رواية " رؤوس الحريّة المكيّسة " . ثلاثة اقسام. جاسم الرصيف

Monday, December 10, 2007

القسم الثاني : رؤوس الحرية المكيّسة

** العضباء **

حاولت إستيقاف أربع سيارات مرت مسرعة على فترات ، إلا أن أحدا لم يتوقف لها ، وفي كل مرة كانت تطير خلف كل سيارة جملة من الشتائم اللاذعة على صاحب المصنع الذي صنع ( هذه النعالات المغشوشة !! ) ، بعد أن إنقطع نعالها فإضطرت للمشي حافية القدمين ، وهي تكرر أمنيتها على الله أن ( يشوي !! ) صاحب المصنع بنعالاته يوم القيامة مع السوّاق الذين لم يتوقفوا لها .

ثمة جمهرة كبيرة جدا من الناس أمام بوابة المستشفى ، تخترقها بين لحظة واخرى سيارة من سيارات ألإسعاف ، أو سيارات مدنية تحمل قتلى وجرحى ، رجالا ونساء ، وأطفالا ، من وإلى المدينة ، حيث علمت ( العضباء) من أقرب النساء المنتظرات أن موظفي المستشفى والشرطة لايسمحون لغير المصابين من جراء الحرب بالدخول .

وأخبرتها هذه أنها إنتظرت يوم أمس نهارا كاملا لإجراء فحص دوري لنسبة السكر في دمها دون أن يسمح لها بالدخول لكثرة القتلى والجرحى ، وانها قد تضطر هذا اليوم أيضا للعودة إلى بيتها دون إجراء الفحص مفضلة (الموت في البيت !! ) على الموت في هذا المستشفى الذي ماعاد يتسع لمريض ، ولم تتوقف المرأة عن ثرثرتها حتى دوت سلسلة من ألإنفجارات في المدينة .

جاهدت ( العضباء ) في شق صفوف الناس المتراصّة ، تتبعها ( صمود ) بصعوبة مع طفلتها ، حتى إقتربت من البوابة ، ولم تستطع التقدم أكثر من ذلك ، فوقفت حائرة ، غاضبة ، بعينين محمرتين ، تحت جرح جبهتها القديم ، الذي حكته لسبب غير واضح عدة مرات ، ثم إلتفتت نحو ( صمود ) شبه يائسة من دخول المستشفى دون أن تنطق بالسؤال الذي دار في ذهنها : ــ ماذا نفعل ألآن ؟! .

كان عواء سيارات ألإسعاف المغادرة أو العائدة إلى المستشفى مع حمولات جديدة من المصابين يبعثر الناس عن طريقها لثوان ، ثم يعود الحشد للإلتئام الفوضوي على البوابة الفولاذية ، تماما كما كانت تفعل عصي الشرطة التي إضطر هؤلاء لإستخدامها ضد من كانوا يريدون الدخول بالقوة ومن دون إذن من إدارة المستشفى المشغولة بإصابات الحرب ، لذا إنزلقت ( العضباء ) على الجدار وجلست على ألأرض وهي تردد : ــ فلننتظر مثل ألآخرين !! سيفرجها الله !! .

ولكنها نامت بعد قليل .

تعثر بها رجل فصاحت متألمة غاضبة : ــ الله يعميكم !! الله يا خذكم !! .

فاعلن الرجل أسفه وإعتذاره لها وأضاف : ــ والله لو اخذني الله لإرتحت يا أختي !! ثلاثة من أولادي جرحى حرب في الداخل ولا أستطيع الدخول لأرى ما هو مصيرهم !! وحدها صواريخ ( بوش ) وطائراته لم تصب بالعمى !! تضرب الجميع ، ووحدهم ... !! .

ثم سكت متلفتا بحذر عندما إلتقت نظراته بنظرات ( صمود ) ، التي كانت ترضع طفلتها تحت عباءتها ، بوجه مرعوب من كثرة الدماء البشرية التي رأتها على أجساد المصابين الذين كانت السيارات المدنية تنقلهم إلى المستشفى .

** زمن **

حمل بندقيته بعد العشاء وذهب نحو( تل الهوى ) ، وقبل ان يصل ( فم الضفدع ) فطن إلى انه يحمل البندقية وحيدا في ليل بارد دامس الظلام ( لأول مرة في حياته !! ) ، لذا شعر بنشوة لم يشعر بها من قبل قط خالطها بعض الزهو والقلق من الظلام .

تنفس بعمق وهو يراقب نجوما تتغامز من بين الغيوم ، وتلمّس ( لسان ألأمان ) في البندقية الباردة عدة مرات . (من هنا تبدأ الخطوة ألأولى لإطلاق النار !! ) . ينزل اللسان نحو ألأسفل ، ثم تسحب ألأقسام ، وتكون ( الطلقة ألأولى جاهزة للقتال !! ) .

: ــ يا هلا بإبن ( العضباء ) !!

صاح احد المقاتلين من بعيد . فإبتسم ( زمن ) ، ولم يعلق . لم يجد في ذهنه كلمة واحدة يرد بها على هذا الترحيب الحائر بين الجد والسخرية من فتى لم يطلق في حياته طلقة واحدة . مازال من تبقى من الرجال في الخندق يتعاطون الثرثرة عن كل شئ مع دخان تبغهم الرخيص .

مازحه ذات الرجل الذي رحب به منذ قليل : ــ يابا !! من حقك حتى أن لاترد على تحياتنا !! أمهاتنا لم يظهرن في التلفزيون ، وأمك يعرفها العراق كله ألآن !! .

ثم قدم ( لزمن ) سيكارة فصاح ( ملا ّ حمادي ) مستنكرا : ــ لاتخرّب الولد يا رجل !! .

أشعل هذا السيكارة لنفسه ثم قال ساخرا : ــ سيخرب مادام في ( الثالولة ) !! .

فرش ( زمن ) بطانيته بعناية داخل الخندق دون تعليق . أوصته ( العضباء ) منذ الفجر، وقبل أن تذهب إلى المستشفى ، ربما للمرة الرابعة أو الخامسة ، ( ألا يثرثر في السياسة بشكل خاص !! ) ، وأن ( يطيع من هم أكبر سنا ) . وعاد يراقب النجوم غامضة النبضات وأقمار التجسس التي لا تكاد جهة من الليل تخلو منها .

: ــ ماذا سمعت اليوم في السوق يا إبن ( العضباء ) ؟! .

عاد الرجل يسأله .

بدا كمن يحتاج إلى إنسان آخر يبادله الثرثرة ، أية ثرثرة .

صاح ( ملا ّ حمادي ) محتجّا : ــ أترك الولد يا رجل !! .

ومضت أطراف المدينة عدة مرات قبل أن تدوي أصوات ألإنفجارات ، وببطء نزّت الحرائق متوهجة تحت أشجار داكنة تتعملق في ألأفق . سكت الخندق لحظات ثم عاد الرجال إلى ثرثرتهم المصحوبة بوهج سيكائر كما نجوم صغيرة تضئ ثم تنطفئ على طول الخندق .

: ــ صدري يضيق !! يكاد ينفجر !! .

قال الرجل دون أن يوجه كلامه لأحد في هذه المرة .

تنهد ( ملاّ حمادي ) قبل أن يقول بلهجة عزاء : ــ المكتوب على الجبين لابد تشوفه العين !! .

عندئذ أشعل هذا ضوء بطارية وجهه نحو جبينه وهو يسأل ( ملا ّ حمادي ) ساخرا: ــ ماذا تشوف على جبيني ؟!

: ــ خراء !! .

صاح رجل من الطرف البعيد ( لفم الضفدع ) وهو يضحك .

** الثالولة **

قبيل منتصف الليل كانت ( العضباء ) وإبنتها ( صمود ) تقتربان من مقهى ( أخوعرنه ) عائدتين من المستشفى . صاحت ( العضباء ) عندما إقتربت من ( سيد فولاذ ) بصوت عال : ــ يبوه !! يا أهل الشيمة !! يبوه !! إلحقوني !! .

فأسرع نحوها عدة رجال قالت لهم وهي تولول باكية : ــ الطفلة ماتت عند باب المستشفى !! ماتت !! يبوه يا الحظ ألأسود !! قتلوها !! قتلوها !! لم يسمحوا لنا بالدخول !! يا أهل الغيرة !! إنفجعنا !! إنفجعنا !! .

