت ( العضباء ) : ــ بهكذا ( رجال ) سنقاتل ألأمريكان !! .

حصلت إنفجارات في مكان قريب ، صاحت ( صمود ) على أثرها بصوت عال : ــ يما !! يما !! .

فركضت ( العضباء ) نحوها كالملدوغة وهي تصرخ بدورها : ــ إسم الله ! إسم الله !! مابك ؟! .

أجابت هذه بهدوء مندهشة من خوف أمها : ــ مابك أنت ؟! أردت ان أقول أن ( الكاز ) سينفد هذا اليوم !! .

عندئذ صرخت ( العضباء ) غاضبة : ــ عمى أمي !! يا جحشة !! فهمت ألآن لماذا طلقك زوجك !! فكرت أن القصف طالك !! عمى أمي !! ياجحشة !! .

ثم قلدت صوت ( صمود ) وهي تصرخ بطريقة مضحكة ( يمّي !! يمّي !! ) ، قبل أن تقول ( لزمن ) : ــ كتب علي ربي أن أركض وراءكم في ألأزقة وأنا خائفة محتارة بمعيشتكم !! وبدلا من النباح مثل الكلاب المرعوصة ، إذهب وإبحث لنا عن شئ من ( الكاز ) في محطات الوقود !! .

قفز هذا مسرورا ، كمن كان يتمنى تلك الفرصة منذ زمن بعيد ، لذا أعطته رزمة من النقود وهي توصيه هازة كتفه بقوة : ــ هذه من تعب ( عنود ) . هل تفهم ؟! تعبها في ( مزبلة الشيطان ) . كم بنتا في هذه المدينة تعمل في مزبلة لتعيش عائلتها ؟! طبعا أنت لاتدري !! ولكن ، إحذر أن تضيع النقود !! لا أمتلك غيرها !! وسأشعل ملابسك وقودا إذا ضيعتها !! أرني عرض كتفيك ألآن !! .

فأسرع هذا ووضع حاوية النفط الفارغة في حوض العربة الخشبية التي لم يستخدمها منذ أربعة أيام ، على غير ما إعتاده يوميا خلال السنتين الماضيتين ، فيما ( العضباء ) تراقبه وهي تسترسل في وصاياها اللانهائية : ــ عد قبل حلول الظلام . هل تفهم ؟! لا أظنك تفهم !! ولكن ؟! عد حالما تسمع آذان العصر . تذكر هذا !! .

ولم ينتظر بقية كلامها ، إذ إنطلق مسرعا ، كما طفل يمارس لعبته ألأثيرة ، فقالت ( العضباء ) ( لصمود ) بفرح : ــ شوفي ! ألم أقل لك أنه إذا بال فسيتخلص من الخوف ؟! .

** البدراني **

حوّم ( ألأحيمر ) قبيل ( ساعة الحساب ) أمام واجهة الدكان عارضا على ( كاشان ) إبتسامته البلهاء وكرشه المندلقة من دشداشته الضيقة العتيقة ، وإقترض ( كل ما إحتاجته العائلة من خضار ) ، وأذهلتني ألإبتسامة الطرية ( الواعدة ) التي طيّرتها له هذه في غفلة عني ، كما ظنت !! . كنت أعلم أنها لم تكن إمرأة لرجل واحد ، طوال عمرها ، من الحكايات التي تتناقلها ( الثالولة ) عنها ، ولكن ما أغاضني هو أن هذا بعمر إبنها لو رزقت بأولاد !! .

تشاغلت بوزن الجيف التي جلبتها مجاميع الفتيان والفتيات من ( وادي الحرامية ) ، وأنا أفكر ربما للمرة المائة بضرورة الخلاص مما أنا فيه . لم أكن مطمئنا بعد من عفو الحكومة عن المطلوبين بعدما حصل لصهري ( الرئيس ) اللذين عادا نادمين من ألأردن فتم قتلهما شر قتلة ، ولا ملجأ آمنا لي غير هذا المكان الذي إعتدته وأحببت ناسه البسطاء الذين يمقتون الوشاة أيا كانوا ولأي سبب كان .

فرزت النفايات حسب أصولها المعدنية ووزنتها ، بعد أن عزلت إطلاقات نارية كاملة ، من بينها بعض عتاد الرشاشة الرباعية ، ولا أدري كيف وصل ( مزبلة الشيطان ) . كنت غاضبا من كل شئ . بدت لي الخيانة وصفا يليق بنا وحدنا دون شعوب ألأرض .( كاشان ) خانت ، ثم تابت ، فخانت ثم تابت ، وتستعد للخيانة مرة أخرى ، تماما كما هؤلاء القادمين مع الدبابات ألأمريكية والبريطانية . عراقيون (؟! ) يستقوون بالاجانب على عراقيين ؟! ليست المرة ألأولى !! فعلها ( العلقمي ) قبلهم وفتح أبواب ( بغداد ) للمغول .

القتال يشتد على أطراف المدن ، من ( البصرة ) حتى مشارف ( بغداد ) ، وبوابة ألأكراد تستعد للإندلاق نحونا بقئ الحرب ، بعد بوابة ( الكويت ) ، و ( كاشان ) تدون في ذاكرتها العجيبة أرقام الجيف من حصاد ( أصابعها ) في ( مزبلة الشيطان ) ، والقتلى المدنيون يتناثرون على طاحونة الحرب وألفضائيات الدولية من أجل ( ديمقراطية نموذجية ) في العراق !! .

وقفت مجموعة من ( العواليس ) ، المطلوبين ، أمام الدكان . يحملون أسلحتهم ، ويتكلمون بأصوات كتمتها اللثامات التي غطت أجزاء كبيرة من ملامح وجوههم . إشتروا الكثير من السيكائر المهربة الرخيصة ، وتبادلوا مع ( كاشان ) الكثير من النكات ، بعضها كان بذيئا ولكنها تقبلته بسهولة على مشاعية مذهلة تخصها وحدها دون كل نساء المدينة .

شعرت بالقرف من كل شئ . كانت جميلة ، دون شك ، مع أنها تجاوزت الخمسين من العمر . نشطة كأية فتاة في العشرين من عمرها . تنغم آهاتها الجنسية بطريقة تبعث جنون الشبق في أبلد الرجال . وكانت تزداد شغفا لمغازلة أي رجل يعجبها كلما تقدمت في العمر كأنها في سباق في الزمن .

فجأة جاء مطلوبان يركضان من جهة ( سيد فولاذ ) . ( كبسة !! كبسة !! ) ، صاح أحدهما محذرا ، فإختفت المجموعة كلها في ظلام ( وادي الحرامية ) ، وأنا اركض خلفهم مثقلا بشعوري من عار الهزيمة من كل ( كبسة )، مذ أطلقت ذات يوم طلقتين طائشتين في مظاهرة لا أعرف عنها الكثير . لابد كانت ركضتي العرجاء مضحكة لمن يراني ، ولكن فلتضحك ( الثالولة ) كلها ، والعراق كله ، علي ّ على أن يضحك مني شرطي من رجال المفرزة يطاردني منذ أكثر من عشرة أعوام .

لبدت كما حيوان مطارد ، ألهث الى جوار كومة زبل ، وتركت جسدي يسترخي على نفايات المدينة التي أرسل الله لها ( أربعين نبيا ) . وشاء حسن حظي أن يكون الزبل قديما ، نبشته ( أصابع كاشان ) ، من كل رطوبة ، ولكنه ظل محتفظا برائحته الكريهة . تلاصفت أضواء البطاريات في أزقة ( الثالولة ) ، وجرح بعضها ظلام الليل في ( وادي الحرامية ) ، ثم إختفى .

ثمة إنفجارات بعضها بعيد وبعضها قريب . إنتفضت نفايات المدينة من تحتي مرات ، ثم أطبق سكون جائف ما بين غارتين ، على دبيب حشرات وفئران وحيوانات سائبة حتى قرقعت مكبرة الصوت بآذان الفجر الذي أطلقه ( ملاّ حمادي ) من مئذنة ( الضغط العالي ) .

** الثالولة **

في مقهى ( أخو عرنه ) المجاور ( لسيد فولاذ ) و ( قنطرة الحرية ) ، إعتاد الرجال ، ومن مختلف ألأعمار على لقاءات صباحية ومسائية حسب أوقات الفراغ التي طالت وتكررت مذ بدأت الحرب . كانت المقهى عبارة عن دكّتين طينيتين واطئتين مع بعض قطع الكونكريت ، تستخدمان لجلوس الزبائن ، يفصلهما ممر يتسع لمناضد ، قابلة للطي يأخذها صاحبها قبيل منتصف كل ليلة الى بيته خوفا من سرقتها ، وعندما بدأت الحرب وإزداد عدد الزبائن العاطلين عزز ( أخو عرنه ) مقهاه بعشرين حاوية صفيح ، مجهولة المصدر ، تستعمل عادة لحفظ الزيوت ، وترك للزبائن حرية نقلها في محيط المقهى لتبادل الثرثرات الطويلة عما يجري .

وبعد العفوالعام عن السجناء والمطلوبين ظهرت في المقهى وجوه جديدة من الرجال معظمها من الشبان الهاربين سابقا من الجيش ، عن عوز ضرب الجميع من جراء الحصار الدولي وهبوط قيمة الدينار ، وبدأ ( أخو عرنه ) يسمع في مقهاه عن عمليات تهريب لم تخطر له على بال عبر الحدود الدولية من والى الدول المحيطة بالعراق كلها وفقا لفرق ألآسعار في هذه الدول لذات البضاعات ، كما سمع عن مغامرات ، شبه خرافية ، لهؤلاء مع شرطة الحدود .

كان هؤلاء يوفرون كل شئ ممنوع بأسعار رخيصة ، لبضاعات أكثرها مزور ، من السيكائر حتى حبوب منع الحمل التي منعتها الحكومة ، والتي إشتهرت ( كاشان ) بتوفيرأنواع مختلفة منها للنساء بقروض ميسرة ، حتى ألأسلحة الشائعة والنادرة وألأدوية التي شحت في المشافي الحكومية ولكنها ظهرت على ألأرصفة في قلب المدينة والدكانين المغبرة في ألأزقة الشعبية .

ومع أن كثيرين من هؤلاء ( العواليس ) بدا نجما في عالم الممنوعات والتهريب ، على مراوغات فريدة الذكاء للحكومة وحرس الحدود لدول الجوار ، الذين تواطؤ بعضهم مع هؤلاء عن فقر مدقع ، إلا أن ( العضباء ) سرقت كل نجوميتهم هذا المساء عندما ظهرت فجاة في التلفزيون وهي تحمل بندقية إبنها ( زمن ) ، الذي صنفته (العواليس ) واحدا من ( دجاج الثالولة ) الذي حبسه ( الشيخ بعيو ) في( فم الضفدع ) ثم هرب مع عائلته إلى مكان بعيد عن القتال .

ظهرت ( العضباء ) في ألأحياء التي تتمتع بنعمة الكهرباء والتلفزيونات بوجه صارم متخشب ، زاد من شراسة مظهره أيحاء جرح قديم على جبهتها ظهر على شكل علامة ( صح !! ) التي يضعها المعلمون عادة على إجابات التلاميذ ألأذكياء ، فوق عينين سوداوين لامعتين وأنف ( يملأ الكف !! ) وقد إبتلعت شفتيها الرقيقتين أصلا فبدا فمها خطا قاتما في وجهها داكن السمرة يذكر المرء بفم ( هتلر ) ، وفي يدها بندقية كلاشينكوف فوهتها تهدد السماء بصرامة ، وخلفها ( ملاّ حمادي) بوجه يوحي بأنه كان قد بكى قبل قليل لسبب مازال مجهولا !! .

** العضباء **

لم تحيي ( العضباء ) أحدا من المقاتلين الذين إستغربوا عودتها إلى الخندق . جلست على الحافة الترابية ، تماما في المكان الذي إعتاد ( زمن ) الجلوس عليه خلال ألأيام التي أمضاها هنا ، و قالت لهم عندما سألوها عن سر عودتها : ــ لا أحد سيشفع لإبني من الحكومة عندما تنتهي الحرب إذا إتهمه أحدهم انه هرب من القتال !! .

وعندما مازحها أحدهم : ــ ماذا لو حصل علينا إنزال أمريكي ؟! هل تعرفين كيف تطلقين النار يا ( أم زمن ؟! ) أجابت بسلاطة اللسان المعروفة عنها : ــ والله إذا مت شهيدة فستستفيد عائلتي وينجو( زمن )من هذه الحرب ، وهذا المهم عندي !! وإذا لم أمت فسأضع هذه الطلقات ــ وضربت على جيبها حيث إحتفظت بالطلقات ــ في مؤخرة ( الشيخ بعيو ) !! .

فضحكوا ولكنها لم تضحك ، لأنها كانت غاضبة من نفسها التي أرسلت ( وحيدها ) نحو مدينة مازالت تتعرض للقصف ، وتمنت لو يعود ( زمن ) ألآن ، فورا ، وبلا وقود حتى ، بعد أن أدى ( ملاّ حمادي ) آذان الغروب .

( يكفي أن يعود سالما !! ) .

همست لنفسها وهي تبتهل لله بتمتمات لم يفهمها أحد .

كانت تراقب الطرق المؤدية إلى ( الثالولة )، وهي تنبش ألأرض بجذر نبتة يابسة وجدته في تراب الخندق ، فيما تتنامى أشجار دخان يخلفها القصف ، وتضمحل أشجار ، وثرثرة الرجال في الخندق عن نفاق الحكومات العربية تحولت إلى نكات بذيئة ، تحاشوا أن تسمعها . وعندما أعلن ( ملاّ حمادي ) ، بعد فترة ، أنه ذاهب لأداء آذان العشاء ، حملت البندقية وأعلنت أنها ذاهبة معه ، لتتأكد أن ( زمن ) قد عاد ، مفترضة أنها لم تره وهو يعود ، فإنحدرا من ( فم الضفدع ) دون أن يكترث لهما أحد من المقاتلين .

كانت ( صمود ) قد إنتهت من إعداد العشاء بآخر ماتبقى لديها من وقود ، و( عنود ) التي مازالت تنبعث منها رائحة ( مزبلة الشيطان ) تلاعب ( هجران ) ، وعندما سألتهما ( العضباء ) عن ( زمن ) أجابتا بدون مبالاة أنه لم يعد بعد ، فشتمتهما ، وذهبت مع البندقية ، بصحبة ( ملاّ حمادي ) الذي إنتهى لتوه من أداء ألآذان ، نحو مقهى (أخو عرنه ) . تحاشيا مجاري المياه القذرة في الزقاق ، وعندما وصلا المقهى سألت الرجال المتخفين في الظلام خلف جمرات سيكائرهم عما إذا شاهدوا ( زمن ) أم لا ، فلم يجبها أحد .

طرد ( ملاّ حمادي ) ولدين من أولاده كانا يتسكعان هناك ، وطلبت منه ( العضباء ) أن يأخذ البندقية لأنها قررت أن تبحث عن إبنها في المدينة ولكن هذا رفض ذلك : ــ هل تريدين كسر رقبتي يا أختي ؟! لست مخولا بسحب بندقية من مقاتل أثناء الحرب !! .

فهددت برميها في ( مزبلة الشيطان) ، ولكنه توسل بها ألا تحمله ( مثل هذه المسؤولية !! في هذه ألأيام !! ) : ــ أنا صاحب عائلة كبيرة يا أختي !! ولا أحد يعرف مالذي سيحصل في اللحظة القادمة !! أتركيها في بيتك !! .

فإقتنعت بالفكرة وطلبت منه أن يترك البندقية في بيتها ويخبر بنتيها أنها ذاهبة للبحث عن ( زمن ) .

وعندما مشت بخطوات ثابتة ومستعجلة نحو ( قنطرة الحرية ) المجاورة ( لسيد فولاذ ) ، ناداها شاب من (العواليس ) قائلا لها بتعاطف رجل شهم : ــ أنا آت معك ياعمتي !! لايمكن لإمرأة أن تذهب وحدها في مثل هذا الليل بدون رجل !! .

فوافقت بعد أن لاحظت أن وجهه ليس غريبا عليها . كانت قد راته يمر عدة مرات من قبل في زقاق ( برج الضغط العالي ) . أودع هذا بندقيته عند صديق له ( خوفا من مفارز الحكومة ) التي إنتشرت على كل الطرقات ، وتقدمها نحو حي ( الزنجيلي ) . بدت ألأزقة والشوارع كما أنفاق مظلمة تومض على جدرانها أضواء ألإنفجارات والحرائق وأضواء السيارات المسرعة ، وثمة عدد قليل جدا من المارة المستعجلين في العودة إلى بيوتهم .

** زمن **

بعد بحث ممل ومتعب في كل محطات الوقود ، من ( حي المأمون ) الى ( الموصل الجديدة ) ، ومن ( حي الشفاء) حتى ( الباب الجديد ) ، لم يحصل على غير إجابات كان على يقين أن أكثرها ( كاذب !! ) عن نفاد خزين الوقود المسبوقة دائما بكلمة ( والله !! ماكو!! ) التي صارت تستفزه ، مع أنه عرض أي سعر على الجميع مع غمزة تواطؤ على أمل الحصول ولو على غالون واحد ، ولكن ( ماكو!! ) ظلت تطارده من محطة إلى أخرى دون نتيجة .

إشترى لنفسه رغيفا من الخبز الساخن ، من فرن جازف صاحبه بالعمل تحت الخطوط البيض والسود التي كانت تخلفها الطائرات المغيرة على المدينة ، وراح يعلسه ببطء متلذذا بسخونته وهو يتأمل المياه القذرة في مجرى الشارع الذي لم تمر به مكانس البلدية منذ زمن بعيد ، بعد أن صارت الوظائف في زمن الحصار الدولي نوعا من الشتيمة أفقعها وظيفة ( كناّس !! ) .

وقبل أن يطلب الماء من عامل الفرن قدم له هذا طاسة ملآنة شربها مرة واحدة على نظرة تعاطف في عيني العامل الشاب ، الذي قدم له سيكارة رخيصة، وعندما رأى تخبطه في البحث عن نار ، أشعلها له ، دون أن ينطق بكلمة واحدة ، فشكره ( زمن ) وعاد الى عربته . دفعها دون هدف في ذهنه وهو يسعل دخان السيكارة ألأولى في حياته ، غير مبال بالمارة القليلين المسرعين من وإلى جهات ما .

وعندما وجد نفسه في حي فاره البيوت ، بنيت من صخور ( حلاّن !! ) فخمة ومرمر زاهي ألألوان على حدائق خضراء تنبعث منها روائح لذيذة ، خدّره شعوره ( بترف المكان !! ) فتمهل في سيره . مرت طائرة أمريكية من ( فوق رأسه !! ) فجلس على ألأرض فورا وهو يشعر بأنها ( أخذت روحه !! ) وهي ترعد في الفضاء البعيد بعد لمحة بصر ، ثم دوى إنفجار قريب . نهض باحثا عن المكان المقصوف ، ولكنه لم ير شيئا من خلف بيوت كلها مبني من طابقين . وكان الشارع مبلطا ، نظيفا على غير ماهي عليه الشوارع ألأخرى ، وخاليا من المارة .