في ( برج الضغط العالي ) إنصرفت ثلاث عجائز لغسل جسد ( هجران ) الصغير ، بينما إنصرف بعض الرجال ومعهم ( البدراني ) لحفر قبر وجمع عدّة الجنازة . وجهز شاب تطوع لقراءة القرآن مكانا نظيفا له في الفسحة الصغيرة الفاصلة بين ( التانكر ) والبرج وهو يردد الدعاءات على ضياء عدة فوانيس تبرع بها الجيران .

بعد صلاة الفجر ، وبينما كانت ( العضباء ) ، تولول ذاهلة في واحدة من زوايا البرج إلى جوار جسد حفيدتها ، راحت مجموعة من جاراتها يطبخن طعاما للمعزين المبكرين ، غير مباليات بمجموعة من ألإنفجارات دوت في أماكن قريبة ، ولابطائرات خطفت نفسها في فضاء ( الثالولة ) .

وسرعان ما تحول مجلس العزاء ، بعد شروق الشمس ، إلى ثرثرة بين الرجال العجائز عن ( بوش ) و( صدام ) ، والخونة العراقيين الذين جاءوا مع الدبابات ألأمريكية ، واليأس ألأكيد من عجز الحكومات العربية عن إنقاذ العراقيين من مخاطر الحرب الجديدة .

حضرت مجموعة من المسلحين ، أغلبها من الشبان المطلوبين للحكومة . قرأوا سورة الفاتحة وقوفا ، إذ لم يتسع لهم المكان الذي ضاق بالرجال العجائز ، ثم دس ّ واحد منهم مبلغا من المال في يد ( العضباء ) السليمة ، حاولت هذه رفضه شاكرة ، ولكن هذا ألح ّ عليها لقبول المساعدة لتغطية نفقات العزاء .

وعندما إستأذن هؤلاء للإنصراف ، سألهم رجل عجوز بصوت عال : ــ ماذا ستفعلون يا أولاد للأمريكان و( البيش مركة ) وذيولهم عندما يصلون ( الموصل ) ؟! .

أجاب من بدا ( كبيرا ) بين جماعته بلهجة لاتخلو من تحدّ : ــ الله كريم يا عمي !! هذا بلدنا وليس بلدهم ، والعون من الله !! .

** كاشان **

أيقضها ( البدراني ) ، على غير العادة ، مبكرا وأجاب عن نظرة الدهشة في عينيها الناعستين بهدوء لم يخل من شماتة مبطنة : ــ ( المخضرم ) ومعه رجل غريب في حوش البيت القديم .

أسرعت هذه وغسلت وجهها . وضعت بضعة خطوط من الكحل على عينيها ، ثم خرجت مسرعة نحو الحوش . ومن ملامحه شخّصت ( كاشان ) في وجه ( الغريب ) رجلا كرديا بسروال مكوي بإتقان مع سترة ثمينة . وبعد تبادل التحيات ، التي أسرف بها الرجل الغريب ، طلب منها ( المخضرم ) الذهاب إلى الدكان من أجل حديث خاص ، إذ لم يشأ أن يسمعه ( البدراني ) .

قال لها ( المخضرم ) ، في الدكان ، وهو يشير نحو صاحبه بفخر : ــ (كاكا صالح ) !! .

فإبتسمت على صدق حدسها من لقب ( كاكا ) الكردي ، وحافظت على يقينها أن ألإسم مستعار ، كما جرت العادة عند كل الذين يتعاملون بالممنوعات ، ولكنها أطلقت : ــ أهلا وسهلا !! بحيوية وحرارة صارت مفتاحا لحديث سريع من ( المخضرم ) وهو يوضح لها أن ( الجماعة ) ، وأشار نحو ( كاكا صالح ) ، وافقوا على مبلغ ستة آلاف دينار للقنبلة ويريدون معرفة الكمية التي تحتاجها من هذه البضاعة .

كانت هي تفكر بأن هذا ( الكاكا ) صاحب ذوق رائع في إختيار العطور ، ولكنها أجابت دون أن تلتفت نحو( المخضرم ) : ــ على التصريف !! .

عندئذ تدخل ( كاكا صالح ) للمرة ألأولى في الحديث وهو يشعر بشئ من الحرج من نظرات( كاشان ) التي دققت كل ملابسه وملامحه بجرأة نادرا ما تتمتع بها إمرأة مع غرباء عنها : ــ زين !! سأرسل لك خمسا وأربعين ، ومع الخمس القديمة يكون مجموع ماعندك خمسين .

ضحكت ( كاشان ) وطيّرت كفها البضّة نحو الفضاء وهي تقول له بمرح لم يتوقعه منها : ــ الخمسة القديمة طارت !! صادرتها قوة التفتيش قبل يومين أو ثلاثة ماعدت أتذكر !! رماها ( البدراني ) في ( مزبلة الشيطان ) وعثروا عليها هناك . ولن أدفع فلسا عنها لأن ( المخضرم ) تركها عندي دون إتفاق !! .

تجاوز ( كاكا صالح ) علامات ألإحتجاج على وجه ( المخضرم ) وقال لها متظاهرا با لمرح هو ألآخر : ــ زين !! ليست مشكلة كبيرة !! سأرسل لك خمسين ، ولدينا بضاعات أخرى سنتفق عليها في وقت آخر !! .

: ــ شكرا !! .

قالت ( كاشان ) ، ثم كررت الشكر ، وهي تلقي في عيني ( كاكا صالح ) نظرة إعجاب صريحة ، فمد ّ هذا يده وصافحها بقوة وحرارة إستجابت لها كفها بسهولة .

** زمن **

في ساعة متأخرة من الليل صحا ( زمن ) على بكاء رجل في الخندق . كانت ألإذاعات تتناقل خبر دخول الجيش ألأمريكي إلى ( بغداد ) ، وواصلت جمرات السيكائر توهجها على طول ( فم الضفدع ) العالق على ( تل الهوى ) . بكى رجل آخر ، ثم بكى ثالث ، ومسح ( ملاّ حمادي ) دموعه بكم قميصه . اطلق أحدهم إطلاقتين نحو الفضاء ، ثم خيم على الخندق صمت المآتم الكبيرة .

ذكّر أحدهم ( ملاّ حمادي ) بآذان الفجر الذي حان فتظاهر هذا بأنه لم يسمعه .

كرّر الرجل : ــ ألآذان يا ( ملا ّ )!! .

عندئذ قال هذا بصوت مبحوح باك : ــ لا أستطيع !! لا أستطيع !! .

ثم إنخرط في نوبة بكاء صريح .

شعر ( زمن ) بأنه يكاد يبكي هو ألآخر ، ولكنه لم يبك .

سيطر البريطانيون على ( البصرة ) ، وألأمريكان قادمون مع ( البيش مركة ) نحو ( الموصل ) . تساقطت المدن واحدة بعد أخرى ، وإختفت الحكومة تماما عن الفضائيات والمذاييع ، وإختفى الجيش والجيش الشعبي ، حتى قوات الحرس الجمهوري ، التي كانت أقوى التشكيلات العسكرية التي يأمل الناس منها عملا ما كبيرا ضد قوات ألإحتلال .

: ــ ماذا نفعل ألآن ؟! .

سأل أحدهم ( ملا ّ حمادي ) .

أجاب هذا بصوت مشروخ : ــ لا أدري !! والله لا أدري !! .

وعادوا يثرثرون عن ( بغداد ) وألإحتلالات القديمة التي تعرضت لها ، فصرخ أحدهم غاضبا :ــ أرجوكم !! لا تقولوا ( بغداد ) سقطت !! أرجوكم !! ( بغداد ) لاتسقط !! قولوا الحكومة ( سقطت ) !! قولوا ( صدام ) سقط !! ولكن ( بغداد ) لن تسقط ونحن أحياء في هذا البلد !! .

وبدت أوائل أشعة الشمس ، من خلف الجبال البعيدة ، غير أليفة كما كانت من قبل ، وكأنها شمس أخرى غريبة ، قادمة من الجهة التي يتقدم منها ألأمريكان و( البيش مركة ) لدخول ( الموصل ) ، بينما القصف يتوالى على أطرافها وعمقها وتتوالى أشجار الدخان في نموها نحو الفضاء الرصاصي الثقيل مصحوبا ببضعة خطوط خلفتها الطائرات المغيرة .

نهض مقاتل عن ألأرض . دعك سيكارته تحت حذائه بشدة و أطلق طلقة نحو الجنوب ، وطلقة نحو الشرق وطلقة نحو الشمال ورابعة نحو الغرب ، وأطلق الخامسة نحو السماء ، ثم رمى البندقية الفارغة غاضبا نحو الخندق ، وإنحدر بخطى وئيدة نحو الثالولة التي إستيقظت مبكرة كعاتها .

** 2 **

** الثالولة **

إنقسم المعزّون إلى فرق ، منها من رأى أن خطة ما ، قد اعدها ( السيد الرئيس ) ستنفذ ألآن ، وسيطرد بها قوات ألإحتلال ، كأن تكون حرب تحرير شعبية ، بينما رأى فريق آخر أن الحكومة ( سقطت !! ) ، مذ هربت (الرؤوس الكبيرة ) نحو ملاذاتها السرية وتركت الناس تواجه مصيرا أسود مع ألأمريكان والبريطانيين ، ورأى فريق ثالث أن القتال واجب على الجميع ألآن بغضّ النظر عن مساوئ الحكومة التي سقطت ، إذ لايمكن أن يترك البلد للأجانب والخونة الذين جاءوا معهم ، وظل فريق رابع ساكتا ، ومنهم ( البدراني ) ، ينصت بإنتباه إلى ما يقوله الجميع .

قال العجوز( الغاضب دائما ) : ــ لعن الله النفط !! جلب لنا كل هذه المصائب !! .

ثم نظر نحو العجوز الذي إعتاد أن يناكده في كل ما يقول ، ولكن هذا ظل يلفّ التبغ الرخيص بهدوء ، ثم نتف ورقة ( البافرة ) بأصابعه ولفّها جيدا قبل أن يشعلها له شاب كان يجلس إلى جواره . أخذ نفسا طويلا من سيكارته ، بينما كان الشباّن يتغامزون مبتسمين على تواطؤ يشير إلى أن مشادة ما ستحصل بين العجوزين ، ورفع ( المناكد ) منخريه نحو ألأعلى مع خيط من الدخان قبل أن يقول ( للغاضب دائما ) بهدوء مدهش : ــ لأول مرة تصدق في حياتك !! .

ضحك الحضور ، وصرخ ( الغاضب دائما ) : ــ يا كلب !! .

ونهض مستعينا بيد راعشة على عصاه التي حاول ضرب صاحبه بها ، بينما إستمر هذا في التدخين دون أن ينهض عن مكانه غير مبال بتهديدات ( الغاضب دائما ) الذي قال من بين شباّن ثلاثة منعوه من إستعمال عصاه : ــ سأقول للأمريكان أنك شريك ( إبن لادن ) !! .

فضحك العجوز ( المناكد ) وقال : ــ وأنا سأقول لهم أنك شريك ( صدام حسين ) !! .

** كاشان **

لبست ثيابا داكنة تليق بمجالس العزاء وتعطرت ثم إتجهت فخورة بنفسها نحو ( برج الضغط العالي ) الغاصّ برجال ونساء وأطفال يؤدون مراسم العزاء ( للعضباء ) في حفيدتها . إستقطب حضورها نظرات الرجال المعجبة بأرملة جميلة وصاحبة دكان وحيد في الحيّ ، وهي تقبّل ( العضباء ) وإبنتيها ، المتشحات بالسواد ، وجلست في (التانكر) ، ثم قرأت ( سورة الفاتحة ) بصوت عال إثباتا ( لحفظها الجيّد ) لآيات القرآن والذي يعد إمتيازا مضافا لها على النساء ألأمياّت الحاضرات ، فضلا عن إمتيازاتها ألأخرى ومنها أنها ( القابلة المأذونة ) الوحيدة في ( الثالولة ) القادرة على تزوير شهادات الولادة ( رسميا ) ، كما فعلت مع كثير من المواليد من اجل تثبيت ( مسقط الرأس ) في ( مدينة الموصل . المركز ) وليس قي القرى .

وفاجأها ( البدراني ) بعد قليل ، بإشارة من بعيد تدعوها للذهاب إليه ، فنهضت ممتعضة وهي تؤكد ( للعضباء ) أنها ستعود .

: ــ ماذا ؟! .

سألت ( البدراني ) عندما وصلته ، وهي تشعر بأنها تتعرّض لنظرات إعجاب أخرى من الرجال في ( برج الضغط العالي ) ، أجاب هذا بلا مبالاة : ــ ( كاكا صالح ) !! .

وشعرت هذه أن أمرا هاما دعى ( كاكا صالح ) للعودة إليها في نفس اليوم الذي إتفقت فيه معه على صفقة القنابل اليدوية ، على يقينها بأن الحكومة قد سقطت ، وكان عقد مثل هذه الصفقات مخالفة للقانون قد تنال حكم ألإعدام من جرائها ، لذا أسرعت وسبقت ( البدراني ) الذي كان يعرج ببطء ولا مبالاة متعمدة ، راح يظهرها لها مذ وجدها وحيدة من ( ألأحيمر ) في غرفة مغلقة .

كان ( كاكا صالح ) قد عاد وحده إليها بسيارة غير سيارة ( المخضرم ) ، وبادرها بتحية حارة وهو يفتح صندوق السيارة وينزل منه كيسا ثقيلا ، مع كلمة : ــ البضاعة التي إتفقنا عليها !! .

ثم سألها إن كانت تريد ان تتأكد من عددها فقالت له وهي ترشقه بإبتسامة واسعة ، لم تخل من بعض التغنج ، أنها ستأخذها ( على الثقة !! ) ، لذا تشجع هذا وغمز لها قائلا : ــ وهناك بضاعة أفضل من هذه ، تربحين منها الكثير الكثير ، سنتركها للأيام القادمة إذا نجحت في .. هذه البضاعة !! .

ثم مضى ، وظلت هي واقفة تستعيد نظرته الواعدة على بضاعة تربح منها ( الكثير الكثير ) ، وطلبت من ( البدراني ) أن يساعدها في حمل الكيس الثقيل إلى غرفة نومها ، حيث قالت له بفرح أذهله : ــ قنابل يدوية !! .

قال لها هذا بلا مبالاة : ــ عرفت !! .

ثم خرج دون أن يتسكع حولها كما كان يفعل قبل الحرب .

** زمن **

فقد خندق ( الثالولة ) ألإنضباط شبه العسكري الذي كان يحكمه ، تحت طائلة الخوف من عقوبة ألإعدام التي هدد (الشيخ بعيو) بها كل من ( يتخاذل ) في الدفاع عن الوطن ، بعد أن أكدت كل المذاييع الصغيرة في الخندق طوال ليلة أمس ، أن ألأمريكان قد سيطروا أولا على وزارة النفط ، مما أثار موجة من الضحك ، غادر بعدها اكثر المقاتلين الخندق مع خيبة أمل واضحة من كل شئ .

ومع أن ( زمن ) كان يود هو ألآخر أن يغادر الخندق إلا أن غريزته ووصايا ( العضباء ) بطاعة ( ألأكبر سنا ) ، منحاه الصبر على ربط مصيره بمصير ( ملاّ حمادي ) الحائر هو ألآخر ، صراحة ، بين البقاء في الخندق على أمل أن أحدا ما من ( الرؤوس الكبيرة ) سيزوره ويعطيه تعليمات أخرى ، وبين المغادرة يائسا من مرأى أحد من هؤلاء كما فعل أكثر الرجال الذين كانوا في الخندق .

وحدهما ظلا ّ في الخندق في ذلك الفجر . بدا( فم الضفدع ) موحشا في غياب ألآخرين ، وبدا( ملا ّ حمادي ) حائرا حزينا لايدري ماذا يفعل بعد أن أدّى آذان الفجر في ( برج الثالولة ) وعاد مكتئبا .

قال ( لزمن ) وهو يتنهد على دخان سيكارة رخيصة : ــ أمك تريدك !! فإذهب إليها !! .

قفز ( زمن ) من الخندق بحيوية تاركا بندقيته وبطانيته .