بعد قصرين صدمته رائحة النفط فتوقف مذهولا . لم ير سيارة ولا بشرا يتحرك على طول الشارع الفاره . وحدها رائحة النفط ألأبيض كانت حية في أنفه من أقرب البيوت . وظل يتفحص كل شئ حوله حتى رأى خيطا رفيعا ينساب من مرآب القصر الذي وقف قرب بابه . مسّ السائل ثم شمّه . ( كاز !! ) . همس مندهشا . ( كاز !! ) . ردّد بفرح .

واجفل بشدة عندما توقفت إلى جواره سيارة فاخرة قال له الرجل الذي يقودها وهو يشير نحو القصر : ــ ذهبوا إلى قرى أقاربهم منذ الصباح . ولاتتعب نفسك بطرق الباب !! هل أنت من معارفهم ؟! .

هز ( زمن ) رأسه على الفور خوفا من أن يعده هذا لصا ، فغادر الرجل مسرعا بسيارته فيما إستمر خيط النفط ألأبيض في ألإنسياب مهدورا نحو مجرى الشارع من تحت حذاء ( زمن ) المهترئ .

** الثالولة **

عندما إلتأم عدد كبير من ( وجهاء الثالولة ) العجائز بوجوه متخشبة ، كالعادة ، في المقهى ، إستبشر ( أخو عرنه ) بحل لمشكلة بندقيته المسروقة ، لذا سارع بتقديم أقداح الشاي لهم ، وهو يكثر من كلمات الترحيب والمجاملات راسما على وجهه كآبة مع بحّة حزن في صوته لإستدرار عطفهم ( العاجل !! ) على مشكلته القادمة مع الحكومة .

ومن خلف المنضدة ، التي كان يصب الشاي عليها ، راح ينصت بإنتباه شديد ، على غير عادته ، إلى الحكايات التي جايلوها ، او جايلها آباؤهم ، عن العثمانيين والبريطانيين الذين إحتلوا العراق ثم ( هربوا من جحيمه !! ) ، وعن أيام المجاعات التي ضربت البلاد وغزوات الجراد لقراهم وغزوات العشائر لبعضها من جراء الجوع، حتى حرب ( الخميني ) وحرب الكويت فالحصار الدولي الذي ( سحق أجيال هذه ألأيام !! ) ، ثم ذهبوا مع حكاياتهم إلى السوق السوداء والتهريب والمهربين ، دون أن يتطرقوا لمشكلة ( أخو عرنه ) .

وكل تلك الحكايات ، تداخلت مشفرة ألأوصاف مع بعضها بتلقائية في الحوار ، تعتمد ذاكرة مشتركة لأماكن وحكايات مختلفة عن أمر نال ( الجميع !! ) بسوئه ، ولكنها بدت بدون روابط للشباّن غير أن ( يكفي المرء أن يتمتع بنعمة الحياة !! ) حتى لو كان في القرى التي مازالت تشرب من برك مياه ألأمطار ، وتنسلخ عن المدن كما جزر عائمة في بحر طين في كل شتاء ، أو على محيط من سراب ساخن وغبار تذروه أشهر الصيف في ألأفواه وألأنوف وألآذان .

ثم إنتقل الحوار ، في غفلة عن ( أخو عرنه ) ، إلى ذراع الشهيد ، التي سرقها حيوان سائب من ( برج الضغط العالي ) ، فتفجرت خلافات دينية حول إهمال ( ملا ّحمادي ) لها ، وفيما إذا أراد الله بذلك أن يعاقب الشهيد عن ذنب جناه من قبل أم لا ، فتبادل العجائز إتهامات لاذعة السخرية في عدم ( فهم الدين !! ) ، تحولت الى حد التراشق بتهمة الكفر وألإجتهاد في أمر مقدس بدون علم .

كانت الساعة قد تعدت التاسعة مساء ، على بضعة إنفجارات قريبة وبعيدة ، عندما وصل فتى صغير السن وطلب من وجهاء الثالولة ( التفضل لتناول العشاء ) ، عندئذ فهم ( أخو عرنه ) أنهم لم يجتمعوا في المقهى من اجل مشكلته كما خيل له وإنما لحضور هذه ( الدعوة !! )، لذا همس غاضبا ، حالما إبتعدوا يقودون بعضهم بعضا ، متوكئين على عصيهم أو أكتاف الفتيان الذين يرافقونهم : ــ عساكم لارجعتم !! .

فضحك بعض ( العواليس ) القريبين منه عندما سمعوه ، واغلبهم ممّن تخصصوا في تهريب السلاح وألأقمشة وألأدوية عبر الحدود ، والذين ماكانوا يستطيعون ألإبتعاد طويلا ، في مخابئهم البرية البعيدة عن رقابات الحكومة ، عن النساء ونكهة المدينة ، حتى لو كانت برائحة (مزبلة الشيطان ) ، وقادتهم غريزة المراوغة إلى مقهى ( أخو عرنه ) التي تؤمن لهم فرارا سهلا نحو الوديان والبراري كلما حصلت ( كبسة ) من ( كبسات ) الشرطة أو قوى ألأمن ألأخرى .

وضحك ( أخو عرنه ) ، متخليا عن وجه الكآبة الذي كان يرتديه قبل لحظات لعل ( الشيّاب ) يفتون له ببندقية تعوضه عن بندقية الحكومة التي سرقها منه ( إبن قحبة !! ) ، ثم قال ( للعواليس ) وهو يشير بكفة المبتلة بالشاي نحو الجهة التي غاب فيها الرجال العجائز : ــ حفّظوني العهدين العثماني والبريطاني والعهد الملكي وحربي أيران والكويت والحصار الدولي ، حتى هذه ألأيام !! .

ولكن احدا من سامعيه لم يضحك ، كما أراد ، لأنهم عادوا للإنشغال في السخرية من ( العضباء ) ، التي مرت قبل قليل بوجهها ( الهتلري ) باحثة عن إبنها الوحيد ، حيث نال الجرح الذي ختم جبينها بعلامة ( صح !! ) وأنفها الذي ( يملأ كفا !! ) ووجهها الذي ( شوته الظروف الجوية والفقر !! ) ، أكثر التعليقات سخرية وذهب بعضهم إلى القول : ــ أننا سنخسر الحرب لأن ( العضباء ) حملت السلاح في ( فم الضفدع ) !! .

وإرتدى ( أخو عرنه ) وجه الكآبة حالما رأى أول ثلاثة رجال عجائز يعودون من وليمة العشاء .

** كاشان **

رمت ( البدراني ) بنظرة حانقة ، عندما أخبرها وهو في غاية الحزن أنه فقد محفظته في ( مزبلة الشيطان ) أثناء هروبه من ( الكبسة ) وتخفيّه هناك ، خاصة وأن ( كبسة ) الحكومة بدت ( بلا معنى !! ) ، إذ لم يقبضوا على أحد ولا فتشوا أي مكان . كانت بطاقة هويته أهم مافي المحفظة قال لها غاضبا من نفسه ، ومع أنها تفهم معنى بطاقة هوية عند (البدراني ) على غير ماتعنيه بطاقات ألآخرين ، إلا أنها غضبت هي ألأخرى لأنه لايستطيع الذهاب ألآن إلى داخل المدينة للتسوق إلا إذا جازف بالقاء القبض عليه .

قالت له حانقة : ــ أنا ذاهبة إلى هناك ، لا أريد أن يراك في الوادي وانت تبحث عن شئ ما !! صاروا يشكون حتى بأمهاتهم !! .

ثم خرجت من الدكان وهي تشعل لنفسها سيكارة .

تبادلت ( أصابع كاشان ) شارات التحذير عندما رأت فتاة ( كاشان ) تنحدر من ( الثالولة ) الى ( وادي الحرامية ) . ثمة شجرة دخان عملاقة تطاولت من جنوب المدينة ، بعد سلسلة إنفجارات ، أهملتها هذه وهي تسلك ذات المسار الذي وصفه لها ( البدراني ) لطريق هروبه ليلة أمس ، ثم إنحرفت ، على فضول تلبسها ، نحو رجل محاط بمجموعة كبيرة من ألأطفال السائبين كالعادة في الوادي عند الطرف البعيد من المزبلة .

كان هذا يحفر بئرا ، نزل في حفرته حتى منتصف قامته ، بحثا عن ماء صالح للشرب بعدما توقف ضخ الماء في أنابيب المدينة نتيجة لإنقطاع التيار الكهربائي عن معظم ألأحياء المجاورة ، وكان وجهه يتفصد عرقا وثمة أسراب من الذباب تحوم حوله بالحاح ، وكلبان سائبان ربضا على مبعدة خطوات يراقبان ما يجري بقلق من حركات ألأطفال بشكل خاص .

قال هذا وهو يبتسم حالما رأى ( كاشان ) تقترب منه : ــ سأجده حتى لو حفرت إلى منتصف الكرة ألأرضية !! ولا بد أن يكون صالحا للشرب !! أنظري إلى الحظ الحسن !! تزداد الرطوبة هنا ويكاد الماء يتدفق !! .

وضغط بقدمه على حافة المجرفة المغروزة في التربة الرطبة ثم قذف التراب إلى خارج الحفرة بنشاط وزهو وهو يقول لها : ــ لا !! لاتذهبي يا ( كاشان ) !! يمكن وجهك ( الحلو !! ) فأل خير !! إنتظري قليلا !! وسترين كيف سيتدفق الماء ليرى وجهك الجميل !! .

وبعد مجرفتين قويتين تدفق مع الطين سائل أخضر غامق اللون ، كما السوائل التي تتدفق في بطون الجثث في أوائل تفسخها ، مع رائحة كريهة هبّت مع مرور المجرفة الثالثة ، فألقى الحفار نظرة بلهاء نحو ( كاشان ) ، التي وقفت صامتة واضعة كفا على خدها وكفا في جيبها ، بعد أن غمس إصبعه في السائل ثم شمه مرتين ( ليتأكد !! ) وأطلق قهقهة حادة ، وظل يقهقه حتى سالت الدموع من عينيه قبل أن يتمالك نفسه على دهشة ألأطفال منه وقال ( لكاشان ) ساخرا : ــ ألم أقل لك أن وجهك فأل خير ؟! هذا نفط !! نفط خام يا (كاشان ) !! .

ثم عاد يقهقه وهو يخرج من الحفرة ، فيما راح ألأطفال يشمّون رائحة النفط الخام بدهشة وذهول من عفونته الغريبة وثمنه الخرافي الذي سمعوا عنه كثيرا . أشعل الرجل لنفسه سيكارة ، و راح يردم الحفرة بخيبة أمل واضحة ، وشئ من الخجل من ( كاشان ) التي ضحكت قبل أن تتركه ، وفسّر الرجل ما يفعله للأطفال المندهشين: ــ إنه ملك الحكومة يا أولاد !! وإن لم أردمه فقد يحبسونني !! .

فألف هؤلاء أغنية راحوا يردّدونها وهم يعودون نحو ( الثالولة ): ــ ( وزير النفط ياعمّي !!

بتنكتين تزول همّي !!

ش نسمّي وش نسمّي !!

كاز الثالولة خلصان !! )

ولوح الرجل بمجرفته ، بشئ من المرح ، وهو يردد ألأغنية شاتما ( حظه السئ !! ) .

** زمن **

جلس يائسا ً على الرصيف المحاذي للقصر ، بعد أن طرق الباب مرات عدة ولم يفتحه أحد . كان يأمل في الحصول ولو على بضعة حفنات من ( الكاز ) من أجل الطبخ فقط . ولكن ؟! . تابعت نظراته خطوطا ً مستقيمة بيضاء خلفتها طائرات( العلوج ) وهو يفكر بعذر ما يقنع ( العضباء ) التي تشكك بقدراته على تنفيذ طلباتها دائما ً، ثم أطلق ساقيه للريح كالملسوع عندما قرقع الباب الفولاذي الضخم خلفه .

ظن أن الطائرات قصفت المكان !! .

ولكنه توقف لاهثا وسط الزقاق ، ليطمئن على عربته ، على مسافة لايدري كيف قطعها بهذه السرعة ، ثم عاد بخطى بطيئة خجولة نحو العجوز المندهشة من هروبه عندما فتحت الباب .

سألته بهدوء وبطء يمط ّ الحروف وهي تظلّل عينيها بكفها : ــ من أنت ؟! .

ولم يجد غير تمتمات لامعنى لها من شدة خجله ، ولكن هذه إلتقطت مفردة ( كاز ) ومفردة ( حفنة ) تلفظها ( زمن ) بعد مايشبه التأتاة فقالت له ببساطة صعقته فرحا : ــ إملأ حاويتك وعد إلى البيت بسرعة !! أنت من محلّتنا ؟! .

أجاب ( زمن ) : ــ لا ياجدتي !! أنا من ( الثالولة ) .

رددت العجوز : ــ ( الثالولة ) !! ( الثالولة ) !! .

كانها تحاول أن تتذكر أين يقع هذا الحي ، وهي تفسح له طريق الدخول نحو برميل ضخم ملآن بالنفط ألأبيض، نصب على حاملة فولاذية ( أنيقة !! ) في مرآب فخم ، بلاطاته الملونة الجميلة غاية في النظافة ، ولكن الشخص ألأخير الذي إكتال منه لم يقفل الصنبور جيدا !! ربما عن خوف أو عن عجلة !! فكر ( زمن ) وهو يضع حاويته ( متلذذا ) برائحة النفط ألأبيض الحريفة .

تساءلت العجوز بصوتها الواهن الذي يمط ّ الحروف : ــ يابا !! سمعت أنهم قصفوا محلتكم !!؟؟ .

أجاب ( زمن ) مذهولا مما يراه حوله : ــ أي نعم !! .

: ــ يابا !! . أنت جوعان ؟؟ .

سألته العجوز ، فلم يرد .

هز رأسه كما كان يفعل عندما كان طفلا يسأله الكبار هل يحب الحلوى أم لا ، فلم تنتظر العجوز إجابة مسموعة منه . دخلت القصر ثم عادت بعد فترة ، وهو يقفل الصنبور بإحكام ، وأعطته كيسا ثقيلا من ( النايلون ) شمّ منه رائحة اللحم والخبز ، فشكرها ودعا الله لها ( بطول العمر والصحة والخير الكثير !! ) ، كما علمته ( العضباء ) في مثل هذه ألأحوال ، فيما كانت هي تكرر عليه أن يعود إلى بيته ( بسرعة !! ) .

خرج مسرعا بعربته ، وقبل أن يصل نهاية الزقاق فتح الكيس فوجد فيه ثلاثة قطع من لحم الضأن وبصلتين خضراوين كبيرتين ورغيفين كبيرين من الخبز الطازج ، فإقتطع كسرة خبز لفّ في داخلها نتفة لحم وراح يلوكها ملتذذا وهو يكاد يركض دافعا العربة بفرح .

كانت أضواء السيارات المسرعة في الشوارع ترتمي كما عصي من نور ، يومض ثم يختفي ، على الجدران ، وتتقاطع مرات في الفضاء المظلم الواسع ، ولا أثر للنجوم ، وثمة مجموعات من المقاتلين على تقاطعات الطرق ، تتلاصف جمرات تبغهم ، فشعر بشئ من الطمأنينة على قلقه من قلة المارة والمحلات المقفلة على غير العادة مبكرا .

وفجأة دوى إنفجار قريب جدا فقرفص على الفور . ربما ضربوا بدالة ( أبو تمام ) القريبة . فكر . و نهض عندما تنامت شجرة دخان عملاقة من هناك ، خيم على تناميها السريع سكون مريب ، فعاد إلى عربته ، وأسرع بها وهو يلوك لقمته من جديد .

** الثالولة **

على اجنحة ( سيد فولاذ ) أشرطة نذور قديمة إهترأت وجديدة ما زالت ألونها زاهية ، ترفرف دون تناسق في نسائم الليل ، حيث إجتمع وجهاء ( الثالولة ) في ساعة متأخرة ، على غير عادتهم ، إذ كانوا ينامون قبل الحرب بعد أداء صلاة العشاء ، فإرتدى ( أخو عرنه ) وجه الحزن والكآبة وهو يبتهل إلى الله ( أن يهديهم !! ) في هذه المرة لحل ّ مشكلة البندقية المسروقة منه .

وعندما إستدار من الجهة ألأخرى للمقهى ليخدم مجموعة من ( العواليس ) وصلت توا من البرية مع رشاشاتها ولثاماتها ، وصلت مجموعة أخرى من جهة ثانية ، ثم وصلت مجموعة من الشبان بدت من سكان المدينة ، تحمل مسدساتها تحت ستراتها ، ففهم ( أخو عرنه ) أنهم سيعقدون ( صفقة ما !! ) تكثر خلال مناقشتها الطلبات على الشاي ، فإبتهج رغم قلقه من الرجال العجائز والقصف الذي لم يتوقف مذ بدأت الحرب .

إستهل أحد العجائز الكلام بنحنحة قصيرة وهو ينظف نظارته الطبية السميكة قائلا بعد إشارة خاطفة نحو( أخو عرنه ) : ــ إبن القحبة هذا ، الذي يخاف الشيطان من طوله وعرضه ، والذي تشبع عشرة كلاب سائبة من لحمه لمدة شهر ، ولو أنه وضع فانوسا على رأسه لأنار لنا المحلة كلها !! ترك بندقية الحكومة تضيع مع خمس طلقات !! ومن أين ؟! من المقهى !! وليس أغبى من هذا ( الطنطل !! ) غير من اعطاه بندقية وخمس طلقات ليقاتل بها ( مغول العصر ) كما يقول ( السيد الرئيس ) !! .

ثم أطلق ضحكة ساخرة فيما كان ( أخو عرنه ) يقف كما تلميذ صغير في حضرة معلمين قساة .

وسكت العجوز ريثما يفرغ الحضور من الضحك ، ثم إسترسل بعد سلسلة حادة من ألإنفجارات ، وهو يعبث بخرق صغير خلفته سيكارة مشتعلة في ردن دشداشته ذات يوم : ــ هذا مختصر حكاية ( عمود الكهرباء ) الواقف أمامنا ألآن !! .

ولأن الرجال العجائز ضحكوا فقد إطمئن ( أخو عرنه ) إلى أنهم سيساعدونه ، فجلب لهم أقداحا أخرى من الشاي وبسرعة . تمخط عجوز في منديله الزهري قبل أن يتساءل كمن تذكّر أمرا ما : ــ لماذا لانسأل ( كاشان ) عن بندقية الرجل ؟! كل الممنوعات والمسروقات تمر من تحت إبطها !! .