قال له ( ملا ّحمادي ) وهو يشير نحوهما : ــ خذهما معك .

: ــ ولكن هذه بندقية الحكومة !! .

قال ( زمن ) مستغربا .

همس ( ملاّ حمادي ) بأسف : ــ هي لك ألآن !! .

ثم إستدرك يائسا :ــ إلا إذا طلبتها الحكومة !! .

ثم بكى عندما لفظ مفردة الحكومة ، فإنحدر( زمن ) متباطئا نحو ( الثالولة ) . كان هو ألآخر ممتلئا برغبة في البكاء ، وهو يغادر الخندق للمرة ألأخيرة ، ولكنه لم يبك .

** الثالولة **

قبيل الغروب كان قبر الطفلة ( هجران ) جاهزا . رفع جثمانها قارئ القرآن الشاب عن أرض ( برج الضغط العالي ) ، فنهض الجميع . ومع ان احدا ما كان قد جلب ( التخت الخشبي ) الذي ينقلون ألأموات عليه عادة ، إلا ان قارئ القرآن فضل أن يحملها على ذراعيه فتبعه موكب طويل من الرجال والنساء وألأطفال .

وعندما وضعوا الجثمان في أسفل القبر وبدأوا يوارونه التراب بالمجارف إزداد لطم ( العضباء ) وإبنتيها ، ومزقت ( صمود ) صدر ثوبها وهي تبكي بصوت مبحوح محاولة منع الدفانين من مواراة جثمان إبنتها الذي تراه للمرة ألأخيرة .

أدّى الجميع صلاة الميت في شبه هدوء قطعته بعض ألإنفجارات ، ثم تعالى نواح النسوة . بكى بعض ألأطفال تناغما مع البكاء الجماعي ، وإرتعبت ( العضباء ) عندما إكتشفت غياب ( زمن ) عن أداء مراسم دفن إبنة أخته التي كان يمضي ساعات طويلة كل يوم في مداعبتها .

تساءلت بقلق : ــ أين ( زمن ) ؟! ألم يره أحد ؟! .

وعندما لم تسمع إجابة من أحد ، عادت مسرعة نحو ( الثالولة ) وهي تضرب صدرها بإنتظام بيدها السليمة ، بينما كان الدفانون يضعون صخرة كبيرة ، جلبوها من الوادي ، عند نهاية القبر من جهة رأس الطفلة الميتة ، وقام واحد منهم بنصح ( صمود ) بالتعرف عليها كي لاتضلّ القبر إذا عادت لزيارته في المستقبل .

جاء ( زمن ) من جهة ( تل الهوى ) ، وحيدا ، شاحب الوجه ، وفي عينيه آثار بكاء . سأل قارئ القرآن الشاب بصوت خافت وهو يشير نحو القبر : ــ يبدو كبيرا عليها !! حتى لم تفطم بعد !؟ .

فطلب هذا منه أن يقرأ ( سورة الفاتحة ) عن روحها أولا ثم قال له : ــ هكذا هم الشهداء في عيوننا . أكبر مما ألفناه عنهم .

عاد ( زمن ) من ذات الطريق الذي جاء منه نحو ( تل الهوى) ، بينما كانت ( العضباء ) عائدة من ( الثالولة ) ، ورأته وهو يتسلق سفح التلة الذي تدحرج عليه في اليوم ألأول للحرب ، عندما قذفه عصف ألإنفجارات في موقع الرشاشة المقصوفة بعيدا عن الخندق مع ذراع الجندي الشهيد التي مازالت تؤرّقها كل ليلة مذ رأت كفها ينازع بقايا الحياة فيه .

قالت ( العضباء ) شاكية ( للبرشة ) بعينين محمرتين : ــ هكذا إنقضى عمري !! لا أعرف هل أبحث عن ألأحياء خوفا عليهم من الموت ، أم أبكي على ألأموات الذين ذهبوا في غير أوانهم !! .

ومرت طائرات امريكية فطيّرت خلفها بحرارة : ــ الله لايرحمكم !! الله لايرحمكم !! .

** كاشان **

بعد ان ( تاكدت ) أن ألأمريكان قد دخلوا القصر الجمهوري ، وان معارك المطار الدولي قد إنتهت ، وإختفى ( الرئيس ) وعائلته وكل القادة والوزراء ، فكرت بأن ( زمنا آخر قد حلّ توا !! ) ، ولابد لها من أن تستثمره بشكل صحيح ، لذا كان أول مافعلته بعد أن وصلت هذا اليقين هو أن أعطت ( البدراني ) بطاقة هويته التي فقدها قبل أسابيع في ( وادي الحرامية ) وهي تقول له راسمة على شفتيها إبتسامة بذلت جهدها في أن تكون مغرية مهادنة وواعدة : ــ لا خوف عليك ألآن !! .

: ــ نعم مع ألأسف !! .

قال ببرود ولا مبالاة .

ومع انها فهمت ( نعم ) على واقع علمها بانه ( كان مطلوبا للحكومة بتهمة ما !! ) ، مازالت تجهلها رغم السنوات التي عاشرها خلالها معاشرة ألأزواج سرا وفاحت أخباره في ( الثالولة ) التي تنتبه حتى لنوع صابون ألإستحمام في مجاري مياه سواقي ألأزقة ، إلا أنها لم تفهم ( مع ألأسف !! ) التي قالها ( البدراني ) فسألته مستغربة : ــ وعلام ( ألأسف ) ؟! .

: ــ ألأسف على ( بغداد ) !! .

أجاب ثم إنحدرت دموع من عينيه سارع بمسحها وأشعل سيكارة ، أخذ عدة انفاس منها قبل أن يقول بصوت باك : ــ (( أدمنت أحزاني ، فصرت أخاف أن لا أحزنا !! وطعنت آلاف المرات ، حتى صرت أخاف أن لا أطعنا !! ولعنت في كل اللغات ، وصار يقلقني بان لا ألعنا !! )) .

ضحكت هذه قبل أن تقول له مندهشة : صرت شاعرا !؟ .

: ــ لا !! هكذا قال ( نزار قباني ) !! .

أجاب وأشعل سيكارة أخرى من عقب ألأولى ، نفث دخانها نحو طائرتين أمريكيتين تركتا خطين أبيضين في فضاء المدينة الرصاصي قبل أن يهمس : ــ صرت ألآن منفيا في بلدي بعد أن كنت مجرد مطلوب قد يعفى عنه .

: ــ لم أفهم !! .

همست هذه وهي تحاول التودّد له لمصالحته ، ولكنه أجاب بشئ من الحدة : ــ ولن تفهمي يا ( كاشان ) !! لن تفهمي أبدا !! .

قال ذلك ودعك عقب سيكارته بقسوة بكعب حذائه العتيق ، ثم خرج من الحوش حالما دخل ( المخضرم ) بسيارته وهو يصيح بفرح قبل أن ينزل منها : ــ سقطت الحكومة يا ( كاشان ) !! ولّت إلى ألأبد !! لا ممنوعات بعد اليوم !! نحن أحرار !! .

** البدراني **

بدد ( انور عبد العزيز ) ، قريب صديقي ( بكر) ، دهشتي من وجود بغل في بيته القديم ، المبني من جص وحجارة جبلية تكاد تتداعى ، عندما صارحني بدون مقدمات في الغرفة الوحيدة التي كان يستخدمها للنوم ولإستقبال الضيوف في آن ، أن ذلك البغل هو وسيلة الهروب الوحيدة له ولزوجته وطفله الوحيد إذا نفذت الحكومة تهديدها وهاجمت ( السليمانية ) ، كما يشاع ، للقضاء على المعارضين لها ، كما فعلت من قبل بالتواطؤ مع الحزب ( البارتي ) في( أربيل ) ، فهرب القادة الكبار بسيارات فارهة حتى الحدود الدولية مع ( أيران ) ثم ذهبوا ضيوفا مكرمين على الحكومة ألأيرانية وبقيت الرؤوس الصغيرة من المعارضين تزحف على طرقات الهروب لعدة أيام في الطرق الجبلية الوعرة مشيا على ألأقدام!! .

ومذ ذلك اليوم ( طلّق ) مضيفي السياسة ( بالثلاث !! ) ، وإنصرف للتهريب من اجل ( الخبز الحلال ) بدلا من التقاتل كالوحوش من أجل منفذ ( إبراهيم الخليل ) الحدودي مع ( تركيا ) . ( يبيعون حتى امهاتهم مقابل النقود والمناصب !! ) . ورسم بكفه دائرة واسعة شملت كل الجهات دون أن يسمّي أحدا بعينه . ( كلهم شياطين !! من الحكومة حتى معارضيها الذين ستجدهم هنا من العرب وألأكراد والتركمان !! ) . كلهم يركضون وراء الفلوس ومناصب القيادة والوجاهة على حساب الفقراء .

وعندما عرف إسم الفندق الذي نزلت فيه أطلق ضحكة كبيرة وسألني : ــ هل إلتقيت بالعقيد الركن ( عدنان ) ؟!

أجبت على الفور : ــ نعم !! .

قال ( أنور ) ضاحكا : ــ هو مجرد نائب ضابط !! هل تعرف ؟! كان ( مراسلا !! ) يغسل ملابس الضباط الداخلية ويصبغ أحذيتهم في الحرب لذا نال كل الترقيات في موعدها عكس غيره حتى صار نائبا لضابط سرق عدة بنادق من مشجب سريته وهرب إلى هنا ( معارضا ) كما هو حال كثيرين من أمثاله !! .

وإسترسل ( أنور) بعد أن قدمت لنا زوجته وجبة أخرى من أقداح الشاي : ــ صار فخا للهاربين الجدد في هذا الفندق . يتاجر بمعلوماتهم مع المخابرات الدولية . تجد هنا جواسيس من كل أنحاء العالم !! . في ألأماكن ألأرقى من الفندق الذي نزلت فيه تجد نمطا آخر من الفخاخ ، لديهم هواتف دولية مباشرة تؤمّن ألإتصال بجهنم إن شئت ، ولا وجود للجنة طبعا ، لأن كل شئ هنا تجارة !! الموت نفسه صار تجارة هنا . ثمة خطط جاهزة للقتال ضد أي طرف تريد قتله ، إذا كان لديك بعض المال . القانون الوحيد هو هذا !! ــ ومثل بأصابعه عدّ الفلوس ــ وأبسط التجارات الرائجة ألآن هي الهروب والتجسّس والقتل !! . ثمة من يوصلك إلى أي بلد في ( أوربا ) إذا دفعت ما يكفي .. !! .

ثم توقف عن الحديث عندما نادته زوجته من خارج الغرفة . خرج ثم عاد بصينية كبيرة ملأى بأوان غصّت بانواع من الطعام أعدتها زوجته على شرفي ( ضيفا عزيزا ) ، بعضه كانت قد طبخته بنفسها وبعضه ألآخر إشترته جاهزا من مطاعم السوق ، فشعرت بالحرج على يقيني انهما إقتطعا من ( خبزهما الحلال ) من التهريب الخطير عبر الحدود ليطعماني وهما في غاية الحاجة لكل شئ في بيتهما المتداعي .

** الثالولة **

سكون لم تالفه المدينة منذ عقود حل عليها مذ أعلنت كل ألإذاعات سقوط ( بغداد ) ، كانت تمزقه بين فترة واخرى طائرات تحلق على إرتفاعات مختلفة فوق ألأحياء . ماعادت الناس تضحك ، كما كانت تفعل من قبل في المناسبات ، وكأنها تمارس طقس مناسبة ( عزاء جماعي ) ، أو تنتظر حدوث أمر ما سيغير مصير الجميع ، وثمة ترقب ، ثقيل هو ألآخر ، لما سيحدث في الساعات القليلة القادمة .

( معارض ) ، ممن دخلوا ( الموصل ) ، إحتل مبنى المحافظة ونصّب نفسه محافظا تحميه بضعة مدرعات أمريكية وقوة من ( البيش مركة ) ، والقوات ألأمريكية دخلت قصر (الرئيس ) في ( الساحل ألأيسر) من المدينة محمية بعدد كبير من الطائرات المروحية المدججة بالصواريخ والرشاشات ، وحدهم ألأطفال كانوا يراقبونها بصراحة وفضول علنيين .

وتضاربت الشاعات في ألأخبار التي تناقلتها ألإذاعات والناس ، الذاهبين أو العائدين من عمق المدينة ، بعضها يقول أن ( الرئيس ) سيلجأ إلى حرب العصابات حتى يطرد قوات ألإحتلال ، وبعضها يقول انه هرب مع عائلته إلى ( روسيا ) أو بلد آخر مازال مجهولا ، ولا احد يؤكد أو ينفي هذه الشاعات على حقيقة أن ألأمريكان والبريطانيين قد سيطروا على ( بغداد ) ومعظم المدن الرئيسية في البلد ، وعينوا من جاء معهم من ( المعارضين للحكومة ) وزراء ومحافظين .

في ذلك اليوم ، التاسع من شهر نيسان ، بكت النساء كما بكى الرجال بكاء حائرا بين الرثاء على وجوه إعتادوها طوال عقود في الحكومة التي إختفت ، والرثاء من أجل وطن سقط بأيادي غرباء إستهلوا دخولهم على دماء عشرات ألألوف من المواطنين العزل من السلاح ، مازالت طائراتهم تعربد في فضاء المدينة باثة الرعب في نفوس ألأحياء .

وكعادتها بقيت ( الثالولة ) منقسمة على نفسها ، بين فريق ( تفاءل بالخير ) في الديمقراطية التي وعد بها ( بوش ) ، وفريق رأى في كل ما يجري مجرد ( غزو همجي ) أيا كانت مساوئ الحكومة ، وفريق تحفظ وفضل ألإستماع ومراقبة ما يجري .

ولكن الجميع ذهلوا عندما رأوا ( دليو ) يعبر( قنطرة الحرية ) ، نحيفا على غير ماألفوه عنه من بدانة مفرطة ، طليقا رغم علمهم بان الحكومة قد قبضت عليه قبل يوم واحد من بدء الحرب ( لمدة خمس دقائق !! ) دامت أكثر من ثلاثة أسابيع !! .

** العضباء **

بكت بصمت حالما إستيقظت فجرا إذ تذكرت حفيدتها ( هجران ) ، وراودها هاجس غريب في أن هذا اليوم ، التالي ليوم إحتلال ( بغداد ) ، لايقل خطورة عن ألأيام ألأخرى ، مع أن القصف على المدينة كان قد توقف فخيم عليها هدوء غريب .

تناولت كسرة من رغيف خبز مع قدح شاي ، أعدته بخطى خفيفة كي لايستيقظ ( زمن ) ، أو أية واحدة من إبنتيها النائمتين ، وهي تفكر بالذهاب إلى السوق لعلها تعثر على شئ من نفط الوقود . لم تشأ أن ترسل ( وحيدها ) كي لا يواجه أحدا من الجنود ألأمريكان أو ( البيش مركة ) ، الذين يطلقون النار منذ يوم أمس في الشوارع لإرهاب كل من يقترب منهم من المارة .

أقسم لها إثنان من أصحاب محطات الوقود في منطقة ( الموصل الجديدة ) أن محطتيهما خاليتين تماما من كل مشتقات النفط ، فإتجهت جنوبا وهي تدعو الله أن تعثر ولو على ( غالون واحد !! ) من أجل طبخ الطعام ، ولكن المحطة التي وصلتها في ( حي المأمون ) ، على شارع بغداد كانت مقفلة ولا أحد يحرسها حتى .

واصلت سيرها ، وهي تدفع العربة الخشبية مع الحاوية الفارغة ، نحو دورة ( بغداد ــ الموصل ) القريبة من معسكر ( الغزلاني ) ومحلة ( وادي حجر ) ، ولم تنتبه إلى بعض المارة الذين إلتقتهم في تلك الساعة المبكرة من الصباح والذين كانوا يحملون عفشا وحتى أسلحة ، إذ ظنت أنهم من العائدين توا من القرى التي هربوا إليها قبل وأثناء الحرب خوفا من القصف .

ولكن العدد الكبير من المدنيين ، وبينهم بضعة نساء ، الذي كان يدخل أو يخرج من معسكر ( الغزلاني ) وهم يدخلون فارغي ألأيادي ويعودون محمّلين بالأسلحة والبطانيات والصناديق وحتى الكراسي لفت إنتباهها إلى ان أمرا ما غريبا يحصل هناك ، فتوقفت مذهولة بما لم تفهمه على الجهة ألأخرى من الشارع .