فناكده عجوز آخر قائلا بلهجة ذات مغزى : ــ يبدو أن عقلك في ( دكانها ) !! . ولفظ كلمة ( دكان ) بطريقة خاصة أضحكت الحضور ، عندئذ شعر ( أخو عرنه ) أن المزاح سيطول بين هؤلاء حتى آخر الليل ، ولكنهم سيبلغونه في النهاية بما إتفقوا عليه ، لذا إنصرف مسرعا ليلبيّ طلبات ( العواليس ) التي تراكمت .

** كاشان **

عندما ( قدحت !! ) في ذهنها فكرة وجود أطنان من النحاس في الخراطيش المهملة في الشوارع في هذه ألأيام ، أخذت نفسا عميقا مطمئنا على وجود إستثمار آخر( لأصابعها ) يعوض شحّ الزبالة في ( وادي الحرامية ) ، ولأنها تدري بأن هذا المشروع لايصلح لغير الفتيان ، بحثت في ذهنها عن عوائل معوزة لديها فتيان نشطين ، فإستثنت عائلة ( ملاّ حمادي ) ، مع أنها أكبر عائلة في الحيّ ، إذ ماكانت تستسيغ ألأحاديث المطعمة بالآيات القرآنية وألأحاديث النبوية التي إعتادها ( الملا ّ ) في كل أمر جاد ، كما أنه مازال يفكر على طريقة ( نائب ضابط !! ) في الجيش رغم تقاعده منذ زمن طويل ، كما إستثنت ( العضباء ) تحاشيا لسلاطة لسانها ، ثم إستقرت على ( البرشه ) وأولادها الثلاثة الذين إشتهروا بطيبتهم وسذاجتهم وحبهّم للسخرية والمزاح .

جمعت كل مالديها من خضار كاسدة من يوم أمس في كيس وقالت ( للبدراني ) المنبطح تحت السيارة مع عدد كبير من المفلاّت والمفكّات وألأسلاك : ــ انا ذاهبة الى ( البرشة ) .

فقال لها دون أن ترى وجهه : ــ خير إنشاء الله !! .

كانت قد لمحت في عينيه تعبا فسرته بالسهر مع نواحاته المستمرة على ( بغداد ) والمدن التي مازالت تتعرض للقصف ، وربما عن بطاقة هويته التي حاصره فقدانها في البيت خوفا من مفارز الحكومة ، ولكنها أهملت الموضوع إذ لاعلاقة لها بكل تلك الاسباب التي جعلته مطلوبا لحكومة ( يبكي عليها !! ) على غير ماتوقعته منه ، كما ملّت من ركضته العرجاء نحو مختلف الجهات كما قط ّ محاصر كلما حصلت ( كبسة ) على ( الثالولة ) يعود بعدها منهكا مشغول ألأفكار حاد المزاج .

إلتقاها رجل عجوز من وجهاء ( الثالولة ) متوكئا على عصاه فأشار لها ان تتوقف ريثما يتمخط في منديله الزهري ثم سألها دون مقدمات بفم رخو عن أسنان خربة : ــ يمّا !! . ألم تسمعي شيئا عن بندقية ( أخو عرنه ) ؟! . فضحكت بدلال إعتادته كلما حادثت رجلا لأول مرة في حياتها وأجابت : ــ بلى !! يقولون أنها وصلت ( بوش ) لأنها من ( اسلحة التدمير الشامل ) !! .

ثم تركته وهي تضحك على فم خرب ألأسنان ظل مفتوحا على سؤال آخر .

وكما هي العادة في ( الثالولة ) مذ تأسست ، دفعت باب ( البرشه ) الخارجي ودخلت الحوش ثم صاحت : ــ يا أهل البيت !!.

فإنفتح الباب الداخلي لواحدة من الغرفتين عن وجه ( ألأحيمر ) الذي قال باشّا على الفور : ــ ياهلا بأحلى سند !! . فأدهشتها نبرة الغزل الصريحة في كلامه ، ولكنها سألته عن أمه فتجاهل السؤال وأشار لها للدخول وهو يقول لها بحرارة لم تتوقعها منه : ــ حلمت بك ليلة أمس !! هل تصدقين ؟! .

وأخذ كيس الخضار من يدها متعمدا لمس كفها . ألقت في عينيه السوداوين الواسعتين نظرة مستفزة وهو يعاود لمس كفها وظلت ساكتة مذهولة من جرأته ، ولكنه فاجأها بذراعه وهي تحتضنها بقوة ، فحاولت التملص ، من نظرته الشبقة وهو يلهث مقبلا عنقها ثم حلمة أذنها فتراخت حركاتها المتمردة ، وسمعته يقفل الباب من الداخل قبل أن يطرحها على فراش ملقى على ألأرض المتربة ، فإستسلمت لوحشية الحرمان في جسده الفتي بسلاسة لم تتوقعها من نفسها ، شبه غائبة عن الوعي ، حتى سمعا صيحة في الحوش : ــ يا أهل الدار !! .

** زمن **

توقف ليمسح العرق الذي برد على جبينه في واحد من ألأزقة ألأخيرة ، في حي ( الزنجيلي ) ، قبيل ( قنطرة الحرية ) و ( سيد فولاذ ) ، ثم همس لنفسه بصوت مسموع : ــ يا ألله !! كما علمته ( العضباء ) كلما نوى على أمرما ، وهو يفكر بمواصلة دفع العربة الثقيلة التي اتعبته ، ولم ينتبه للرجل الذي إقترب منه من زقاق آخر حتى صاح هذا بفرح : ــ هيانو !! .

فأجفل ( زمن ) في اللحظة التي سمع فيها صوت امه وهي تتساءل : ــ يابا !! . تأخرت !! هل أنت بخير ؟! .

عندئذ شعر ( زمن ) بأنه ماعاد يقوى على دفع العربة فجلس على ألأرض وهو يمسح العرق عن جبينه من جديد ، فيما ركعت ( العضباء ) بحنان الى جواره وهي تولول واضعة رأسه بين ثدييها كأنها ترضعه : ــ عاب قلبي عليك !! لو لم تعد لجننت !! لعن الله النفط وأهل النفط !! ماذا أقول لربي لو حصل مكروه ؟! يابا !! . عمت عيني عليك !! .

ثم قبلت رأسه وكفه لتعتذر منه على طريقتها كلما ظنت أنها ألحقت به أذى ، وهزت الحاوية الثقيلة ، ثم شمت أصابعها وإلتمعت عيناها في الظلام وهي تتلمس الكيس متسائلة : ــ وماهذا ؟! .

أجاب ( زمن ) وهو ينظر نحو الشاب الذي كان يرافق (العضباء ) : ــ أكل .

وشعر برجفة في جسده على أثر نسمة هواء باردة مرت على قطرات العرق التي مازالت تنبثق من عنقه ووجهه فقال له امه : ــ تبول !! .

كان يعرف أنها ستلح عليه حتى يتبول ، لذا نهض وهو يتلفت بحيرة نحو كل الجهات شاعرا بالخجل من الشاب الغريب الذي كان يجرب تحريك العربة ، فقالت له ( العضباء ) شبه غاضبة من تردده : ــ تبول في أي مكان !! هنا !! مالك تتلفت ؟! تبول كي لاتمرض !! .

فتبول في مجرى الشارع ، ثم توقف عندما لمح أضواء سيارات تتلاصف على جدران البيوت القريبة ، وفر الشاب الغريب بسرعة نحو أقرب ألأزقة قبل ان تتوقف أول سيارة إلى جوارهما ونزل منها رجل يرتدي الملابس العسكرية مع بطارية ضوئية تساءل بهدوء : ــ ماذ تفعلان ؟! .

أجابت ( العضباء ) : ــ الذي تراه !! النفط !! .

وأشارت بيدها السليمة نحو العربة ، فعاد هذا يتساءل : ــ من كان معكما ؟! .

شعر ( زمن ) بالخطر ولكن ( العضباء ) اجابت بحكمة أعجبت إبنها : ــ شاب من أهل المنطقة عرض مساعدتنا ثم مضى !! .

ولكن الرجل الذي أطفأ ضوء بطاريته عاد يسألها بشئ من الغضب : ــ ولماذا هرب ؟! .

أجابت ( العضباء ) ببرود : ــ والله لا أعرف !! لماذا لاتلحق به وتسأله ؟! .

: ــ ماذا كان يحمل ؟.

: ــ مجرد يديه !! .

: ــ هل كان يحمل هاتفا نقالا أو سلاحا ؟ .

: ــ لا !! .

أجابت ( العضباء ) .

وعندما عاد هذا الى السيارة ومضى همست ( العضباء ) : ــ عمى ! الله ياخذكم !! .

** الثالولة **

على غير ما إعتادته ( الثالولة ) ، التي كانت تنام قبل التاسعة مساء في كل الفصول فتخيم عليها سكينة أموات تتجول في أزقتهم الكلاب والقطط السائبة والفئران ، ظل معظم أهلها ، حتى ألأطفال ، يسهرون مع المذاييع الصغيرة ، التي تعمل بالبطاريات ، لمتابعة أخبار الحرب حتى ساعات متأخرة من الليل ، لأن معظم الرجال فقدوا اعمالهم في سوق الخضار والملابس المستعملة والبناء وحتى تهريب الممنوعات التي توالدت من جراء الحصار الدولي .

كانوا يستشعرون القصف من بيوتهم على دوائر الحكومة وقصور (الرئيس ) والثكنات العسكرية شبه الفارغة من الجنود ، وكان ألألم يعتصر الجميع من جراء دمار الحرب الذي يرونه مرة أخرى بعد حربين مضتا ، وقل عدد المقاتلين في ( فم الضفدع ) لأسباب كثيرة على يأس من خمس طلقات وعتاد لم يأت ، وأخبار ( الرؤوس الكبيرة ) التي هربت عوائلها نحو القرى البعيدة عن القصف ، وأخبار الجيش ألأمريكي الذي يقترب من ( بغداد ) ، ويوشك على مهاجمة ( الموصل ) بالتعاون مع ألأكراد ، وكثر ( العواليس ) في مقهى ( أخو عرنه ) مع أسلحتهم ولثاماتهم التي لم يتخلوا عنها كضمانات لعدم كشف وجوههم لغيرهم من الناس .

شد نعيب بومة حاد أسماع زبائن ( أخو عرنه ) على صمت ثقيل حصل بين إنفجارين في عمق المدينة ، فأسرعت مجاميع ( العواليس ) في مغادرة المكان قبل أن تظهر أضواء ثلاث سيارات قادمة من جهة ( الزنجيلي ) ، وإقتربت واحدة منها من المقهى ، ضوؤها أعشى الرجال العجائز والصبيان الساهرين معهم لفترة قصيرة سمحت لمن فيها التعرف على وجوه الزبائن ثم عادت في الطريق الذي جاءت منه .

وفهم الزبائن أن نعيب البومة لم يكن سوى تقليدا متقنا من ( عالوس ) أنذر جماعته من ( كبسة ) محتملة ، لأن هؤلاء بدأوا يعودون من ( وادي الحرامية ) و ( تل العقارب ) بعد أن غادرت دورية الحكومة ، وعندما لمحوا ( العضباء ) تدفع العربة يتبعها إبنها ( زمن ) قرب ( قنطرة الحرية ) إنشدت ألأنظار نحوهما حتى وصلا ( سيد فولاذ ) فصاح أحد العجائز ساخرا : ــ يا هلا بنجمتنا !! يا هلا !! ألا تتزوجيني يا ( أم زمن ) ؟! .

أجابت ( العضباء ) دون أن تتوقف عن دفع العربة : ــ تزوجتك ( سليمة ) !! الله ياخذك !! من تتزوج ذكر بوم ؟!.

فضج رواد المقهى بالضحك .

** كاشان **

عندما سمعت ( البدراني ) ينادي على (أهل الدار ) ، وجدت نفسها تقفز عن ألأرض كالملدوغة وتتعثر بلباسها الداخلي وهي تحاول أن ترتديه على عجل ، فيما كان( ألأحيمر) يتعثر بحماقاته ، كأي جرو صغير محاصر ، متلعثما بتمتمات كلام وهو يرد ( للبدراني ) من الغرفة دون أن ينتبه لإشارتها له أن يسكت .

ومع أنها لم تتلعثم ، ولم تضطرب كثيرا ، كما يحصل عادة لمن يضبطن في مثل هذا الوضع عادة ، قدرما شعرت بالغضب وهي تغادر الغرفة النتنة وترى ( البدراني ) يقف مائلا على قدمه اليمنى ، كأي أعرج ، راسما على شفتيه إبتسامة لم تخل من تهكم واضح من ( شكه !! ) في تصابيها مع شاب بعمر إبنها ، لو كان لها أبناء ، لذا سألت ( البدراني ) بحدة دون أن تنظر في وجهه : ــ شكو ؟؟!! .

أجاب : ــ ( المخضرم ) يريدك وهو مستعجل .

مشت بخطى لزجة بطيئة ، وتركت لهذا أن يتجاوزها لتتخلص من شعورها بأن نظراته كانت ( تقص عظمها !! ) من الخلف، وهي تفكر أنه ( ربما !! ) لم يفطن الى ما كان يجري في غرفة ( ألأحيمر ) ، أو أنه فطن وتغاضى عما يجري خوفا من أن تفضح أمره ( كمطلوب للحكومة ) يعيش بهوية مزورة.

: ــ ها ؟! .

قالت ( للمخضرم ) حالما دخلت البيت ألآخر ، فمال رأس هذا نحو الجانبين ، كما إعتاد أن يفعل كلما أراد أن يستهل صفقة ما ، ثم أجاب هامسا : ــ بضاعة جديدة !! .

ونظر في عينيها كأي عاشق . وعندما إستبطأ جوابها أشار لها ان تتبعه إلى سيارته ، وفتح كيسا متوسط الحجم وهو يقول لها بحماس : ــ حبوب منع حمل جديدة !! صنف ممتاز ومجرب !! دواء ضغط دم !! من أشهر ألأدوية ، ولكن من أرخصها ألآن !! وهذا .. !! .

: ــ لا أريد كل هذا !!

قالت له متضايقة بحزم .

وعندما حاول ( المخضرم ) أن يشرح لها شيئا عن بضاعته الجديدة ، لمحت ( البدراني ) وقد إرتسمت على وجهه ذات النظرة المتهكمة الساخرة وهو يقف مائلا ، فقالت ( للمخضرم ) بحدة : ــ لا !! يعني لا !! يا أخي !! . وشددت نطق حروف ( أخي ) لتوحي ( للبدراني ) بأخوية علاقاتها مع كل الرجال عداه ، ولكنها شعرت بلذعة باردة بين فخذيها فقالت ( للمخضرم ) بجفاء :ــ مع السلامة !! . وقد قررت أن تغتسل بسرعة ، ولكن هذا قال لها مستسلما : ــ زين !! لاتنسي مشروع الخراطيش !! سألت أصدقائي فقالوا لي أن الفكرة جيدة !! .

ثم شغل سيارته ومضى مسرعا ليعبرعن غضبه منها .

** البدراني **

لا أدري ، هل أسخر من قدري ، فأعارضه بأخطاء أو خطايا ، جديدة ، أم أستسلم له ثانية وثالثة ورابعة عن عجز شعرت به يتملكني منذ ثماني سنوات، فأبقى مجرد إصبع من ( أصابع كاشان ) ، التي مازالت تنبش بقايا زبالة المدينة في ( وادي الحرامية ) منذ أكثر من عقد من سنوات ( الحصار الدولي ) القاسي ، كبرت خلاله ألأصابع ، فتيانا وفتيات ، فتزوج بعضها وأنجب ، وذهب آخرون جنودا مكلفين ثم فروا من الخدمة ، من جراء العوز وشحة رواتب الجيش ، فصاروا ( جبناء ومتخاذلين !! ) عن خدمة الوطن تطاردهم ( الكبسات ) أينما حلوا ، وإنكبس بعضهم في السجون ، لأسباب شتى ، فيما ينتظر البعض ألآخر مناسبة وطنية يصحبها عفو عن السجناء ، كالعادة ، أو مرحمة تقلل من فترات حكمهم !! .

سؤال قديم تأبى ذاكرتي الخلاص منه ، كلما فطنت لحالي هنا في أواخر الليل وحيدا ، في الثالثة وألأربعين ، على فراش تفوح منه رائحة ( مزبلة الشيطان ) ، عازبا ، تثير عزوبيتي في نساء ( الثالولة ) شكوكا على ( خلل ما ) ، لا وجود له ، يمنعني من الزواج كما يفعل الفتيان ، من نصف عمري ، وربما من جراء خطيئة بدأت مذ تعسرت أمي بولادتي وكادت تموت من جراء مجيئي إلى هذه الدنيا في قرية لايعرف أطباؤها غير ألأعشاب البرية والتعاويذ !! .

وصدقت تنبؤات النساء العجائز فيّ ، عندما قلن لأمي ( ألا ترجو مني شيئا إذا كبرت !! ) ، إذ حتى وأنا في أبهى حالاتي ، وأكثرها فرادة وتميزا في قريتي وكل القرى المجاورة ، عندما أعود من ( بغداد ) بزي طالب جامعي ، كنت أشبه ببالوعة للنقود وأكياس الطعام ، والسيكائر الرخيصة وبعض قناني البيرة التي ذقتها في أتعس بارات العاصمة وأرخصها كلفة مع طلاب آخرين ، فمضت سنوات دراستي الجامعية كما ومضة نور في ليل طويل عدت بعده الى القرية ذات يوم حاملا صفة ( خريج جامعة !! ) ، ومنها الى الخدمة العسكرية بصفة ( نائب عريف مهذب ) !! صرت بالوعة للمصروفات أثناءها أيضا ، ثم رحلة إنتظار التعيينات التي طالت ، وثقلت ، وأنا مجرد تلك البالوعة تلتهم أفضل ما تمتلكه العائلة التي مازالت تأمل مني شيئا عندما أنال الوظيفة !! .

ثم عندما نلتها بعد ثلاث سنوات من البطالة وألإنتظار المر بعد حفلة تخرجي . تلك الحفلة التي حضرتها الغجريات فتفجر إطلاق الرصاص إبتهاجا برقصهن المثير فقتلت إمرأة من المتفرجين وأصيب طفلان بجراح ظلا يعانيان منها حتى بعد أن نلت وظيفتي التي أرخت على تأريخ يوم مأساوي آخر ، إذ ماتت أمي قبل أن أستلم راتبي ألأول ، وكانت قد تمنت أن تأكل من ( تعب كتفيّ !! ) قبل أن تموت ، ولكنها ماتت قبل أن تنال مثل هذا الترف!! .

وعندما عادوا بجثة اللواء الركن( محمد مظلوم)، الذي يجاور بيته المدرسة التي أدرّس فيها ، ويالها من مفارقة على إسمه ألأخير ، وقد مزقتها كلاب (السيد الرئيس ) الجائعة لإلتهام ( تهمة المؤامرة ) من جسده ، أطلقت كما غيري ، عند قبره المفتوح ، طلقتين طائشتين ، وكما جرت العادة في دفنات كل الرجال في المنطقة ، فتحولت بعدها من مدرس محترم إلى ( مطلوب للحكومة ) !! .