نصحتها إمرأة مستعجلة مرت من قربها قبل أن تدخل المعسكر ببساطة عجيبة : ــ فوتي يا هبلة وخذي لعائلتك شيئا !! طوال الليل كان ( البيش مركة ) ينهبون المعسكر !! .

ولأول مرة في حياتها فهمت أن ( الناس تنهب أموال الحكومة !! ) ، حتى السيارات العسكرية و المدافع الثقيلة ، علنا ، فإستغفرت الله .

وعندما شاهدت ثلاثة رجال وإمرأتين يدفعون ( تانكر ) ملآن بسائل ما ، ذهبت مسرعة نحوهم آملة أن يكون نفط وقود .

** البدراني **

أول ما عرفني عليه ( أنور ) في ( السليمانية ) بناية من طابقين خرمتها الكثير من القذائف ومبرقشة بمئات الحفر الصغيرة التي خلفتها ألإطلاقات النارية . كانت بناية ( مديرية ألأمن ) التابعة للحكومة . قال لي : ــ ... وهذا ماجرى لها يوم إنسحبت بعد خسارتها لحرب ( الكويت ) !! ثمة مئات من المخبرين من اهل ( السليمانية ) كانوا يترددون على هذه البناية ، ومازال بعضهم يتعاطى نفس المهنة ولكن مع أطراف اخرى ، دولية هذه المرة !! . مهنة سهلة ، مريحة ، ومربحة !! .

قال لي ( أنور ) ساخرا . قبل ان نصل تمثالا فولاذيا ضخما لرجل غاضب يحمل في يد سكينا ضخمة وفي اليد ألأخرى رأسا بشريا مقطوعة : ــ وهذا جدّنا ( كاوة الحداد ) الذي ذبح ( الضحاّك ) !! الذي ظلم اجدادنا !! ولهذا ترانا نضحك كثيرا !! واحد ، من نجومنا ألآن ، كرر هذه البطولة ، يوم إنسحبت الحكومة ، مع الرفاق البعثيين وضباط الجيش فنال منصبا رفيعا !! .

وسكت عندما مرت خمس سيارات ، بينها سيارة فارهة ، ملأى برجال ملتحين يوجهون أسلحتهم نحو المارة وهم على أهبة ألإستعداد لإطلاق النار كما بدا لي . مرت قافلة المسلحين و( الشخصية الخطيرة ) كما زوبعة من بين السيارات المارة عرضا في الشارع والتي أفسح سواقها الطريق بسرعة . وضحك ( أنور ) . هز رأسه عدة مرات على أفكار إحتفظ بها لنفسه .

قال بعد فترة سكوت قصيرة : ــ يمكنك أن تشكّل مثل هذا الموكب إذا كنت تمتلك شيئا من المال !! . كان هذا ــ وأشار نحو الجهة التي إختفت فيها سيارات الملتحين ــ مجرد مرافق عند واحد من قادة الحراس الشخصيين ( للسيد الرئيس !! ) ، يقال أنه إشتغل حتى قوادا لمسؤوله ، ثم هرب لسبب ما مع مبلغ كبير جدا من النقود فصار ( معارضا !! ) للحكومة بالشكل الذي رأيته ، يمر محروسا بكل هؤلاء الرجال !! . فقراء يجازفون بحياتهم من اجل عوائلهم !! أولئك الذين مروا مع لحاهم الطويلة !! . قد يعترف لك الواحد منهم أنه يحتقر ( سيده ) إذا تاكد أنك لن تشي به !! .ألأيمان بالفلوس وحده بقي ألأيمان الصادق هنا . وكلما طالت لحيتك كلما أرعبت ألآخرين !! . الناس تفكر بأن هذا الملتحي المسلح مستعد للموت ، ولأنهم غير مستعدين للموت المجاني في مدينة لايحكمها غير قانون السلاح ، ترى أن جميع السيارات أفسحت الطريق لموكب هذا اللص القواد !! . خذ ما تشاء من عناوين هنا . إسلامي . شيوعي . تقدمي . وطني . ديمقراطي . حركة . حزب . منظمة . عربي . كردي . تركماني . آشوري . المهم أن تدفع للجياع العاطلين عن العمل الذين سيتوافدون إلى مقرك كلما كان فخما ويدل على رائحة مال كثير ، وستتوافد إليك مجاميع الوشاة من كل الجهات في سباق بيع وشراء المعلومات عن الحكومة !! .هذا الشارع تغير إسمه خمس مرات ، مذ ذهبت الحكومة ، وماعدت اعرف إسمه الجديد ألآن . وهذه البناية كانت مصبوغة باللون ألأصفر ، لون حكومة ( أربيل ) المفضل ، جماعة ( البرزاني ) ، ثم طليت باللون ألأخضر لون حكومتنا الحالية !! .

جماعة ( الطالباني ) . حرب ألوان !! . إختفت من أسواقنا كل الملابس الصفراء خوفا من تأويلات كارهيه من محبي اللون ألأخضر ، كما إختفت ( اليشامغ ) الحمر لأن ( البرازانيين ) إتخذوها رمزا لعشيرتهم منذ عشرات السنين !! . في تلك المقهى سنجد المهربين الدوليين . نقابة سرية تمتد من هذه المدينة حتى ( أوربا ) . كل صفقات التهريب ، بكل أنواعه ، تعقد في هذه المقهى . تجد جوازات سفر من كل أنحاء العالم . ولابد لك من واحد منها لتهرب . وسنشرب قدحين من الشاي مع واحد من مصاصي الدماء هؤلاء لمعرفة آخر ألأسعار والترتيبات !! .

** الثالولة **

بكي ( ألأحيمر) بعد أن صاح : ــ يابا !! فرحا بمرأى أبيه .

فضحك كل من سمعه يبكي في مزيج أصوات من تشبه قاقأة دجاجة وصراخ طفل يقطعه صرير معادن تحتك ببعضها ، بينما كان ( دليو ) يحاول التملص من ذراعي إبنه ليصافح عددا كبيرا من الرجال والنساء وألأطفال تحلّقوا حوله .

جاءت ( البرشه ) راكضة ، متبوعة بولديها ألآخرين ، وتعثرت قبل أن تصل ( دليو ) بشئ ما فسقطت وسقط واحد من ولديها عليها وسط صيحات : ــ الله !! الله !! التي تعالت من الحضور الذين كانوا يشاهدون اللحظات ألأولى ( للثالولة ) وهي تستقبل ( دليو ) ، الذي خرج توا من واحد من سجون الحكومة ، على ( قنطرة الحرية ) .

الجوع . الخوف . والضرب الموجع !! .

كان جواب ( دليو ) الذي كرره كما نشيد حفظه منذ مدة ، لكل من إستغرب ( فقدانه الكثير من وزنه ) في مكان ما من مدينة ألأنبياء ألأربعين ( لا يعرفه !! ) لأنه ذهب إليه ( لمدة خمس دقائق !! ) معصوب العينين وخرج منه بعد ثلاثة أسابيع معصوب العينين أيضا على يدي ( مرحوم والدين !! ) أطلق سراحه في نهاية الزقاق المحاذي لجامع( النبي شيت ) تحت انظار طفل سائب فرّ مذعورا حالما تجرأ ( دليو ) بعد فترة ونزع العصابة عن عينيه .

وعندما حضر ( ملاّ حمادي ) ، مع ولدين من أولاده ، بدون سلاح وبدون بذلة الخاكي التي كان يرتديها أثناء الحرب ، مازحة رجل عجوز بعد أن تمخط في منديل أحمر : ــ إبني !! لماذ تركت واجب الدفاع عن الوطن ؟! هذا ليس ( تل الهوى ) !! عمّك ( الشيخ بعيو ) سيعدمك إذا لم يجدك هناك !! .

ضجّ الحضور بالضحك وقال ( ملاّ حمادي ) ضاحكا بطلاقة هو ألآخر : ــ والله ياعمّي ، انا لا اتحمل لا الجوع ولا الخوف ولا الضرب !! وانا مدين لأخي وحبيب قلبي ( الشيخ بعيو ) بخمس طلقات أعطانيها لمحاربة ألأمريكان !! وأنتظر عودته ، كما ترى في المقهى ، لتسليمه ألأمانة كاملة ، هذا إذا عاد !! .

واثناء ذلك حياّ رجل ، من أهل ( الثالولة ) عاد توا من المدينة ، الجميع ، وبعد أن إحتضن ( دليو ) وقبله مهنئا يسلامته ، إلتفت وقال بصوت عال وهو ينظر في وجوه الناس : ــ ينهبون المعسكرات ومباني الحكومة ، حتى المدارس والبنوك والمستشفيات !! هل عرفتم لماذا يعاقبنا الله ألآن ؟! .

** العضباء **

مالم تستطع فهمه ، وهي تدخل المعسكر ، هو المحاولات المضنية من رجال كانوا ينهبون مدافع ضخمة ، على هاجس لم يفارقها بأن الحكومة ستظهر فجأة من جديد ، فماذا يفعل هؤلاء بالمدافع والصواريخ ؟! . وأين يهربون من الحكومة ؟! . كل النهّابة كانوا مستعجلين ، يتراكضون من وإلى كل الجهات ، ويضعون ما تطاله أياديهم في سيارات وعربات وأكياس وعلى ألأكتاف وألأذرع ، وحتى على الرؤوس !! .

إستوقفها منظر شاب يتأرجح في مشيته تحت ثقل مالايقل عن عشرين بندقية يحملها على كتفيه ويسحل بعضها في كيس ، وإمرأة تسحل بطانية ، نحو عربة بثلاث عجلات مثل عربتها ، ملفوفة على أشياء لم تعرفها ( العضباء ) ، وشهقت بشئ من الفرح عندما رأت رجلين يسحبان ( تانكرا ) ثقيلا فكرت أن فيه بعض الوقود ، فركضت بعربتها نحوهما وهي تبتلع لعابها قائلة : ــ الله يرحم والديكم !! هذا نفط ؟! .

أجاب أحدهما : ــ لا والله ، هذا بنزين .

وصدمتها النظرة الخبيثة في عينيه فسكتت على يقينها أنه يكذب لأنها شمّت رائحة النفط ألأبيض تفوح بقوة من ( التانكر ) وإبتعدت وهي تهمس : ــ الله ياخذك !! الله ياخذكم !! .

وصلت بناية من طابقين غصّت غرفها بالنهّابين والنهّابات على أمل الحصول ولو على ( غالون واحد ) من النفط ألأبيض ، ولكنها فوجئت بشابيّن يتصايحان بغضب جنوني .

قال ذو القميص البني : ــ انا رأيتها قبلك !! .

وأشار نحو خزانة نقود فولاذية داخل الغرفة لم تنتبه لها ( العضباء ) من قبل ، فقال له ذو السترة الزرقاء غاضبا : ــ لاتطل الكلام !! سآخذها يعني سآخذها !! .

ثم سحب سكينا من حزامه فسحب ألأول مسدسا من تحت قميصه وصوبه نحو صاحب السكين .

وفي اللحظة التي أرادت فيها ( العضباء ) أن تهدئهما هاجم الثاني ألأول بسكينه فأطلق هذا طلقة واحدة من مسدسه . أجفلت ( العضباء ) بشدة . تقدم صاحب السكين خطوة واحدة ، ثم ترنح في الخطوة التالية وسقط بهدوء على ألأرض والدم يتدفق بغزارة من عنقه المصاب . فرّ صاحب المسدس ، وترنحّت ( العضباء ) على رعبها من بركة الدم وهي تكبر حول جسد الشاب .

ركضت نحو الجهة ألأخرى من البناية ، لعلها تعثر على من يسعف الشاب الجريح ، فإلتقت مجموعة من الرجال تنقل عفشا منزليا نحو سيارة نقل ، صرخت وهي تقترب منهم مع عربتها : ــ تأ !! تأ !! .

فإبتسم واحد منهم على ظنه انها ربما مجنونة أو خرساء مرعوبة ، وأشار لها مطمئنا قبل أن يضع في عربتها بندقية وأربع بطانيات ، لذا عادت تصرخ : ــ تأ !! تأ !! تأ !! . وهي تشير نحو الجهة التي تركت فيها الشاب المصاب ، ولكن هذا أمسك بكتفها بقوة وقال لها غاضبا : ــ يالله !! مع السلامة !! هذا يكفي !! .

تملصت من قبضته القاسية وهي تتمتم غاضبة مشيرة بيدها السليمة نحو طرف البناية ، ولكن هذا عاد نحوها رافعا يده ، كأنه يهم ّ بضربها ، وهو يصرخ : ــ ولّي من هنا !! ولّي !! .

** البدراني **

تبادل ( أنور ) القبلات مع شاب أنيق ، وسيم ، ومعطر ، ثم عرفني عليه . ( بمو ) !! . الذي أهملنا وعاد ليواصل حديثه الهام كما يبدو مع رجلين ، باللغة الكردية التي لا أفهمها . همس لي ( أنور ) ساخرا كعادته بأن إسم ( هذا الحيوان !! ) مستعار ، مثل أسماء المهربين جميعا ، وقد أخذ ألإسم عن جبل من جبال المدينة . وإعترف لي بأن المهرب الوحيد الذي يثق بقدرته على أيصالي إلى أية دولة أوربية ، بأرخص ألأثمان ، مشيا طبعا !! ، لأنه الوحيد الذي لم تفشل له قافلة مذ بدأ المهنة !! وهو الوحيد من بين المهربين ألآخرين الذي يتقاضى أعلى ألأجور ، لهذا السبب ، لأنه كريم مع عدد كبير من الحراس ألأيرانيين وألأتراك وحتى ( البيش مركة ) الذين لابد من المرور عبر سيطراتهم قبل أن نصل الحدود . يعرف ألأزقة في القرى ألأيرانية والطرق النيسمية في الجبال ، وكل ألأزقة في ( أنقرة ) و ( أستنبول ) في تركيا و( أثينا ) في ( اليونان ) ، كما يعرف ألأزقة التي ولد فيها هنا في ( السليمانية ) ، قال لي ( أنور ) بثقة .

فشعرت بالإطمئنان ، بينما كان الرجلان ينهضان وودّعا ( بمو ) بحرارة . إحتضنه واحد منهما وقبله برضى واضح وهي يودعه ، عندئذ إلتفت إلينا ، وألقى نحوي ذات النظرة الفاحصة التي ألقاها عليّ عندما عرفني به ( انور ) ، الذي فتح الحديث باللغة الكردية معه . تبادلا إستنكارات وكلمات غاضبة ، وإحتجاجات ، وزوابع من دخان سيكارتيهما ، حتى خيل لي أنهما سيضربان بعضهما بعد قليل ثم فوجئت ( بأنور ) يضحك وهو يردد : ــ (سباس كاكا !! سباس !! ) . نهض بعدها ( بمو ) وودعنا .

سألني ( أنور) مازحا : ــ هل فهمت ما قلته لهذا الحيوان ؟! .

أجبت قلقا : ــ لا !! .

قال وهو يعطيني سيكارة ويشعل لنفسه واحدة : ــ هذا الحيوان يتقاضى سبع مائة دولار عن كل فرد يوصله إلى ( أستنبول ) ، وخمس مائة دولار إضافية إلى ( أثينا ) ، وهو يتكفل بنفقات الطريق . أخوه ، الحيوان مثله ، والمدمن على ( العرق ) ، إقترض مني خمس مائة دولار منذ سنة ولم يسددها لي حتى ألآن !! فأقنعت هذا الجحش بأن يأخذك إلى ( أثينا ) ، حيث تستطيع من هناك بسهولة دخول ( أوربا ) ، ويسقط قرضي من ذمة أخيه ، على أن تدفع أنت لي هذا المبلغ بعد أن تستقر في دولة ( أوربية ) إن شاء الله !! قلت لهذا الحيوان أنك دفعت لي خمس مائة دولار كي يطمئن ، وقلت له أن لا أصدقاء ولا أقرباء عندك في دول أجنبية ، وأن حياتك مهددة بالخطر إذا بقيت هنا ، وأنك من الموظفين الحفاة الذين هلس ريشهم الحصار الدولي كي لا يطمع بجيبك !! .