ثم زدت الطين بلة آسنة بمغامرة أخرى ، نلت عنها ولابد تهمة لا أكبر منها : التعامل مع جهات معادية في شمال البلاد الفالت عن سيطرة العاصمة ، وعبور الحدود دون إذن رسمي من الحكومة ، وربما غير ذلك مما لا أتذكره ألآن !! وها أنذا تملأ أذني صراخات الطائرات ألأمريكية تأكيدا ( لإهانتي !! ) التي طال أمدها في الوطن الذي ماعاد لي مذ تلكما الطلقتين ، مع أنني أسكن ( الثالولة ) على أحزاني التي أدمنتني قبل أن أدمنها مطاردا بهذا القدر العجيب !! .

** الثالولة **

حوّر ( العواليس ) أغنية أطفال ( الثالولة ) عن نفط الوقود المفقود إلى : ( أخو عرنه ياعمّي !! بشايين تزوّل همّي !! ش نسمّي وش نسمّي ؟! عتاد الثالولة خلصان !! ) ، وراحوا يقهقهون ، في المقهى ، في ذلك المساء ، (كأن لاحربا تجري في البلد !! ) ، كما ردد ّ أحد الرجال العجائز مستغربا ،على إستياء بعض كبار السن من هؤلاء الشبان ، غير المبالين ، الذين كانوا يعرفون بعضهم ، و( لا يعرفون أحدا منهم !! ) ، في آن .

ونهض واحد من ( العواليس ) فجأة وراح يرقص وهو يردد أغنية أخرى قالها ألأطفال قبل أربعة عشرعاما ، ربما كان هو أحد مؤلفيها : ( هذا بعيو شيخ الخره !! لوتي وأجبن من مره !! ) ، فيما رفاقه يرددون خلفه بحماس ( شيخ الخره !! ) و ( من مره !! ) تعزيزا للأهزوجة التي أطلق واحد منهم بعدها النار نحو قصر ( الشيخ بعيو ) ، إستفزازا مقصودا لحراس ألأثاث الذين تركهم الشيخ هناك .

همس عجوز شبه أعمى ، للعجوز الذي يجاوره ساخرا مما يسمعه ويراه : ( عجايا والدنيا عيد ) !! . فهز هذا رأسه ، ولكنه لم يتوقف عن الضحك ، إذ تذكر مناسبة ألأهزوجة التي كان أحد شهودها ورأى دشداشة ( الشيخ بعيو) ، الثمينة ، ناصعة البياض ، ملطخة بخراء واحد من ألأطفال في زقاق( كاشان ) ، قبل حرب الكويت ، ثم قال لصاحبه وهو يمسح بعض دموع الضحك عن عينيه : ــ غدّار هذا الزمان !! .

وحصلت غارة جوية على مكان ما وسط المدينة ، إهتزت ألأرض بعده لثوان ثم هدأت ، وعاد ( ألأحيمر ) ، بعد التاسعة ، من المدينة يدفع عربة ( العضباء ) ، التي إستعارها ، ملآنة بأربعة أكياس ، لم يسأل أحد عن محتواها ، ولكن عجوزا ناداه عن بعد وسأله عن أبيه ( دليو ) فأجاب هذا ساخرا كعادته : ــ مازال يأكل من خبز الحكومة !! .

ثم مضى مسرعا ، مع كرشه ، شاكرا دعوة العجوز لشرب قدح من الشاي .

لم يشفع أحد من ( ألأنبياء ألأربعين !! ) للمدينة من غارة أخرى ، ولا الرشاشات الرباعية والثنائية المقاومة للطائرات ، ولاحتى صواريخ أرض ــ جو التي ( إنتحرت !! ) في الفضاء على فشلها من إصابة أهدافها القادمة من فضاءات دول الجوار العربي ( !! ) نحو ( الموصل ) التي مازال أهلها يعتزون بالعرب ممن تظاهروا ، رغم حكوماتهم ، حبا بها وبأهلها العرب ، ولم تنفع الدعاءات كي تتوقف القذائف عن حصاد أرواح مئات ألأبرياء المدنيين !! .

وفجأة راح أحد المطلوبين يغني بصوت رخيم : ــ ( البارحه !! البارحه !! بالحلم شابك الغالي !! حاضن الغالي !! وك صحيت !! وك صحيت لنّا الحضن خالي !! لنّا الحضن خالي !! يابا ، يا ياباه !! ) .

ثم سكت بعد أن أطلق آهة توجع حارة .

** العضباء **

كلما صرخت صافرات ألإنذار فزت ( العضباء ) من نومها رعبا من غارة جديدة على ذكرى الغارة التي رأت من جرائها ذراعا آدمية مبتورة ، كفها مازال ينبض ببقايا الحياة ، على ( تل الهوى ) ، مع أن صافرات ألإنذار فقدت معناها منذ أيام ، إذ تبين أنها لاتنفع في صد غارات ألأمريكان التي لم تتوقف قط مذ بدأت الحرب . عاد زمن ، كما طلبت منه أمه ، إلى ( خندق الثالولة ) ، منذ ليلة أمس ، كي لا تؤاخذه الحكومة بعد الحرب بأية تهمة ، ولم يعد ( الشيخ بعيو ) إلى قصره بعد .

طائرات وصواريخ ألأمريكان قادمة ، ذاهبة ، في فضاء المدينة ، كما أسراب من غربان تحوم حول جثث ، وماعادت ( العضباء ) تستطيع العودة لنوم على أنين الطفلة ( هجران ) ، التي أصيبت بإسهال حاد ، ولم تنفع لأيقافه التعاويذ التي جلبتها ( البرشه ) ، ولا مساحيق العطارين من ألأعشاب البرية التي إشترتها ، بالقرض ، من دكان ( كاشان ) !! . كانت قد نصحت أمها ( أن تفطمها مادامت الحرب قد بدأت !! ) ، لأن الطفلة ترضع ألآن ( حليب الخوف !! ) الضار ، ولكن هذه ، كما كل أمهات هذا الزمان ، لم تطعها ولم تبال بنصائحها .

كما حصل مالم تتوقعه ( العضباء ) قط من قبل : ــ الحب !! . الحب الذي أصاب ( عنود ) دون إنذار !! وأي حب ؟! حب في هذا الزمان الذي تخلى فيه ألأخ عن أخيه من جراء قسوة الحصار الدولي الذي توجته هذه الحرب بأثقل الهموم !! .

كان هو نفسه ( العالوس ) الذي تطوع بالذهاب معها ليلا للبحث عن ( زمن ) ، الذي تأخر في رحلة البحث عن نفط للوقود !! . فهمت ( العضباء ) ، متأخرة ، هذه الحقيقة ، بعد زادت تحياته حرارة وهو يمر كما عنز ضالة في الزقاق أكثر من عشرين مرة في اليوم ، ولم تعرف ( أية ريح قذفت به ؟! ) على إبنتها ، التي مازالت طفلة ، تنبعث منها رائحة ( مزبلة الشيطان ) ، وهي تسألها عن رأيها بهذا الشاب : ( عباس ) !! . ولا تدري ( العضباء ) كيف عرفت ( عنود ) إسمه !! فسكتت مغتاضة مساء أمس ، ونامت مهمومة . ماذا تقول في ( حب !؟ ) طفلة ، تنبعث منها رائحة ( وادي الحرامية )، في الحرب ؟! .

أنصتت لخطوات ( ملاّ حمادي ) وهو يقترب من ( مئذنة الضغط العالي ) . تنحنح كعادته قبل أن يؤذن ، ليعطي صوته بعض ( الصفاء !! ) المفقود ، ربما من جراء شبه الجوع الذي جرد بدنه كله من أي مظهر من مظاهر العافية ، وربما من جراء هموم ( أكبر عائلة ) في ( الثالولة ) التي عاشت الحصار الدولي وتعيش الحرب ألآن !! ورددت كلمات ألآذان معه وهي تبتهل لله أن تتوقف الحرب ، وتشفى حفيدتها ، ويعم السلام على البشر ، ويشبع الجياع !! .

وعندما إنتهى ( الملا ّ ) من آخر كلمات ألآذان ، تقلبت ( عنود ) في فراشها ، إستعدادا للنهوض والذهاب الى (مزبلة الشيطان ) ، التي ماعادت البلدية ترفدها بمزيد من الزبل الطازج منذ عدة أيام ، فدار همس بين ( أصابع كاشان ) عن بطالة قادمة ، و( إنقطاع رزق !! ) في غير أوانه .

للحظات بدا ( للعضباء ) أن ( عنود ) صارت تمتلك ( جسد إمرأة !! )، بنهدين وردفين ممتلئتين ، ( نضجت قبل ألأوان !! ) ، دون أن تنتبه لذك من قبل ، ولكنها عادت تراها مجرد طفلة وهي تذهب لغسل وجهها من مياه الوادي المحفوظ في سطل كبير عند الباب دون أن تلقي عليها تحية الصباح كما علمتها عشرات المرات !! .

وعادت حفيدتها تئن متوجعة ، فيما أمها ( صمود ) غارقة في نوم ثقيل ، وثمة إنفجارات بعيدة على أكثر من جهة في المدينة .

** البدراني **

خلت بناية محافظة ( ألأنبار ) ، في مدينة ( الرمادي ) ، من الحكومة ثلاثة أيام ، وإختفى المحافظ ومعه كثير من ( الرؤوس الكبيرة ) ، رعبا من المتظاهرين بعد دفن ( محمد مظلوم ) الذي أكلته كلاب ( السيد الرئيس ) ، ثم عادت الحكومة مدججة بالحرس الجمهوري وعناصر جهاز ألأمن الخاص وطوقت المدينة بحثا عمّن تمردوا إحتجاجا على ماجرى للرجل .

كنت في قريتي ، لمناسبة عطلة نهاية ألأسبوع ، التي صادفت بعد وفاة والدتي بأسبوع ، عندما مر هاربون من ( الرمادي ) وأخبروني أنني صرت ( مطلوبا !! )، وبالإسم ، مثلهم ، وأن علي ألآن أن أفر معهم الى أي مكان ، أو أن أختار المكان الذي أهرب إليه بسرعة قبل أن تداهمني مفارز جهاز ألأمن الخاص المعروفة بقسوتها وشراستها.

رزمت بنطلونين ، وقميصين وسترة ، في أقرب حقيبة صادفتني في البيت . قبلت أخويّ ، وسألني أكبرهم حزينا آسفا وفي عينيه نظرات ملامة واضحة كتمها بأدب : ــ إلى أين ستهرب ؟ جماعتك يمكن هربوا إلى بساتين ( ديالى )؟! .

أجبت صادقا في حيرتي : ــ لا أدري !! ولكنني سأرسل لكم خبرا من المكان الذي سأصله !! .

وأخذت معي معظم ماكنا نتملكه من نقود قبل أن أركب خلف أخي الأصغر على دراجته النارية التي أوصلتني إلى مرآب المدينة ، حيث إستأجرت سيارة أخذتني إلى مدينة ( بيجي ) ، أخبرت سائقها ، للتضليل ، أنني ذاهب الى ( كركوك ) ، ومن ( بيجي ) أخذت سيارة ، مع مجموعة من المسافرين ، إلى (الموصل) ، التي أراها للمرة ألأولى في حياتي .

أمضيت نهاري نائما في فندق شعبي قديم في شارع ( حلب ) ، تكاد بنايته تنهار على فيه ، ومرحاضه عام للنزلاء وأصحاب المحلات التجارية الواقعة تحته ، ولبعض المارة ، في آن ، من بين أسراب ذباب وصراصير بدت ( أليفة !! ) في ذلك الفندق العجيب المسكون بزبائن لاتبعث وجوههم على الطمأنينة . وكنت مثقلا بسؤال كبير ، على سرير غاية في القذارة : إلى أين ؟! .

إخترت مطعما ، يشبه نفقا ، أدرت ظهري نحو واجهته الزجاجية المتسخة ، وأنا أطلب طعاما للعشاء ، على جوع لم يكن جوعا مصحوبا بشهية للطعام ، إذ مازلت مسكونا بذات السؤال دون إجابة تطمئن لها نفسي غير جهة (الشمال )، الذي أفلت صدفة من قبضة الحكومة من جراء حرب الكويت ، والمنطقة المحمية لخط ( 36 ) بأمر من أمريكا وبريطانيا ، كما هي صدفة حالة تمردي ( المسلح !! ) على الحكومة التي صرت ( مطلوبا !! ) لها دون تخطيط مني ولا منها .

غادرت الفندق منذ الفجر نحو مرآب ( الشمال ) في ( الساحل ألأيسر ) ، من ثاني أكبر مدن العراق بعد ( بغداد ) . مرت السيارة من فوق نهر( دجلة ) وشممت رائحة الماء . أخذت نفسا عميقا منه كأني أودعه أو أستقبله كما نفعل مع عزيز . ثم رأيت منارة ضريح ( النبي يونس ) ، الذي إعتلى ( تل التوبة ) بهيبة الساعات الفاصلة بين أواخر الليل ونهار مجهول ، فطلبت من الله ( أن ينجّيني !! ) ، كما نجّاه من بطن الحوت ، وكما نجّى ( النبي موسى ) من البحر ، لأصل مكانا آمنا أستقر فيه ريثما أجد حلا ّ لحماقتي وسوء حظي !! .

عندما سمعت من بين ضوضاء المرآب صوتا ينادي : ــ ( دهوك ) !! ( دهوك ) !! ، أسرعت نحوه وأخبرت السائق أنني ذاهب إلى هناك ، فأشار لي نحو سيارته التي وضعت حقيبتي على آخر المقاعد فيها ، ثم وقفت إلى جوارها لأدخن سيكارة .

سألني السائق ألأربعيني بأدب : ــ أستاذ . هل أنت موظف في الحكومة ؟! .

سألته مستغربا : ــ لماذا ؟! .

أجاب على الفور : ــ سيطرة الحكومة ، التي لابد لنا من المرور منها ، تلقي القبض على كل موظف حكومي يذهب نحو الشمال !! .

فإبتلعت لعابي مرعوبا من ألإجابة التي سمعتها ، وشعرت بكفي يرتجفان . إلتقط هذا رعبي ، واضعا كفه على زندي وهو يهمس بعد أن تلفت بحذر حوله : ــ أستاذ !! هم ينفذون ألأوامر !! أعرف كثيرين لهم أقارب في الشمال أو أصدقاء أو أشغال !! ولكنهم ينزلون من السيارة قبل أن تصل السيطرة بمسافة ويذهبون مشيا الى القرى الواقعة خلفها !! ساعة أو ساعتين حسب همتك في المشي تصل بعدها أول القرى ومن هناك تعثر على سيارات كثيرة تأخذك إلى ( دهوك ) !! فإذا كانت سفرتك ضرورية ، يمكنك أن تفعل ما تفعله الناس في هذه ألأيام!! .

** الثالولة **

لا أحد يدري ، وربما هناك من يدري ، كيف دخلت مجموعة من ( العواليس ) قصر ( الشيخ بعيو) في ساعة متأخرة من الليل ونهبت كل ماطالته أياديها ، ولكن من المؤكد أن ( العواليس ) قد إستولوا على مالايقل عن مائة بندقية كلاشينكوف وأكثر من ربع مليون طلقة ، مازالت في صناديقها ألأصلية ، بعد أن فر رجال الشيخ من القصر دون أن يطلقوا طلقة واحدة حالما شعروا أن هؤلاء مصرين على إقتحام القصر ، طمعا بما فيه ، أو إنتقاما من ( أكبر واش !! ) في المنطقة ، إختفى مع زوجاته الثلاث ودزينتين من ألأولاد والبنات كانت وجوهم معافاة ، رغم الحصار الدولي ، ( بمكرمات الحكومة للوشاة ) .

في فترة سكون بين إنفجارين هزا المدينة ، أضاءت النيران المشتعلة في قصر ( الشيخ بعيو ) سفح ( وادي الحرامية ) وبعض أكوام الزبل في ( مزبلة الشيطان ) وجدران الطين والصفيح لبيوت ( الثالولة ) القريبة من (قنطرة الحرية ) . ألقى ( ملاّ حمادي ) السلام على ( الملاكين عند كتفيه ) وتمتم بعض ألأدعية ، بعد أن إنتهى من صلاة الفجر ، ثم مسح وجهه بكفيه وقال لواحد من رجلين عجوزين حضرا للصلاة مبكرا : ــ نهبوا قصر (بعيو)!! .

فقال هذا على الفور : ــ مال الحرام للحرام !! .

وكان العجوز الثاني يسعل بحدة بعد أن أخذ نفسا من سيكارته الرخيصة ، وهو يشير إلى أنه يريد أن يتكلم حالما تنتهي نوبة السعال ، وعندما إستقر صدره الهزيل في دشداشته الرثة قال محتجا : ــ مال الخسيس يروح فطيس !! ولكن إحراق القصر ؟! لا !! لديه أطفال أبرياء وهذا مأواهم !! .

قال ( ملاّ حمادي ) كأنه يعتذر عن ذنب ما لم يرتكبه : ــ رأيناهم من الخندق وهم يقتربون من القصر ، ثم رأيناهم يدخلون ، دون أية مقاومة من حراس ( بعيو ) ، ففكرنا أنهم من جماعته !! وحتى عندما خرجوا ومروا من أزقة (الثالولة ) مع ماغنموه نحو ( تل العقارب ) ، حيث كانت تنتظرهم أربع سيارات ، ظننا أن كل مايجري متفق عليه !! ولا طلقة واحدة يارجل من حراس ( بعيو ) !! ولكن عندما إشتعلت النيران ، فهمنا ما يجري ، ولكن ؟! كل شئ إنتهى وغابت السيارات في البرية !! .

قال ذلك بشئ من ألأسف ثم إستأذن العجوزين وإختلس نفسه نحو ( أرنبته ) التي ولدت ستة عشر ولدا وبنتا حشرهم ( الملا ّ ) في غرفتين ، فيما إختلف العجوزان على ( شرعية !! أو لا شرعية !! ) حرق القصر ، وظلا يتحاوران بأصوات عالية حتى زقزق باب ( العضباء ) وخرجت هذه من ( التانكر ) مستغربة مثل هذه المشادة الكلامية في تلك الساعة ، فبادرها أحد العجوزين بتحية الصباح ، ولكنها إنتظرت حتى فترت ضوضاء غارة حصلت توا على مكان قريب من ( الثالولة ) ، ثم أجابت بسخرية : ــ وهل من يستصبح بوجوهكم يرى الخير ؟! .

ولكن هذ ضحك وهو يقول لها : ــ حتى يرحمك الله ، وهو يعرف سفاهتك فأعطاك يدا واحدة ، أنا وهذا المسكين ــ وأشار للعجوز الغاص في الضحك إلى جواره ــ جوعانين !! فما هو الفطور عندك يا ( أم زمن ) !! .

أجابت ( العضباء ) على الفور : ــ زقنبوت !! وعسى تنفطر عظامك !! هل تريد قشطة بالعسل؟! عندي فطائر بالدهن !! وأدعو الله أن ياخذكما قبل أن تقولوا بسم الله على الطعام !! هل قصف ألأمريكان قصر ( الشيخ ضرطة ) ؟! أره يحترق !! .

تساءلت مندهشة ، فضحك أحد العجوزين بطلاقة حتى غص في نوبة السعال من جديد .

** العضباء **

صار ألأرق والقلق قرينين لها ، فما أن تذهب إلى ( فم الضفدع ) ، خندق ( الثالولة ) ، لتطمئن كعادتها ، مذ بدأت الحرب ، في كل صباح وظهر ومساء على وحيدها ( زمن ) الذي ( ربطوه !! ) هناك مع بندقية ، دون أن يجرب إطلاق ولو طلقة واحدة من الطلقات الخمس التي أعطاها له ( الشيخ بعيو) ، حتى تعود إلى ( التانكر) أكثر قلقا على ( عنود ) التي ( طرحها الحب على فراشها !! ) غائبة مع أحلام يقظتها بالعالوس ، ( عباس ) ، الذي أحبته في غفلة عنها وعن زمن الحرب ، ولم تفارقها رائحة ( مزبلة الشيطان ) بعد ، وما زالت ( صمود ) تؤكد لأمها أن ( هجران ) ستشفى من حالة ألإسهال التي أصابتها منذ أيام دون أن تتوقف عن إرضاعها ( حليب الخوف ) كما طلبت ( العضباء ) .

إهتزت ألأرض ، إثر قصف قريب ، ولم تستيقظ ( عنود ) ، ولا إستيقظت ( صمود ) . غضبت ( العضباء ) . ثم ماذا ؟! .

تساءلت هامسة لنفسها . منذ حربين والمدينة ما زالت تتشح بالسواد حزنا على قتلى الحرب ، وحتى الفرح في ألأغاني صار من مظاهر ترف يشذ عما ألفته الناس من أحزان على من مضوا دون رجعة تاركين للأحياء هموم الحصار والحروب !! ولا تشفّع ألأنبياء للناس عند الله في دعاءاتهم لمنع هذه الحرب أيضا !! .ومازالت الفتيات يحلمن بفتيان ، والجياع بشئ من الطعام ، والهموم تكرر نفسها كل يوم !! .

بكت الطفلة ( هجران ) ، ولم تستيقظ أمها على بكائها . وإنتهت غارة أخرى ، وقد تبدأ أخرى بعد قليل . وضعت (العضباء ) حفيدتها في حضنها ، وراحت تهز ركبتيها لتساعدها على النوم ، ولكن صلية من ألإطلاقات النارية أيقظتها من اللحظة التي كادت فيها أن تنام . ثم دوت صلية أخرى!! . لا أحد يدري لماذا كانوا يطلقون النار ، قبل وصول ألأمريكان وألأكراد!! . ولم تستيقظ ( صمود ) كما ألأمهات ، ولا إستيقظت ( عنود ) من أحلامها ( بعالوس ) مطلوب للحكومة .

يا له من زمن !! .

فكرت ( العضباء ) .

من حرب إلى حرب صار كل شئ يشترى بالمال حتى السعادة ، التي ما شعرت بها قط مذ وعت هذه الدنيا . وحتى المال الوحيد الذي كانت تقبضه أربع مرات في السنة عن رواتب زوجها الشهيد في الحرب الماضية ، كانت تنفقه سلفا قبل أن تحصل عليه ، وماعاد يكفي لتسديد القروض بعد أن هبطت قيمة الدينار ، ولم تعوّض الحكومة الفرق في صرفه ، ( فأكل !!) الحصار الدولي كل شئ !! .

وعندما نادى ( ملاّ حمادي ) لصلاة الفجر ، لم تخرج ( العضباء ) لتسأله ، كما إعتادت في كل فجر ، إن كان ( زمن ) بخير وقد نام أم لا ، فيرد هذا أنه نام و( اعمانا بضراطه !! ) ، إذ ما زالت الطفلة تتأوّه ببكاء جفّ في فمها متألمة من ( حليب الخوف ) الذي كانت ترضعه من ثدي أمها النائمة رغم كل ما يجري .

رفست ( العضباء ) إبنتها فإستيقظت هذه غاضبة . قالت لها ( العضباء ) : ــ شوفي !! إذا كنت لاتريدين أن تفطمينها من حليب الخوف الذي سيقتلها كما أرى ففي ألأقل علينا أن نأخذها إلى المستشفى لعلنا نحظى بدواء يفيدها !! الطفلة تموت !! وأنت نائمة !! .

ولكن هذه لم ترد . ظلت تنظر ببلادة في وجه ( العضباء ) الذي إنعكس عليه ضياء الفجر من شق بين الجدار والباب ، ثم تساءلت بحيرة : ــ ومن يأخذنا إلى المستشفى في هذه ألأيام ؟! حتى لا نمتلك إجرة سيارة !! ولا توجد سيارات في الشوارع إلا فيما ندر كماتقول الناس !! .

قالت لها هذه بغضب: ــ شوفي !! إن لم نأخذ هذه الطفلة إلى المستشفى فسيأخذها الله منا !! قلبي يقول ذلك !! .

** البدراني **

لم يكن فضاء كالفضاءات ، التي إعتدتها في قريتي ، ذلك الذي كنت أتنفس فيه على حذر من ألإنزلاق على الحافات الموحلة لسواقي بساتين الخضار شمال شارع ( الموصل – دهوك ) الدولي الذي يربط المحافظتين . بعد أكثر من ساعة من المشي الحثيث ، رايت خلالها مجاميع من الناس ، رجالا ونساء وأطفالا ، يفلحون بساتينهم ، على ذات الرائحة الثقيلة التي داهمتني حالما دخلت منطقة البساتين . شعرت التعب مع حقيبتي الصغيرة وأنا أتقافز بين السواقي .

إستدرت شرقا ، بعد أن إلتقيت مجموعة من الرعاة ألأطفال تهامسوا فيما بينهم وهم يشيرون نحوي ، ثم توقفت على طريق زراعي عريض لأستريح على صخرة صادفتني ، وأنا أسأل نفسي مندهشا منها : ــ أحقا أهرب من بلدي من جراء إطلاقتين طائئشتين وداعا لرجل قتلته كلاب الحكومة المجوّعة ؟! لا أصدق !! حتى مجرد التفكير بذلك بدا لي مثل كابوس ، مع أنني هربت فعلا !! .

قدرت أنني إبتعدت بما يكفي للعودة إلى الشارع الدولي بعيدا عن سيطرة الحكومة ، فأشعلت سيكارة كأنني أكافئ نفسي عن إنجازها لعمل تم دون قناعة ، ثم نهضت بسرعة عندما إنتبهت لرجلين وثلاث نساء ومجموعة من الفتيان وألأطفال تقترب مني على ذات الطريق . لم أشأ لأحد أن يرى وجهي !! . مشيت بخطى مستعجلة وأنا انصت إلى شخير جرّار تزداد حدته كلما إقترب مني .

سبقني الجرّار وتوقف . إبتسم سائقه لي وأشار بالصعود إلى العربة التي كان يسحبها ، حيث جلست المجموعة التي هربت منها قبل قليل . صعدت ، على بعض الخجل من نفسي مع ( السلام عليكم ) متحاشيا النظر في وجه أحد . قدم لي أحد الرجال سيكارة تبغ رخيص ملفوفة وهو يلاطفني ، كما شعرت من نبرته ، فأشعلتها شاكرا له كرمه . وسألني بعربية ركيكة : ــ ( أستاد ) . هل أنت ذاهب إلى ( دهوك ) أم إلى ( الموصل ) ؟ .

أجبت : ــ ( دهوك ) .

ولم أفهم لماذا ضحك أحد ألأطفال فإنتهرته أمه بقسوة وانا انزل من عربة الجرار عند أول قرية توقف الجرّار على طرفها البعيد حتى إبتعدت خطوتين أو ثلاثا . ثمة ثقل غريب في مؤخرة بنطلوني ، حيث وجدت قطعة روث رطبة عالقة به . نفضتها بأطراف أصابعي وأنا ألعن حماقاتي وحظي السئ ، وقبل أن أحتار في الجهة التي يجب علي أن أسلكها زمّر لي سائق سيارة إجرة وهو يتوقف قربي متسائلا : ــ ( دهوك ) ؟! .

فقفزت في السيارة دون تردد .

** الثالولة **

تلاصفت سيارة ( الشيخ بعيو ) ، هدية ( السيد الرئيس ) ، التي إستلمها قبل أقل من شهرين من بدء الحرب ، بين سيارتين أخريتين غاصتين برجال مسلحين أمام قصره المحترق فإنشدت أنظار زبائن ( أخو عرنه ) نحوهم . كانت عصبيته واضحة من بعيد وهو يطوح غاضبا بذراعيه مشيرا نحو كل الجهات مؤنبا الحراس الذين تركهم في القصر فعجزوا عن حماية محتوياته .

وركبوا السيارت ثم عبروا ( قنطرة الحرية ) ، وإنحرفوا شمالا نحو ( تل العقارب ) ، فظن زبائن ( أخو عرنه ) أنهم يطاردون ( العواليس ) ألآن ، ولكن السيارات ذهبت نحو( فم الضفدع ) . ومع أن بعض المقاتلين واساه بما أصاب قصره إلا أن شابا ، من باعة الشلغم المسلوق المتجولين على ألأرصفة ، أقسم للشيخ بحرارة أن ( العواليس) ذهبوا ( قبل قليل !! ) من ( ذاك الطريق !! ) وأنه يستطيع اللحاق بهم ( ألآن !! ) للقبض عليهم و ( حرق أسلافهم !! ) .

ولكن الشيخ أخذ نفسا عميقا من سيكارته الثمينة الفاخرة ، وتلمس شاربيه لحظات قبل أن يعلن : ــ وإلى أين سيذهبون ؟! عرفت بعضهم !! وسترونهم تحت أطنان من الحديد بعد أن تنتهي الحرب !! .

قال ذلك وهو على يقين أن بعض هؤلاء في خندق ( الثالولة ) يعرف بعض ( العواليس ) الذين نهبوا قصره وأحرقوه ، وربما لهم أقرباء من بينهم ، ولكنه كان يعرف أن قانون الصمت هو سيّد المواقف في ( الثالولة ) التي ينتمي إليها هؤلاء الرجال فسكت .

ولتبديد الصمت الذي خيم على الجميع ، رغم دوي القصف على بعض المواقع في المدينة ، تساءل أحد المقاتلين : ــ شيخ !! بدأت الحرب وما زلنا بخمس طلقات في هذا المكان !! هل نقاتل ألأمريكان وألأكراد بخمس طلقات ؟! .

عندئذ إنتفض ( الشيخ بعيو) من أفكاره وأجاب : ــ ها !! لا . لآ !! العتاد كان عندي في البيت !! وكنت سأجلبه لكم ، ولكن كما رأيتم !! سطو على كل محتويات البيت وأحرقوا حتى ألأثاث !! سأذهب ألآن إلى السيد المحافظ وأطلب منه المزيد من العتاد والبنادق !!.

: ــ بلّغه سلاماتنا ، إذا وجدته ، وقل له ، مادام ( إخوة العضباء ) في خندق ( الثالولة ) فليطمئن على هذه الجهة من المدينة !! لن تمر بها غير طيور الله ، وإذا أراد سنمنعها أيضا من المرور !! .

قال له أحد المقاتلين متظاهرا بالجدّية وهو يربّت على كتف ( زمن ) ، الذي إلتزم الصمت ، كما أوصته ( العضباء ) عن مثل هذه الحالات ، فكتم مقاتلون آخرون ضحكات كادت تنفلت منهم تجاهلها ( الشيخ بعيو ) وهو يردد بحرارة بدت فاشلة التمثيل : ــ إن شاء الله !! إن شاء الله !! .

ثم ركب سيارته الفاخرة ومضى مع مرافقيه ، فقال أحد المقاتلين ساخرا : ــ أقطع يدي اليمنى إذا لم يكن ( الشيخ ضرطة ) ، كما تقول ( أم زمن ) ، قد إتفق مع ( العواليس ) على نهب وإحراق بيته !! وأقطع يدي اليسرى إذا رآه أحد منكم حتى تتوقف الحرب !! .

ثم أطلق ضحكة رائقة وهو يهز كفه ساخرا : ــ ذاهب إلى المحافظ !! عصفور يكفل زرزور وإثنينهم طيارة !! .

** العضباء **

عندما إقتنعت ( صمود ) ، مع اوائل شروق الشمس ، برأي ( العضباء ) على ضرورة نقل طفلتها إلى المستشفى ، وضعت عباءتها السوداء على رأسها دون أن تتخلى عن تبرمها الصريح من إلحاح العجوز التي فتحت باب (التانكر ) وصرخت مرعوبة : ــ أعوذ بالله !! .

إذ فاجأها ( ألأحيمر ) وهو يمدّ يده نحوها تماما كمن يهمّ بضربها ، وأجفل هو ألآخر ، ولكنه تدارك الموقف بوجه إزداد إحمرارا وهو يقول لها : ــ صباح الخير !! أردت أن ..!! .

ولكن ( العضباء ) أجابت غاضبة : ــ عاب صباحك !! خوّفتني !! ماذا تريد ؟! .

ضحك هذا ، إذ كان قد إعتاد سلاطة لسانها ، وهو يجيب : ــ أريد ( زمن ) !! .

هزت ( العضباء ) يدها السليمة في وجهه قائلة : ــ عمى بعينك !! ( زمن ) في خط الدفاع ألأول عن ( الشيخ بعيو بعّاص أبو جعران ) !! وكل الدنيا تعرف ذلك عداك !! ولكن ماذا تريد منه ؟! .

أجاب ( ألأحيمر ) وهو يطرد ذبابة وهمية عن وجهه : ــ أردت أن نتشارك أنا وهو في شغل ... !!

قال ذلك وهو يلقي نظرة فضول حادة نحو ( صمود ) من فوق كتف ( العضباء ) فأشارت هذه لها هذه بدخول (التانكر ) وهي تسأله ساخرة : ــ في أية شركة من شركات ( ألأستاذ !! دليو ) ؟! .

أجاب ( ألأحيمر ) غاصّا بضحكة عالية إهتز لها كرشه المحشور في دشداشته الضيقة : ــ أكبر شركة لصهر وتهريب النحاس شمال وجنوب خط ( 36 ) ، ورأسمالها عربتكم الذهبية وسرب الذباب المقيم عليها !! .

ضحكت ( العضباء ) ، وهي تحك ّ الجرح القديم على جبهتها ، ثم قالت له جادة : ــ لا أدري !! سأسأل ( ملا ّ حمادي) ، هل يعطيه إجازة ، ولو نصف نهار ، من كل يوم أم لا ؟! وسأخبرك عندما نعود من المستشفى . وألآن دعني أرى عرض كفيك !! .

فإنصرف هذا ضاحكا فيما إتجهت ( العضباء ) مع ( صمود ) ، التي كانت تحمل طفلتها تحت عباءتها القاحلة اللون ، نحو زقاق ( كاشان ) ولكن إنفجارا هائلا دوى ( في رأسيهما !! ) فسقطت ( العضباء ) على ألأرض مرعوبة وظلت ( صمود ) واقفة بحيرة وخوف !! .

** زمن **

عندما إنتبه ( ألأحيمر) إلى أن صاحبه مشغول البال ، خيل له أنه ( يفكر بالشغل الجديد ) ، الذي إبتكرته ( كاشان ) ، فقال له : ــ إطمئن !! سنجمع طنا من الخراطيش قبل الغروب !! صاروا يطلقون النار حتى على العصافير المارة في السماء !! .

ولكن ( زمن ) أجاب ساخرا : ــ لا أفكر بالخرا .. طيش !! .

ثم سكتا فيما كانا يمران من بين أزقة ( الزنجيلي ) نحو منطقة ( الموصل الجديدة ) ، حيث نصبت الكثير من الرشاشات المقاومة للطائرات ، مع كثير من المواقع العسكرية لمقاتلي الجيش الشعبي إنتشرت على تقاطعات الطرق .

:ــ هل تحب الحكومة ؟! .

سأله ( ألأحيمر ) فجأة ، سكت ( زمن ) وهو يتذكر نصيحة ( العضباء ) : ( السياسة لعنة !! ) ، وتجاهل السؤال ، فعاد هذا يتساءل : ــ بخمس طلقات تقاتل كل الجيوش التي يتحدثون عنها ؟! يقولون أن ( الشيخ ) سرق بقية العتاد ليبيعه في السوق السوداء !! .

ومرة أخرى تجاهل ( زمن ) السؤال .

قال ( ألأحيمر ) بعد أن راقب طائرات أمريكية تترك خطوطا بيض في سماء الغروب راحت أطرافها تحمر تحت أشعة الشمس : ــ كلهم ( عواليس ) !! .

وبدا أنه يئس من أية إجابة من ( شريكه ) في المشروع ( كاشان ) الجديد .

تكرر دوي في عدة جهات من المدينة إنطلقت بعده صليات كثيفة من إلإطلاقات فتساءل ( زمن ) مندهشا : ــ إنتهت الغارات فعلام يطلقون النار !!؟؟ .

أجاب ( ألأحيمر ) ساخرا : ــ على خوفهم من الحكومة !! كي لايكتب أحد الوشاة أنهم لم يقاوموا العدو !! عندما تعود إلى ( فم الضفدع ) أطلق أنت ألآخر طلقتين أو ثلاثا لعلك تنال نوط شجاعة !! ألم تنل أمك واحدا من هذه ألأنواط بعد ؟! ظهرت أمام الملايين في التلفزيون !! .

أجاب ( زمن ) غاضبا : ــ لاتسخر من أمي وإلا بترت لسانك الطويل !! .

** الثالولة **

كان مساء ثقيلا على مقهى ( أخو عرنه ) ، تضاربت فيه ألأنباء المنقولة عن المذاييع عن ( وصول أو عدم وصول !! ) القوات ألأمريكية إلى ( بغداد ) ، وعن مئات القتلى من المدنيين تساقطوا هناك من جراء القصف ، وعن إستخدام الجيش ألأمريكي لأسلحة تدمير جديدة تجرب لأول مرة في التأريخ في معركة ( المطار الدولي ) ، وقيل أن ( السيد الرئيس ) يعد لهم مفاجأة كبيرة ( تقصم ظهرهم !! ) ، وإختلفت ألآراء في ما سيفعله ( السيد الرئيس ) ألآن ، فمنهم من رأى أنه كأي ريفي صبور يعد لأعدائه ( مفاجأة حقيقية !! ) ، ومنهم من رأى أنه ( إنتهى !! ) مادامت طلائع ألأمريكان مع ( العراقيين ؟؟!! ) المتعاقدين معها قد وصلت أطراف ( بغداد ) .

ورجح الشبان ( ألأقل حكمة !! ) من غيرهم أن أهزوجة ( روح بيهه وع الزلم خليهه ) هي آخر ألأهازيج الوطنية التي سمعها العراقيون ، رغم الغمزات واللكزات التي كانت تذكرهم بأن ( للحيطان آذان !! ) ، لذا حاول عجوز تغيير مجرى الحديث خوفا على ( هؤلاء الحمقى !! ) من الحكومة بعدما تنتهي الحرب فتساءل بصوت عال : ــ لا أدري ماذا يقصفون ألآن ؟! دمروا معظم الدوائر الحكومية ومقرات الفرق الحزبية وحتى بعض بيوت الناس ألمدنيين !! . والله هذا الصباح عندما قصفوا مقر الحزبية في ( الزنجيلي ) ، تصورت أنهم قصفوا بيتي !! قنابلهم قوية أولاد القحبة !! وخرجت راكضا من البيت فواجهتني ( العضباء ) ، مع إبنتها وحفيدتها ، وهي تصرخ كالمجنونة : وي !! وي !! تأ !! تأ !! .

ولكن أحدا لم يعر ثرثرته إهتماما فنهض قبيل منتصف الليل ليعود إلى بيته .

نادت مجموعة وجهاء الثالولة ( أخو عرنه ) فجأة ، وعدّ واحد منهم على يده رزما من النقود وهو يقول له بصوت تعمّد أن يكون مسموعا من أكبر عدد ممكن من الزبائن : ــ شوف يابا !! هذه مائتا ألف دينار !! وهذا كل ما إستطعنا جمعه لك من أهلك هنا في ( الثالولة ) ، تعويضا عن بندقية الحكومة . وأنت تعرف ظروفهم جميعا ، ولكنهم إقتطعوا من أفواه أطفالهم من أجلك !! إذا وجدت البندقية فأعد لنا النقود لنعيدها لأهلها !! جمعناها بالدينار الواحد ، والخمسة ، والعشرين ، كل حسب قدرته ، وأنت مع ربّك ألآن بهذا المبلغ !! فإحرص عليه لحل مشكلتك .

** كاشان **

مذ وجدها ( البدراني ) وحيدة مع ( ألأحيمر) في غرفة مغلقة راحت ترى في عينيه نظرة لم تألفها من قبل قط . كانت إتهاما مكبوتا بالخيانة ، ماكان قادرا على إخفائه تماما رغم محاولاته في أن يبدو طبيعيا معها ، فإستفز فيها روح التحدي على يقينها أنه لولاها لكان ألآن في واحد من سجون الحكومة أو شحاذا ينام في الشوارع في أفضل الحالات ، لأنه في النهاية مجرد أعرج ، مطلوب للحكومة ، يعيش بهوية مزورة صدرت بفضل نقودها !! .

وفي لحظة مفاضلة بينه وبين ( ألأحيمر ) ، فضلت ألأخير عليه ، لأن هذا أفتى و بنكهة الحرمان الجنسي التي يعانيها معظم شبان ( الثالولة ) ، يمارس الجنس بطريقة متوحشة كما هم عادة قليلي التجربة ، وإن كان على شئ من البلادة التي يمكن توظيفها في مشاريع جديدة ، و( البدراني ) يمارس كل شئ بمنطق الشبعان المجرّب الذي يهندس كلماته وأفعاله معها كما لو أنه ( أتى من القمر ) !! .

وأدهشها أنه لم يلح على إستعادة بطاقة هويته ، كما توقعت منه ، من ( اليد ألأمينة التي عثرت عليها ) ، كما أخبرته بعد جولتها في ( وادي الحرامية ) يوم عثرت على ( أحمق آخر ) من أهالي ( الثالولة ) عثر على بئر نفط بدلا من بئر الماء الذي كان يحفر من أجله . سكت ( البدراني ) عنها سكوتا بعث في نفسها ألإرتياب من نواياه الجديدة ، وربما كان يريد أن يعاقبها بهذه الطريقة الغريبة : التجاهل !! ولكنها ستجد عشرات الرجال يتمنون لحس قدميها بدلا عنه من أجل ماوى ، وطعام دسم ، وفراش فيه إمرأة بجمالها !! .

: ــ ( شمسه ) !! .

صاح من حوش البيت ألآخر فجأة ، فاجفلت في الدكان ، ولم تجيب . ناداها كما كان يناديها منذ سنين ، بإسمها المجرد بدلا من ( كاشان ) لقبها ، وبسلاسة الرجل الذي ينادي ( زوجته !! ) ، وعندما ناداها ثانية صاحت : ها !! ها !! . ببحّة خالطت نبرتها وهي تنهض على عجل كما إعتادت أن تفعل معه .

كان يطوي ، بمهارة مجرّب ، أسلاك نحاس جمعتها الفتيات والفتيان من نفايات ( مزبلة الشيطان ) ، وسألها دون أن يلتفت نحوها : ــ هل حسبت هذه الرزمة قبل أن يأخذها ( المخذرف ) ؟؟ .

كان قد إعتاد أن يطلق هذه التسمية على ( المخضرم ) ، ولم تظهر على نبرة صوته وهو يسألها ، كما أي رجل عاشر إمرأة فترة طويلة ، نبرة غضب ، ثم إستدار نحوها بعد أن إستبطأ جوابها ، مستعينا برجله العرجاء ، فشعرت أنها ( تحبه !! ) وأنها ستندم كثيرا لو فقدت رجلا بهذا النضج عرف تضاريس جسدها وروحها على مدى سنين .

وفي اللحظة التي فكرت فيها أنه يرزم تلك ألأسلاك للمرة ألأخيرة قبل أن ( يغادرها إلى ألأبد !! ) سألته دون تفكير مسبق : ــ هل تتزوجني ؟! .

كانت المرة ألأولى في حياتها التي تطلب صراحة من رجل أن يتزوجها ، لذا عضت شفتها السفلى ، فيما كان هو ينظر في عينيها بذات النظرة الغائمة التي تتهمها بالخيانة ، فادارت وجهها عنه كما لم تعتد من قبل مع أي إنسان ، وذهب إلى غرفته دون أن يجيب .

** زمن **

توقفا هو و( ألأحيمر ) قرب واحدة من الرشاشات الثقيلة المقاومة للطائرات ، للإستراحة عند ( موقع شغل !! ) ، كما إقترح ألأخير وهو يبلل شفتيه كمن يهم بإلتهام لقمة طعام يتشهاّها ألآن . إكتشفا أنهما مختلفين بعد ساعتين من جمع ماكانا يعثران عليه من خراطيش مهملة في الشوارع التي مرا بها ، وماكان يجمعهما غير العربة الخشبية ذات العجلات الثلاث وهما يدفعانها، بطريقتين مختلفتين ، من شارع إلى شارع من أجل المزيد من الخراطيش .

وعندما سمعا أزيز طائرات نهض ( ألأحيمر ) وهو يفرك يديه فرحا بصراحة أدهشت صاحبه . فجّرت الرشاشة الصمت بنيرانها الموجهة نحو أكثر من جهة وهي تدور حول نفسها بسرعة ، وراح ( ألأحيمر) يصرخ بالجنود الرماة : ــ ها خوتي !! ها !! عليهم . عليهم !! إرم !! إرم !! .

ثم إلتفت نحو ( زمن ) القلق المندهش وقال له بحرارة : ــ قم ِشجعهم على الرمي !! قم !! ستكثر الخراطيش !! قم !! .

ولكن هذا هز كتفيه بلامبالاة وظل جالسا فسخر ( ألأحيمر) منه : ــ ها !! بلت على نفسك من الخوف ؟! . فتجاهله ( زمن ) وإستمر ( ألأحيمر ) يصرخ بالجنود : ــ إرم !! إرم !! .

مع أن الرشاشة توقفت عن إطلاق النار بعد أن دوت عدة إنفجارات في المدينة فقعت على أثرها عدة أشجار من الدخان والنيران .

دفع ( ألأحيمر ) العربة نحو موقع الرشاشة فصاح به جندي مستغربا : ــ إلى أين ؟! إبتعد !! إبتعد !! .

ولكنه لم يتوقف فأسرع نحوه نائب ضابط صاح به غاضبا : ــ هل أنت مجنون ؟! ماذا تريد ؟! .

: ــ الخراطيش !!

أجاب ( ألأحيمر ) ضاحكا .

عندئذ حمل الجندي ألأول مجموعة من الخراطيش الضخمة الثقيلة بين يديه وراح يقذف ( ألأحيمر ) بها وهو يصرخ : ــ يا إبن القحبة !! سأضعها في ... أمك !! .

فيما كان ( ألأحيمر ) يركض فارا ، خلف كرشه الرجراجة ، واضعا كفيه على رأسه ليحميه من الضربة القاسية التالية .

ونهض ( زمن ) عن ألأرض ، ثم إستأذن نائب الضابط بأدب أن يأخذا العربة ، بعد أن أقسم له بأنها ملكه وليست ملكا ( لجاني الخراطيش ) الهارب فسمح له هذا بأخذها ، ولكن أحد الجنود بصق عليه عندما لمح خراطيش من أنواع أخرى كانت في حوض العربة ، فشعر ( زمن ) بخجل وغضب من نفسه ، ومن ( الثالولة ) ، والفقر ، والحرب .

** الثالولة **

فيما كان عجوزان ، من وجهاء ( الثالولة ) يدخنان ساكتين في مقهى ( أخو عرنه ) ، أحدهما يحدق بقصر (الشيخ بعيو ) المحروق كأنه يراه للمرة ألأولى في حياته ، والثاني ينفخ دخان تبغه الرخيص بين ركبتيه وهو يتمعن في مقدمة حذائه المهترئ المفتوق ، وصلت إمرأتان طاعنتين في السن تتبعهما مجموعة منفلتة من ألأطفال .

وضعت واحدة منهما صرة من قماش أسود ناصل اللون أمام الرجلين كمن يتخلّص من جثة إفعى وقد بان على وجهها التأثر مما كانت تحمله ثم قالت بعينين دامعتين : ــ ذراع الشهيد !! .

ولم يفهم العجوزان قصدها فورا مع أنهما أبديا إهتماما واضحا بالصرّة فوضحت المرأة : ــ الشهيد في موقع الرشاشة !! هناك !! على ( تل الهوى ) !! هل نسيتم بهذه السرعة ؟؟ يا لقلوبكم أيها الرجال !! .

فسألها أحدهم مستغربا وهو يمد يده ليتلمس الصرّة بحذر : ــ أين عثرت عليها ؟! .

: ــ في الوادي . عثرت عليها ( أصابع كاشان ) !! .

أجابت هذه بأسف.

قال العجوز الثاني وهو ينهض : ــ يجب أن ندفنها فورا !! .

ثم صاح بالأطفال : ــ أبحثوا لنا عمن يحفر قبرا صغيرا !! هيا يا أولاد القحبات !! أركضوا !! .

فركض ألأطفال كما مجموعة فئران نحو أزقة ( الثالولة ) وبعضهم يضحك .

كانت الحيوانات السائبة قد أكلت لحم الذراع وفقد الكف خنصره مع سلاميات من ألأصابع ألأخرى ، ولم تقبل العجوزان دعوة لشرب ( قدحين من الشاي ) كما إقترح أحد الرجلين ، إذ كانتا تتعجلان العودة إلى دكان ( كاشان) لشراء الخضار الطازج الذي جلبه ( البدراني ) قبل قليل ، لذا قال الرجل للعجوز التي كانت تحمل ذراع الشهيد : ــ إستحمّي وأطلبي من الله المغفرة !! .

فتساءلت هذه مندهشة بسخرية : ــ لماذا ؟! هل عرّست عليك ؟! .

فغص الرجل بضحكة مصحوبة بسعال حاد مع ضحكات الزبائن ألآخرين ، ثم تمخط على ألأرض ومسح أصابعه بمنديل زهري قبل أن يقول لها جادا : ــ تبقين ناقصات عقل ودين !! أنت لامست جسد ميت وعليك شرعا أن تستحمّي !! .

ولكن هذه وقفت ذاهلة وهي تسأله بحيرة صادقة : ــ ومن أين أجد ماء للإستحمام يا مسخمّ !! يا ملخمّ !! ، وقد إنقطعت الماء عن كل ألأحياء من جراء القصف ؟! .

** كاشان **

كانت حائرة بين شعورها بالذنب ، وشعورها بإلإهانة العميقة التي ألحقها ( البدراني ) بها ، بوصفه الرجل ألأول في حياتها الذي تطلب الزواج منه صراحة فإستنكف حتى عن ألإجابة ، فلم تتحمل الوقوف إلى جانبه وهو يوظب أكياس النفايات ، لذا عادت ببطء إلى الدكان مثقلة بخيبة لم تشعر بها مذ وعت الدنيا .

وظلت هناك حتى سمعت شخير محرك سيارة ( المخضرم بن عمشه ) الذي قال لها بوجه باشّ كعادته كلما رآها : ــ عندي جديد !! .

: ــ لاتقل لي حبوب منع حمل !! .

قالت له بوجه متحجر ، فإنتظر ريثما تخفت ضجة طائرتين أمريكيتين خطفتا نفسيهما من فوق ( الثالولة ) ثم قال متظاهرا بالسعادة : ــ لا !! بعتها بثمن أعلى مما أردت عرضه عليك ، وأنت الخاسرة !! .

قاطعته بحزم : ــ ماذا لديك ألآن ؟؟ .

أجاب وهو يهز قبضته كما المنتصرين : ــ قنابل يدوّية يا ( كاشان ) !! قنابل يدوّية !! .

وتلفت بحذر ليتأكد أن أحدا لايسمعه ثم إسترسل متحمّسا : ــ روسية أصلية ورخيصة !! الواحدة بثلاثين ألف !! نصف سعر السوق !! وإذا أردت كمية كبيرة فيمكن أن يقل السعر !! ولدي مسدسات أيضا !! .

قالت له ساخرة وهي تشير نحو الشمال : ــ يبدو أن جماعتك أفلسوا !! .

أجاب بذات النبرة الحماسية : ــ لا !! بالعكس !! يشعرون ألآن بالأمان أكثر ألآن !! الجيش ألأمريكي هناك يا (كاشان ) !! وجماعتي يعرفون أنها ستكون مطلوبة هنا !! . تغيرت ألأوضاع يا ( كاشان ) !! تغيرت !! ومعها الوضع التجاري !! ماذا قلت ؟! .

: ــ سأعطيك الجواب غدا .

أجابت وهي تتحاشى النظر في عينيه الشبقتين الوقحتين وهو يحاول النظر إلى مابين نهديها صراحة . ثم غادرت الحوش دون أية فكرة في ذهنها عن المكان الذي تقصده ، حالما إنتهى هذا من وزن النفايات الجديدة ودفع حسابها نقدا .

دفعت باب ( البرشه ) فوجدتها تغسل بعض الملابس . دلقت هذه عليها كل شكاواها عن المياه المقطوعة عن المدينة ، وماء الوادي المالح الذي لايستجيب للصابون فتبقى الملابس على إتساخها ، وعن الرجل الذي بحث عن الماء في الوادي فوجد النفط وراح يستحلف كل من يلاقيه ألا يخبر الحكومة عما فعله بأموالها ، وعن ( دليو ) الذي أخذته الحكومة لمدة ( خمس دقائق !! ) ولم يعد مذ بدات الحرب لحد ألآن ، وخوفها أن تكون الطائرات ألأمريكية قد قتلته في المكان الذي سجن فيه ، ثم صفعت ( البرشه ) نفسها فجأة عندما تذكرت أنها لم تقدم ( لأختها العزيزة !! ) الشاي كما تقتضي أصول الضيافة ، ولكن ( كاشان ) لم تكن منتبهة إلى كل ماقالته هذه .

** زمن **

كان يقهقه كلما تذكر كيف هرب ( ألأحيمر ) تلاحقه الخراطيش الضخمة الثقيلة التي كان يقذفه بها رامي الرشاشة الغاضب الذي أعقبها بفردة حذاء عسكري أصابت ظهر ( ألأحيمر ) العريض المسبوق بكرشه المتهدل . وكان ( ألأحيمر) يسأله في كل مرة يضحك فيها عما يضحكه ، فيضحك هذا وهو يتمنى لو كان ( هو !! ) من ضربه بدلا من ذلك الجندي .

ومع انهما جمعا ملء كيسين من خراطيش البنادق فقط إلا أن ( ألأحيمر ) الذي كان ينشر رائحة جسد تعفن منذ أيام ، عزّى نفسه بصوت عال : ــ هذا أفضل من لاشئ !! .

وهو يوظب أربعة أكياس فارغة .

ولكن ( زمن ) بصق عليها بصراحة فسّرها ( ألأحيمر ) إحتقارا ( لقلة الغنيمة !! ) فلزم السكوت على هزيمته من رامي الرشاشة الرباعية التي كان على يقين أن صاحبه سينشرها في ( الثالولة ) مع مزيد من بهارات السخرية .

دبّ ( ألأحيمر ) متعبا خلف ( زمن ) الذي إستمر يضاحك نفسه ( كالمجانين !! ) متجاهلا حنق شريكه من تكرار أغنية ( روح بيها وع الزلم خليها !! ) التي إعتقل أبوه ( دليو ) بسببها ربما ، كما رجح بعض مقاتلي ( الثالولة ) ، ثم توقف هذا عن جنونه وسأل ( ألأحيمر ) : ــ كم ستدفع لنا عمّتك ( كاشان ) عن هذا الخراء ؟! .

أجاب ( ألأحيمر ) دون تردد : ــ ربما عشرين ألفا . أكثر . أقل . بقليل . على مزاجها !! ولكن إطمئن ، مزاجها جيد معي !!.

وفوجئا بثلاث سيارات تتوقف قربهما ، نزل منها عدة رجال مسلحين بملابس عسكرية ، سألهما أقدمهم رتبة عما في العربة فسكتا ، إذ إنتظر كل منهما من صاحبه أن يجيب ، ففتح الرجل أحد ألأكياس ثم صاح غاضبا : ــ للتهريب ، ها ؟! .

وقال عسكري آخر : ــ سيدي !! ربما هما جاسوسين !! .

عندئذ برك ( ألأحيمر ) على ألأرض مرتجفا مرعوبا ، وودّ ( زمن ) لو أعانه لسانه ، الذي إلتصق بأسفل فمه ، على قول أية كلمة ينقذ بها نفسه من هذه الورطة الكبيرة مع الحكومة .

** الثالولة **

غرق عجوز من وجهاء ( الثالولة ) بتفكير عميق وهو ينظر نحو قصر( الشيخ بعيو) من مقهى ( أخو عرنه ) ، ولكن العجوز الذي يجاوره سأله وهو يشعل لنفسه سيكارة : ــ عساك بخير . بماذا تفكر ؟! .

ولم يجب هذا .

بزغ شريط من أشعة الشمس من بين الغيوم ، أضفى على المقهى شعورا زائفا بالدفء ، ومرت طائرتان أمريكيتان خلفتا رعدا ، زائفا هو ألآخر ، بين غيوم حائرة بين أن تمطر ولا تمطر .

كرر العجوز الثاني على ألأول سؤاله فأجاب هذا بحيرة : ــ أفكر بهذا النوع من الناس ــ وأشار نحو القصر المحترق بعصاه ــ الذين يعرفون كيف يعيشون !! مع الذئاب ذئاب ، ومع الغنم نعاج ، وهم مجرد ثعالب !! لديهم دائما ما يكفيهم من مال !! ولدينا دائما ما يزيد عن كفايتنا من القهر !! دائما نحن نقوم بدور الضحية وهم دائما يظهرون بدور المنتصر الذي حقق كل شئ !! .

وعكست نظارته الطبية السميكة المتسخة إلتماعة قوية لضوء الشمس . قال صاحبه وهو يهز رأسه بأسف مؤيدا : ــ دعنا من هذا الحديث !! مازال ( للحيطان آذان ) !! .

ولكن هذا قال بتحد ّ: ــ وهذه ( ألآذان ) ألا تسمع طائرات ( بوش ) والقصف الذي دمر المدينة !! ولكنها تسمعني أنا فقط ؟! .

: ــ يا إبن الحلال ، دع يومنا يمر على خير !! .

همس صاحبه وهو يتمخط على ألأرض ، فتساءل هذا مستغربا : ــ وأي خير تقصد يا ( أبو محمود ) ؟! قتلانا بلغوا ألألوف !! مدننا تسقط واحدة بعد ألأخرى !! لايعرف أحد أين هي الحكومة ألآن !! ثم : قاتل عدوك بخمس طلقات !! أي خير ؟! و مازلنا نسمي ألأمور بغير أسمائها !! نحن لسنا بخير يا ( أبو محمود ) !! أبدا نحن لسنا بخير !! وليضعوا ( آذانهم ) في مؤخرة ...!! .

ثم نهض غاضبا ولكنه توقف عندما رأى سيارات ( الشيخ بعيو) الثلاثة قادمة ، دون أن تمر بالقصر ، نحو ( تل العقارب ) ، مثيرة زوبعة من الغبار على الطريق الترابي هناك . وفجأة إنطلقت صليات من الرصاص من التل قابلتها صليات من السيارات ، ففر ألأطفال مرعوبين نحو بيوتهم وجلس الرجل العجوز من جديد في المقهى وهو يهمس بصوت مندهش: ــ يا ستار !! يا ستار !! .

وخيم سكون لفترة قصيرة عادت بعده سيارتان من سيارات الشيخ ، ثم توقفتا عند قصر الشيخ الخالي من البشر ، وترجل منها بضعة رجال مسلحين غاضبين ، فيما وصل بعض سكان الطرف الشمالي من ( الثالولة )، القريب من ( تل العقارب ) ، وقالوا أن السيارة الثالثة قد أصيبت ، وأن جثة ( الشيخ معيط ) ، إبن عم ( الشيخ بعيو ) ، مازالت ملقاة هناك ، وأن ما جرى هو ثأر قديم ، على ألأرجح ، لأن الذين أطلقوا النار على السيارت فروا على دراجات نارية مما يؤكد أنهم من القرى القريبة .

** كاشان **

فتح ( المخضرم ) الكيس وعرض عليها خمس قنابل يدوية ، وصف إثنين منها ، وهما ألأكبر حجما ، ( دفاعية) ، والثلاثة ألأصغر بأنها ( هجومية ) ، وكلها بسعر واحد ، ( نجح !! )، في تخفيضه ( من أجلها !! ) إلى عشرين ألف دينار للواحدة ، وعندما قرأ في عينيها توجّسا من مسّ القنابل ، التي تتعامل بها للمرة ألأولى ، طمأنها أنها لاتنفجر بدون الصواعق ومسامير ألأمان المعزولة عنها ، فقالت له : ــ خمسة آلاف !! .

: ــ هذه نهيبة يا ( كاشان ) !! .

قال محتجا وهو يهز رأسه بالرفض .

قالت له بحزم : ــ صارت النهيبة حقا للجميع !! خمسة آلاف ، ولن أزيد فلسا واحدا !! ثم أني لا أحبها !! .

تظاهر بالتفكير ، ثم رسم على شفتيه إبتسامة جاهد ان تكون مغرية وواعدة : ــ لا !! لا !! قولي خمسة عشر ألفا لأقول لك تشوفين الخير !! .

: ــ شوف يا ( المخضرم )!! ستة آلاف وإلا ضعها في ... جماعتك !! .

قالت بنزق ، ومع أنه تظاهر بعدم الرضا إلا أنه قال لها مستسلما : ــ زين !! سأتركها عندك وانقل سعرك لأصحاب البضاعة ، ونحسم ألأمر غدا !! .

ودوت إنفجارات قريبة جدا فقال ( المخضرم ) ساخرا : ــ أظنهم قصفوا معسكر ( الغزلاني ) .

: ــ يمكن !! .

قالت ( كاشان ) وهي تأخذ الكيس وتضعه في غرفة ( البدراني ) القريبة ، فيما إنصرف ( المخضرم ) لوزن النفايات بعد أن طير لها نظرة إعجاب مع آهة ( حب مكبوت !! ) أهملتها صراحة ، ثم إختفت في غرفتها وأغلقت الباب بالمفتاح لتخبئ بعض النقود التي إستلمتها من ( المخضرم ) قبل قليل ، وبعد ذلك إنصرفت إلى الدكان وتشاغلت بتوظيب محتوياته ، بإنتظار عودة ( البدراني ) من سوق الخضار ، وأشعلت لنفسها سيكارة من سكائرها المستوردة دخنتها رغم عدم رغبة في التدخين .

توقف ( البدراني ) عند باب الدكان ، ودون أن ينزل من السيارة ، أخبرها بأنه لم يجلب أية خضراوات من السوق لأن أكثر الفلاحين لم يأتوا هذا اليوم إلى المدينة ، فهمست ساخرة : ــ ماكان يعوزنا إلا هذا !! .

ثم أغلقت الدكان وعادت إلى غرفتها . تمددت على الفراش ، ولم تذهب للثرثرة مع ( البدراني ) كما إعتادت كل يوم ، ودخنت سيكارة أخرى وهي تفكر بأن أمورها المالية ستتدهور من جراء الحرب ، وأن عليها البحث عن مصادر رزق أخرى . لم يدفع ( المخضرم ) عن الخراطيش التي جمعها ( ألأحيمر ) و( زمن ) غير خمسن ألفا ، فكرت بدفع نصفها للأثنين ، وألإحتفاظ بالنصف ألآخر ، كما تفعل مع ( أصابعها ) في ( مزبلة الشيطان ) ، ولكن إلى متى ستتوفر الخراطيش في الشوارع ؟! .

وفوجئت بصيحات : ـــ كبسة !! كبسة !! في الزقاق فخرجت راكضة ولكنها فوجئت برجال الجيش الشعبي يركضون في أزقة ( الثالولة ) فتوقفت ، وأشعلت سيكارة أخرى غاضبة من حظها السئ .

** البدراني **

في بيت رفيقي في السلاح أثناء الحرب مع أيران ، أخبرني ( بكر ) ، بعد أن عرفني بزوجته وأولاده ألأربعة ، أنني جئت في الوقت ( غير المناسب !! ) للهروب إلى خارج العراق ، لأن المنطقة الشمالية أفلتت من سيطرة الحكومة في بغداد وسقطت في أيادي ألأحزاب الكردية التي تذابحت من أجل السيطرة على منفذ ( إبراهيم الخليل ) الحدودي مع تركيا ، التي إتصلت بدورها بالتركمان العراقيين وشجعتهم على إنشاء أحزاب معارضة صارت تتحكم هي ألأخرى بالمنفذ الحدودي الذي يدر عائدات خيالية من الرسوم التي فرضوها على البضائع المهربة !! .

وحدثني بالتفصيل عن صهاريج النفط الخام المهرب ، تحت أنظار الحكومتين التركية والعراقية وحتى ألأمم المتحدة ، وحمولات البضائع المهربة ، عبر المنفذ ذاته ، من وإلى العراق ، وأن الناس هنا ، في ( دهوك ) باتت تسمي منفذ ( إبراهيم الخليل ) بإسم ( إبراهيم القتيل ) أو ( أم الكمارك ) على غرار تسمية حرب الكويت بإسم ( أم المعارك ) ، من قبيل السخرية من المعارك الجارية بين ألأحزاب الكردية من أجل عوائد التهريب .

ولكنه طمأنني إلى أن المهربين ألأكراد باتوا يعرفون كل الطرق البرية والجوية والبحرية ، من شمال العراق حتى دول العالم ألأخرى ، خاصة ( أوربا ) ، وأنني إذا حظيت بواحد من هؤلاء فسأصل الدولة التي أريد كما وصل كثيرون قبلي . ولكنني أحتاج إلى شئ من المغامرة ، على بعض المخاطر على الحدود الدولية التي يطلق حراسها النار حتى على الحيوانات الضالة إذا إكتشفوا أمرها .

عوائل كثيرة ، برجالها ونسائها وأطفالها ، قتلت غرقا في البحر بين ( تركيا ) و( اليونان ) ، أو في الحاويات المغلقة إختناقا على الطرق البرية ، أو على أيادي اللصوص وحراس الحدود ، ذكر لي ( بكر ) بعض إسمائها وعناوينها ، ولكن سقف آمالي بالهروب لم يهبط حتى أخبرني أن المبلغ الذي أحتاجه للهروب لا يقل عن ألف وخمس مائة دولار من أجل جواز سفر مزور وإجرة الطريق ، يقبض المهرب نصفها سلفا ، ويقبض النصف الثاني حين الوصول إلى الدولة المتفق عليها ، وكل ذلك يجري دون أية ضمانات من المهرب عدا ( كلمة شرف !! ) قابلة للنقض تحت أية حجة .

وأمضيت خمسة من أسوأ أيام حياتي في غرفة ينام بها أبو صديقي ، الذي لايجيد غير بضعة كلمات عربية ، ريثما يعود ( بكر ) من رحلته إلى أهلي ، ليخبرهم أنني في بيته في ( دهوك ) ، وأنني بحاجة إلى مزيد من النقود لأصل دولة آمنة .

كتبت لأخويّ رسالة مؤثرة ، بكيت وأنا أكتبها ، طلبت فيها أن ( يقترضوا حتى !! ) من أجل تأمين المبلغ الكافي لهروبي من هذه المنطقة المضطربة الموبوءة برجال مخابرات الحكومة ، وتطوع ( بكر) لإخبارهم أن هجوما متوقعا على الشمال من الحكومة قد يحصل في أية لحظة فتقبض الحكومة على الهاربين الذين قد يعاملون ( كخونة للوطن !! ) .

وإتخذت لنفسي إسما مستعارا للمرة ألأولى في حياتي ، بناء على نصيحة ( بكر) ، راح أبوه وأولاده ينادوني به دون تحرج ، كما لو كان هذا هو إسمي منذ ولدت . وعندما عاد ( بكر ) حمدت الله على رسالتين كتبهما أخوي ، ومبلغ قارب سبع مائة دولار هبط بسقف أحلامي بالهروب إلى الحضيض على ( هذا كل ماتمكنا من جمعه لك !!) ، ولكن ( بكر) فاجأني ، وهو يشيد بأهلي وبي ، بقرض قدره ثلاث مائة دولار أعيده ( عندما يفرجها الله علي !! ) في أي مكان أستقر فيه .

** الثالولة **

كانت مداهمة نزقة ، خاطفة ، على غير ما إعتادته ( الثالولة ) ، ربما بسبب الحرب ، وربما ليقين آمر قوة التفتيش أنه لن يقبض على قتلة ( الشيخ معيط ) ، والذين جرحوا رجلا آخر من أقاربه ، وأحرقوا واحدة من سيارات ( الشيخ بعيو ) وأصابوا سيارته المفضلة ، هدية السيد الرئيس ، بثلاث طلقات .

وكعادتها لم تستغرب ( الثالولة ) ما جرى ( لرأس كبير !! ) من رؤوس الحكومة ، كان مجرد ساع في دائرة للبريد ، ثم صار ( شيخا !! ) لمجموعة من الطفيليين ، وأثرى ثراء مذهلا خلال سنوات قصيرة ، تحت أنظار الفقراء الذين ( أكلهم !! ) الحصار الدولي ، والبلدية التي ما إنفكت تهدد بقلع بيوتهم ( إلى جهنم !! ) ، كما يردد مديرها برأسه الضخم المتشحم في كل غارة يقبض بعدها ( المقسوم ) من وجهاء ( الثالولة ) فيعود إلى دائرته ، مؤكدا أن ( الثالولة ) حيّ ( خارج على القانون !! ) بني دون إذن على أرض تملكها الحكومة .

ألأمر الوحيد الذي تغير في ذلك اليوم ، هو أن معظم زبائن ( أخو عرنه ) لم يذهبوا إلى المقهى ، المقامة في الهواء الطلق بين ( الثالولة ) وقصر ( الشيخ بعيو ) ، تحسبا من مواجهة ثأرية مسلحة أخرى ، أو مداهمة جديدة ، لذا تجمعوا بعفوية ، بعد صلاة العشاء ، في ( برج الضغط العالي ) ، وحضرت الجلسة بعض النساء العجائز ، كانت ( العضباء ) أبرزهن ، ومعها( البرشه ) ، التي بدت في غاية التعب ، في غيمة من دخان التبغ الرخيص وروائح الملابس المتسخة وألأجساد التي لم تغتسل منذ فترة طويلة .

نهض العجوز ( الغاضب دائما ) ، صاحب النظارة الطبية السميكة وألأسنان الصفراء الخربة ، وأشار للجميع بالسكوت . كبر ظله ، وتعرج ، على جدار الصفيح المضلع ، في ضوء الفانوس الموضوع على ألأرض . فتح فمه ورفع كفه الهزيلة ليقول كلاما هاما ، ولكنه عاد وجلس غاضبا ، وهو يهز رأسه رافضا أمرا ما ، لم يفصح عنه ، ولا أحد فهمه من تضاريس وجهه الهزيل المتغضن .

سخر منه عجوز آخر : ــ إستجبنت ؟! .

أجاب هذا فورا : ــ أي والله !! هذا زمن الجبناء !! .

وشدت ألأسماع طلقتان من مكان قريب ، فقعتا بين دوي إنفجارين متباعدين في عمق المدينة ، ثم عادت الثرثرات إلى سياقها المألوف عن الحرب ، والدول العربية ، التي فتحت أجوائها وموانئها واراضيها للغزاة ، وعن النفاق السياسي على حساب الفقراء ، وراحت تبهت ألأحاديث على تكرارها لنفس الحكايات ، كما أناشيد تحفظ لأولاد كسالى ، بينما كانت ( العضباء ) تفرقع أصابعها قلقا على وحيدها الذي تأخر مع ( ألأحيمر ) ، و( البرشه ) نصف مغمضة العينين تكاد تنام وهي جالسة بعد أن أفرغت لصاحبتها كل شكاواها من مرارة العيش .

** العضباء **

قبيل منتصف الليل ، غادر الرجال العجائز ( برج الثالولة ) ، وظلت ( العضباء ) و( البرشه ) وحدهما . وضعت الثانية رأسها المتعب على عارضة خشبية كانت تسند صفيح الجدار ، وأطلقت لشخيرها العنان في نوم مضطرب ، كلّمت نفسها خلاله ، أو كلّمت غيرها في كابوس ، وظلت أذنا ( العضباء ) تتلقفان حركات الكلاب والقطط السائبة في ألأزقة ، وحتى الفئران الهاربة من وإلى البيوت .

شعرت بالندم ( يقتلها !! ) لأنها مازالت تزج وحيدها ( في جهنم الحرب ) من أجل بضعة دنانير قد لا تؤمن وجبة طعام كاملة للعائلة ، وكانت ترتجف رعبا كلما نز في ذهنها سؤال : ــ ماذا لو قتل ( زمن ) ؟! ماذا لو حدث له مكروه في مكان تجهله ؟! ماذا لو ..!!؟؟ .

هي تعرف أن حظها سئ ، إذ عندما إقتنعت ( صمود ) بأخذ إبنتها إلى المستشفى ، قصف ألأمريكان الفرقة الحزبية خلف قصر ( الشيخ بعيو ) فعادتا مرعوبتين إلى ( التانكر ) خوفا من تكرار القصف كما إعتاد هؤلاء أن يفعلوا ، وظلت تتبوّل يوما كاملا ، بدون بول في بعض ألأحيان ، كما ظلت الطفلة مريضة تعاني من إسهال غريب ، رغم وصفات الشاي المرّ وماء اللبن الخاثر ونقوع ( نوم البصرة ) وغير ذلك من وصفات العجائز .

وعندما إلتقطت أذناها صوت أقدام مصحوبا بصوت عجلات عربتها الخشبية ، التي تعرفها جيدا ، في الزقاق ، قبيل صلاة الفجر بقليل ، نهضت كالملسوعة وركضت خارجة من ( برج الضغط العالي ) ، تتبعها ( البرشه ) بعينين ناعستين ونظرة بلهاء . إحتضنت ( زمن )) وشمت رائحته ثم قبلت راسه وهي تربت على ظهره بكفها السليمة بحنان ، وهو يحاول أن يتملص من قبضتها ، قائلا بمرح : ــ لو لم تظهري في التلفزيون مع بندقية الحكومة لكنت ألآن مع عميّ ( دليو ) نأكل من خبز الحكومة !! فكروا أننا جواسيس !! .

: ــ هل بلت ؟! .

سألته ( العضباء ) التي فهمت من كلامه أنه تعرّض لمغامرة خطيرة .

أجاب : ــ نعم تبوّلت !! أخذوا الخراطيش منا ، ونال كل واحد منا صفعتين !! لا !! ( ألأحيمر ) كان أفضل حظا مني !! نال ثلاثا رنانات طنانات لأن خده العريض ( أعجب !! ) الضابط الذي عرف أنك أمّي فعلا من بطاقة هويتي !! .

** البدراني **

إقترح عليّ صديقي ( بكر ) أن أهرب عن طريق ( السليمانية ) ، عبر أيران ، إلى تركيا . قال لي : ــ الطريق أطول وأكثر إتعابا ، ولكن هذا أفضل من فخاخ مخابرات الحكومة لكثيرين جاءوا إلى ( دهوك ) أو ( أربيل ) في الفترة ألأخيرة وإنتهوا في سجون الحكومة عن طريق مهربين وهميين ، فضلا عن أن اجور مهربي ( السليمانية ) أقل من أجور المهربين هنا !! .

وزوّدني برسالة إلى أحد أقاربه هناك يوصيه بي ( كاخ عزيز !! ) ، كررها عدة مرات في رسالته ، ثم أخذني إلى مرآب المدينة وأوصى سائقا يعرفه هناك أن يفيد ( للبيش مركة ) في ( السليمانية ) أنني قادم من ( كركوك ) ، وأن لاعلاقة لي بأي بشر في ( أربيل ) أو ( دهوك ) ، كي لا أقع في مطب الصراع الدموي الحاصل بين الحزبين الكرديين المتنافسين من أجل ألإستيلاء على منفذ ( إبراهيم الخليل ) الحدودي مع تركيا ، بعد أن وصلت أعداد القتلى من الطرفين إلى ألألوف .

كان ( البارتي ) ، الذي يسيطر على ( دهوك ) و( أربيل ) و ( زاخو ) قد إستعان قبل أسابيع بالحكومة في ( بغداد) لطرد ( اليكّتي ) ، جماعة جلال الطالباني ، ومؤازريه ألأيرانيين من المنطقة ، وفر هؤلاء إلى داخل ألأراضي ألأيرانية ، ثم عادوا إلى (السليمانية ) بعد أن إنسحب الجيش العراقي من ( أربيل )، فشكلوا ( حكومة ) راحت ( بيشمركتها ) تتطاحن مع ( بيش مركة ) ( البارتي ) على طول قرى التماس بين الحزبين .

خبأت في كمّي قميصي خمس مائة دولار ، وفقا لتوصية ( بكر ) ، الذي أخبرني أن اللصوص قد ( يقتلونك من أجل مثل هذا المبلغ!! ) ، وخبأت ثلاث مائة دولار في جواريبي ، ووضعن مائتين في جيبي . ودعت ( بكر ) ، وانا أكاد أبكي ، في مرآب ( دهوك ) على فكرة أنني أودع آخر من عرفته في حياتي في لحظات أهم فيها بدخول عالم الغرباء ، مذهولا بسرعة إنسياقي نحو مصير مجهول من جراء طلقتين طائشتين .

هدأت نفسي ب (الخير في ما إختاره الله ) طوال الطريق الجبلي ، الوعر ، والرائع الجمال ، نحو الحرية أو الموت . وعند أول سيطرة ( للبيش مركة ) التابعين لحكومة ( اليكّتي ) خضعت لتحقيق مطول ، ومكتوب ، في غرفة ضيقة من قبل محقق كردي كان قد تلقى غمزة من السائق مع حديث خاطف بالكردية عن ( كركوك ) و (اللواء الركن محمد مظلوم الدليمي !! ) ، وأمور أخرى ، تغيّرت ملامح المحقق على أثرها من الحيادية القاسية إلى ألإحترام الواضح بعد أن أبرزت له بطاقة هويتي كمدرّس في مديرية تربية ( ألأنبار ) .

وعندما غادرنا السيطرة قدم لي السائق سيكارة ، ثم أشعل واحدة لنفسه ، ونصحني بوديّة وحرارة : ــ إذا سالوك مرة ثانية فقل أنك معارض . ولا تعط إسمك الصريح لأحد لاتعرفه ولا تثق به منذ ألآن . مخابرات الحكومة هناك أيضا ، ولكن بشكل أقل مما هي عليه في ( دهوك ) و( أربيل ) . ستجد الكثير من العرب هنا . لديهم مقرات حزبية معارضة للحكومة وقد يسهلون لك السفر إلى الخارج ، ولكن عليك ، وأقولها لك صراحة ، أن تكون حذرا منهم أيضا !! تغيرت الدنيا يا أخي !! .

** الثالولة **

كان صباحا باردا جدا ذلك الذي إجتمع فيه وجهاء ( الثالولة ) في ( برج الضغط العالي ) ، بدلا من مقهى ( أخو عرنه ) تجنبا لمصادمة مسلحة أخرى محتملة بين أتباع ( الشيخ بعيو) وطالبي الثأر الذين قتلوا إبن عمه ( الشيخ معيط ) . ترك رجل عجوز لدوي مرور طائرة أمريكية أن يتوارى ثم تساءل جادا : ــ يا جماعة !! يبدو أن ( البدراني ) مطلوب للحكومة !! رأيته البارحة يركض ، كما بطة عرجاء نشيطة ، حاملا كيسا صغيرا بيده ، حالما دخلت قوة التفتيش !! .

قال العجوز ( الغاضب دائما ) : ــ ومن منا غير مطلوب للحكومة ؟! بنينا الزبالة التي نسكنها ألآن على أرض الحكومة دون إذن منها !! أولادنا هاربون من الخدمة العسكرية !! لم يشارك أكثرنا في الجيش الشعبي !! نعمل في تهريب الممنوعات !! حتى نغني ( روح بيهه وع الزلم خليهه ) بطريقة أخرى !! سجون مراكز الشرطة كانت قبل الحرب محجوزة لأولادنا لكثرة مشاكلهم في المدينة !! فلماذا لايهرب الرجل بدلا من الذهاب لمدة ( خمس دقائق !!) مثل ( دليو ) الذي ذهب في ( درب الصّد مارد ) ؟! وهل تستطيع أن تزكّي نفسك من كل هذا ؟! .

: ــ أنت تخرّب جلساتنا دائما بالسياسة !! .

قال له العجوز ألأول محتجا .

اجاب ( الغاضب دائما ) : ــ نعم أنا أكبر سياسي !! قم وأخبر الحكومة عني !! والله إذا بقي ألأمريكان و( البيش مركة ) والمتآمرين العراقيين معهم سأسجّل نفسي بعثيا وسأحمل السلاح ضد الجميع !! . ماهذا الذل ؟!! .

: ــ ستنال مكرمة كبيرة من ( السيد الرئيس ) الذي لاتعلم امّه أين هو ألآن ، ولكن بعد أن تطرد كل من ذكرتهم بخمس طلقات !! ثم أرجوك لاتتمخّط ثانية على هذه ألأرض التي نصلّي عليها !! .

قال العجوز ألأول .

فنهض الثاني وتمخّط خارج البرج ، وعندما عاد ظل واقفا وهو ينظر نحو الجميع بحدة ثم تساءل غاضبا : ــ ألأمريكان و( البيش مركة ) والخونة سيدخلون ( الموصل ) . هل فكرتم ماذا نفعل إذا وصلوا ؟! .

: ــ نطلق الخمس طلقات ونعود إلى بيوتنا ريثما يفرجها الله !! .

أجاب ألأول مناكدا صاحبه وهو يسعل ، فرفع العجوز ( الغاضب دائما ) عصاه وصاح : ــ هذا كلام اشباه الرجال غير الشرفاء !! ( ريثما يفرجها الله )!! الله لايفرجها عليك ولا على أمثالك !! .

قال الجملة ألأخيرة مقلدا كلام صاحبه بطريقة مضحكة .

: ــ تخسأ يا كلب !! أنا رجل !! وشرفي معروف قبل أن تولد أنت !! .

قال العجوز ألأول غاضبا وهو ينهض باحثا عن أي شئ يستطيع ضرب صاحبه به ، بينما قال العجوز ( الغاضب دائما ) : ــ حتى الكلاب تدافع عن أوجارها يا جبان !! .

وتقدّم ليضرب صاحبه بعصاه ، ولكن الحضور منعوهما من ألإشتباك ببعضهما ، وأقنعوا ( الغاضب دائما ) بالذهاب إلى بيته فغادر وهو يلقي بأقذع الشتائم ضد ( كل جبان لايدافع عن وطنه ضد ألأجانب !! ) ، ولكنهم فوجئوا به يعود بعد قليل ويقول لغريمه غاضبا : ــ شوف يا ول !! يا أجرب !! يا أبو نحناحة !! يمكن أنت جاسوس أمريكي !! .

: ــ تخسأ !! تخسأ يا أبو مخطة !! أنا جاسوس على بلدي ؟! والله سأذبحك هذا اليوم !! .

** العضباء **

ثمة خيوط اولى لأشعة الفجر تتكسّر على ألآفاق البعيدة للمدينة ، التي مازالت تنفث أشجار دخان من جرّاء القصف مذ بدأت الحرب ، وثمة لذعة برد ، لذا إلتفّت ( العضباء ) بعباءتها ، كما فعلت ( صمود ) ، وإنحدرتا من قرب ( برج الضغط العالي ) ، عبر الزقاق الذي يكاد يتسع لمرور شخصين في آن ، نحو ( سيد فولاذ ) و( قنطرة الحرية ) المجاورة لمقهى ( أخو عرنه ) .

صادفتا بعض المارة المبكّرين من اهالي ( الثالولة ) ، الذاهبين أو العائدين ، من وإلى أمكنة ما ، ووحدها (العضباء ) كانت ترد ّ بصوت مسموع على تحيات الصباح ، بينما حافظت ( صمود ) على تجهّمها وردّت التحيات بتمتمات غير واضحة ، وهي تحتضن طفلتها النائمة تحت العباءة .

فاجأهما رذاذ مطر خفيف ، لم تبال به ( العضباء ) قبل أن تصلا الشارع العام شبه الخالي من السيارات ، بينما كانت الخطوط البيض التي تخلفها الطائرات المغيرة على المدينة تتشوه في ألأعالي تحت أشعة الشمس التي لم تمس ألأرض بعد . ولم تتوقف لهما كل السيارات التي مرت رغم ألإشارات العصبية التي أطلقتها ( العضباء ) وهي تردد خلف كل سيارة لاتتوقف : ــ الله لايرضى عليكم !!الله لايرحمكم !! .

وظلت ( صمود ) ساكتة على يأسها ، منذ أيام ، من جدوى المحاولة . إستيقظت الطفلة على صوت إنفجار قريب وراحت تبكي متوجعة من حمّاها ، ونجحت ( العضباء ) في إستيقاف جرار يسحب عربة تساءل صاحبه عما تريده بإشارة من يده ، فصاحت كي يسمعها : ــ إلى المستشفى !! الله يرضى عليك !! .

قال الشاب : ــ سأصل إلى ( دورة الموصل الجديدة ) ، ومن هناك أذهب بعيدا عن المستشفى لأمر ضروري يا عمتي !! . ولكن الدورة قريبة من المستشفى وقد تعثرين على من يوصلك .. !! .

وقبل أن يكمل كلامه ساعدت ( العضباء ) إبنتها ( صمود ) على الصعود إلى العربة ثم اطلقت آهة إرتياح وهي تجلس على أرضية العربة الفولاذية مرددة : ــ الحمد لله !! الحمد لله !! .

ألقمت ( صمود ) ثديها للطفلة الشاحبة التي فقدت الكثير من وزنها خلال ألأيام القليلة الماضية ، وخطفت طائرتان أمريكيتان نفسيهما من فوق الجرار مخلفتين صراخا مقززا دوت بعده عدة إنفجارات في مكان قريب .

توقف الجرار لرجل عجوز بصحبة ثلاث نساء باكيات ، على خبر وصلهن عن إبن واحدة منهن ( أصيب بجروح ) من جراء قصف الليلة الماضية ونقل إلى المستشفى ، أثناء عودته إلى البيت مساء من عمله كخباز في أحد ألأفران ، وظل الرجل العجوز ساكتا طوال الطريق وهو يدخن محدقا في سبحة طويلة تنزلق حباتها من بين أصابعه الهزيلة ببطء .

ثم توقف الجرار لشابين إلتزما الصمت مذ صعدا إلى مؤخرة العربة ، وقد بدا على وجهيهما حزن واضح زاد من معالمه إسرافهما في التدخين . وعندما وصل الجرار دورة ( الموصل الجديدة ) قفز الشابان بنشاط نحو ألأرض ، ثم ساعدا العجائز على النزول ، ومضيا مسرعين نحو المستشفى الجمهوري تتبعهما جوقتان من النساء ورجل عجوز يمشي متأخرا عن الجميع مع سبحته الطويلة .

** البدراني **

في ساحة ( مولوي ) ، وانا أرى ( السليمانية ) لأول مرة في حياتي ، وقفت ( غريبا !! ) للمرة ألأولى في حياتي أيضا ، إلا من حقيبة سفري الصغيرة بينما كانت الجوامع تطلق آذانات العصر . بحثت في وجوه المارة والمحلات التجارية عن أمر ما ، ربما أية رابطة بماض قدرت انه إنتهى في هذا المكان ، ولم أجد غير الدخول إلى أول فندق صادفني ، متجاهلا قدمه الواضح ورائحته الحريفة على فكرة أن ( إقامتي فيه لن تطول ) .

وقفت أمام منضدة إدارة الفندق فترة طويلة ، فكرت خلالها أن لا احد هناك ، وكدت اغادر في اللحظة التي خرج فيها شاب من الداخل رشق في وجهي ( السلام عليكم ) مع إبتسامة باردة وطلب بطاقة هويتي ثم سألني عن عدد ألأيام التي سأمضيها في الفندق فأجبت : ثلاثة !! . على الفور ، دفعت أجورها مقدما ، ( حسب التعليمات ) ، ثم تبعته في ممر مظلم على وصايا أنني يجب أن اودع ممتلكاتي الثمينة في ألإدارة وبعكس ذلك فهم غير مسؤولين عن فقدانها او سرقتها ، وأنني يجب أن أراجع مديرية ( ألأسايش ) غدا صباحا لتسجيل دخولي إلى المدينة والحصول على إذن بالبقاء فيها .

صدمتني رائحة غريبة في الغرفة ، ذات الباب الخشبي العتيق ، وألأسرّة ألأربعة ، التي فرشت عليها بطانيات رثة ، مبقعة ، بعضها ممزق . وضعت حقيبتي تحت سرير قدرت أنه انظف ألأسرة ، وجلست مغمضا عيني لأعتاد الظلام وتلك الرائحة الحريفة التي لم أشم مثلها من قبل قط . أزحت ستارة ناصلة اللون عن الشباك فواجهتني نوافذ العمارات المجاورة المعتمة هي ألأخرى ، نتيجة لإنقطاع الكهرباء .

أقفلت الغرفة ، حسب التعليمات ، وأودعت المفتاح لدى ( ألإدارة ) المضاءة بالشموع . لمحت رجالا وطفلين عند التلفزيون المطفأ . ونزلت الدرجات المتآكلة نحو الشارع من أجل العشاء في أول مطعم . عندما عدت منقبضا من كل ما رأيته على شعوري بالغربة ، على أمل العثور على قريب صديقي ( بكر ) غدا صباحا ، وجدت التلفزيون يعمل على مولّدة كهربائية خاصة بالفندق ، صوتها المزعج كان يدوي في الممرات .

أغواني ترف الفضائيات الممنوعة في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة بالجلوس في القاعة الصغيرة على قذارتها اللافتة . ألقيت التحية على مجموعة من الرجال وجلست على أول مقعد شاغر صادفني ، فقدم لي رجل سيكارة أخذتها منه شاكرا وأشعلت له سيكارته من قداحتي كما تقتضي ألأصول . سألني بعربية سليمة ودون مقدمات : ــ ألأخ من ( الموصل ) ؟! .

أجبت على الفور : ــ نعم .

: ــ أهلا بك !! أنا من ( بغداد ) !! زوجة أخي من ( الموصل ) وهي طبيبة !! أخي مهندس !! .

قال ذلك بسرعة وهو يمدّ يده لي مصافحا فصافحته ، وإنتبهت لوجهه ألأسمر النحيل على ضوء التلفزيون بينما إسترسل هو في الكلام : ــ أنا ( عدنان عبدالله عدنان ) . عقيد ركن .

فإبتلعت لعابي وانا أقدم له نفسي بإسم مستعار خطر ببالي توا : ــ ( عبد الكريم عيدان ) . موظف .

: ــ تشرفنا بك أخي ( عبد الكريم ) !! .

قال العقيد الركن ، ثم تساءل بأدب بعد صمت قصير : ــ زيارة أم معارضة ؟.

: ــ معارضة .

أجبت على الفور .

ودار في ذهني أن الرجل لايمكن أن يكون بمثل هذه الرتبة الكبيرة في الجيش من خلال زيّه وطريقته في الكلام وملامح وجهه ، ولكنني تجاوزت ألأمر عندما إسترسل هذا بحرارة لم أتوقعها : ــ أنا معجب بأهل ( الموصل ) . كنت آمرا لكثيرين من الضباط من هذه المدينة العريقة . نصف ضباط الجيش العراقي من عندكم !! . يعني بيننا ، أنا وأنت روابط . لجات منذ شهر إلى ( السليمانية ) . ولدي أصدقاء قد ينفعونك هنا !! .

** الثالولة **

راحت مجاميع من المسلحين تدخل وتخرج علنا من ( الثالولة ) ، من وإلى البر الغربي ، وعمق المدينة ، بعد أن إنكسر حاجز الخوف من حمل السلاح مذ دخلت طلائع الجيش ألأمريكي و( البيش مركة ) الجهة الشرقية من محافظة ( نينوى ) ، في طريقها نحو ( الموصل ) .

وكان اكبر تجمع لهؤلاء قد إلتأم بعد الظهر قبالة دكان ( كاشان ) ، وراحوا يتبادلون أحاديث مختلفة عن الحرب ، وألأمريكان الذين خالفوا ( الشرعية الدولية ) ، وعن الحكومات العربية ، وألأكراد الذين آزروا ألأمريكان مع بعض ( الخونة ) العرب ، وعن ( الرؤوس الكبيرة ) التي إختفت تاركة دوائر الحكومة سائبة ، كما بيوت هجرها أصحابها مرعوبين .

وكان أكثر ألأسئلة ترددا : ماذا نفعل ألآن ؟! .

وعندما مرّ ( ملا ّ حمادي ) حاملا بندقية الحكومة قادما من ( خندق الثالولة ) ، شبه الفارغ من مقاتليه الذين تسرب أكثرهم وما عادوا إليه ، طرح عليه بعض هؤلاء ذات السؤال ، بوصفه آخر مظهر من مظاهر الحكومة ، فأجاب الرجل بصدق وحرارة وعلى وجهه إبتسامة حائرة : ــ والله !! علمي علمكم !! .

فإلتقط الساخرون ألإجابة في مقهى ( أخو عرنه ) وبنوا عليها ( أبوذية ) تقول : ــ علمكم !!

علمكم !!

بخمس طلقات ، إحموا علمكم !!

عراقيين !!

الموت هوّا علمكم

حتى ( بوش ) ،

( إبن تكساس ) ، ماقبلها !!

علمكم !!

من ثردتوا بماعونها وبعلمكم ،

شلون ،

يابا ، شلون ،

الكراسي تخرّب علمكم ؟! .

About Me

My photo
مؤمن بحقيقة تقول : إن شبرا من ألأرض يكفي لمتحابّين وألأرض كلّها لا تتسع لمتباغضين http://2arraseef.blogspot.com/