** الثالولة **

غسل ( دليو ) وجهه للمرة الثانية خارج ( برج الضغط العالي ) في ذلك المساء ، حيث أقيم له حفل عودته سالما من السجن ، ليطرد النعاس عن عينيه ويرد على أسئلة المهنئين بسلامته ، من بين تلقائية الحديث عن ( الحرب الثالثة ) التي إنتهت والحكايات الساخرة من كل شئ حتى ( الديمقراطية ) التي وعد بها ألأمريكان العراقيين فجلبوا معهم ( البيش مركة ) والمنظمات الحزبية الطائفية التي كانت هاربة في ( أيران ) ودول الجوار مع عراقيين مجهولين غادروا البلد لأسباب بعضها معروف ومعظمها غير معروف .

ثم إنتقل الحديث في ساعة متأخرة من الليل نحو النساء ، بعد أن خلا البرج من ألأطفال الفضوليين ، فقال رجل عجوز وهو يسترخي على دخان تبغه الرخيص : ــ أي والله ، هذا الكلام الزين !! دوختمونا ( بصدام ) و ( بوش ) !! قتلتنا حروبهم رغما عنا ، فدعونا نسمع عمن قتلنا برضانا !! .

وأثناء ذلك وصل ( البدراني ) ، الذي إشتهر في ( الثالولة ) على أنه زير نساء تفوح منه رائحة ( كاشان ) دائما . وقف مائلا على ساقه العرجاء وهو يلقي التحية على الجميع باحثا لنفسه عن مكان فارغ بين الحضور ، فإلتقطه الرجل العجوز قائلا بمرح : ــ تعال يا إبن العروس إلى جانبي !! كنا نتحدث عن ( عصافير ) النساء ويقال أنك أخبرنا وأفهمنا بهذه السياسة الدولية !! تعال هنا ، تعال !! .

تنحنح ( البدراني ) بأدب ليستدرك المفاجأة التي لم يشعر بالإستجابة لها ثم قال وهو يجلس إلى جوار العجوز : ــ يا عمّي ، نحن بأيّ حال ، وأنت بأيّ حال !!؟؟ .

أطلق العجوز ضحكة واهنة وقال له مازحا : ــ ماكنت أظنك غبيا كهؤلاء !! ــ وأشار بعصاه نحو الحضور بحركة دائرية ، ثم إسترسل ــ الحروب عندنا تحصل كل بضعة أعوام ، ولكن شواء ( العصافير ) يحصل كل يوم !! .

تشاغل ( البدراني ) بفنجان القهوة الذي قدمه ( ألأحيمر ) له ، ثم إنتقى سيكارة من صينية قدمها له ( زمن ) ، وسأل ( ملاّ حمادي ) ليغير مجرى الحديث : ــ ماذ سنفعل ألآن يا ( ملا ّ ) ؟! .

أجاب هذا بالحيرة ذاتها التي لازمته مذ توقفت الحرب : ــ والله علمي علمك !! ننتظر . إذا صدقوا ــ وأشار نحو الأعلى حيث كانت مروحيات أمريكية تمر في فضاء ( الثالولة ) ــ فالسلام هو مايحثنا الله عليه ، وإذا لم يصدقوا !!

قاطعه الرجل العجوز ضاحكا : ــ فعلينا أن نشوي ( عصافير ) أمهاتهم !! .

** العضباء **

مع الغروب وصلت ( العضباء ) ( قنطرة الحرية ) مسكونة برعب النهيبة على صورة شاب يتخبط بدمه ، كما دجاجة ذبحت توا إلى جوار خزانة نقود ، لا أحد يعرف كم فيها ، وإلتقتها إمرأة من ( الثالولة ) ، كانت في طريقها نحو المدينة ، ربما لتنهب هي ألأخرى ، أشارت نحو عربتها المحملة بأربع بطانيات وبندقية كلاشينكوف قبل أن تسألها مندهشة : ــ من أين هذا يا ( أم زمن ) ؟! .

فأجابت ( العضباء ) : ــ تأ !! .

عندئذ إلتفتت المرأة نحو إمرأة ترافقها قائلة بصوت مندهش عال : ــ إخرفت المسكينة !! الله يساعدها !! .

ثم مضتا مسرعتين .

جاء ( زمن ) راكضا من مقهى ( أخو عرنه ) وأخذ العربة منها ، بينما توقف ثلاثة شبان للتدقيق في حمولة عربة ( العضباء ) المضطربة وسألها احدهم وهو يضحك لسبب لم تفهمه : ــ من أين هذا الخير ياعمّتي ؟! .

وللحظات ظلت هذه تشير بيدها السليمة نحو الجنوب ، مرعوبة العينين ، تحاول العثور على كلمة ما ، حتى قالت بتلكؤ واضح : ــ من .. من .. ( وادي حجر ) !! من .. !! .

قاطعها هذا وهو يزداد ضحكا : ــ لاتلعبينا ياعمّتي !! لايوجد في ( وادي حجر ) غير القمل !!؟؟ .

فصحّحت له على الفور : ــ المعس ..كر !! ( الغزلاني ) !! المعس.. كر !! .

قال واحد منهم ( لزمن ) متلهفا : ــ أركض !! فرغ العربة وتعال معنا لنذهب إلى هناك !! .

صرخت مرعوبة : ــ تأ !! تأ !! .

وتلقفت شيئا من الهواء باحثة عن قدرتها على الكلام حتى قالت أخيرا : ــ يتقاتلون !! هناك !! يتقاتلون !!( زمن) لايذهب !! أنتم لاتذهبوا !! . تأ !! تأ !! .

وفي هذه ألأثناء وصلت مجموعة أخرى من الشبان العاطلين إتفقت مع المجموعة ألأولى على الذهاب نحو المعسكر ، فاطلقت العضباء ( تأ !! تأ !! ) بنبرة متوسله اهملوها ثم مضوا .

** زمن **

جهزت ( العضباء ) الشاي على قطع من الخشب وبقايا جريدة خارج ( التانكر ) ، بينما كان ( ملاّ حمادي ) يؤدي آذان الفجر ، وهمست لها ( صمود ) ، التي قرفصت إلى جوارها ، حزينة وهي تغالب نوبة بكاء : ــ حلمت بها ترضع من ثديي مرة أخرى !! .

قالت لها ( العضباء ) : ــ أطلبي لها ولنفسك وللناس الرحمة !! . روحها مازالت تحوم حولك !! . ماتت قبل أن تفطميها !! . ستشفع لك يوم القيامة !! .

ثم سكتت ( العضباء ) . تنهدت ، ومسحت بيدها السليمة دمعة إنحدرت على خدها المتغضن وغيرت مجرى الحديث : ــ تأكدي أن ( زمن ) لم يعد للنوم كعادته !! .

قالت لها ( صمود ) : ــ لا !! لم ينم !! يمّا !! روحي مقبوضة !! أريد أن أذهب مع ( زمن ) . أريد أن أرى الناس . المدينة . أريد أن أفعل أي شئ خارج هذا المكان !! .

: ــ زين !! إذهبي معه !! انا كنت محتارة !! هل يذهب وحده أم مع أحد !! وإنتبهي لنفسك من اولاد الحرام !! لا وجود لحكومة ألآن ولا قانون !! .

قالت لها ( العضباء ) وهي تحمل ( قوري ) الشاي نحو ( التانكر ) .

تناولوا إفطارهم خبزا مغموسا ( بالراشي ) مع رشفات من الشاي ، بينما كانت ( عنود ) مسترسلة في نومها ، وعندما نهض ( زمن ) و( صمود ) للذهاب إلى المدينة بحثا عن شئ من نفط الوقود ، قالت لهما ( العضباء ) في الفسحة الفاصلة بين ( التانكر ) و( برج الضغط العالي ) وهي تشير إلى بقايا الليل : ــ مازال الفجر في أوله !! .

كأنها تندم على إرسالهما في هذه الساعة ، ولكنها فكرت بعودتهما مبكرين فأوصتهما بألآ يتأخرا ، وألا يقتربا من ألأماكن التي تتعرض للنهيبة ، وأن يبتعدا عن ألأمريكان و ( البيش مركة ) الذين راحوا يتجولون في شوارع المدينة ، ثم ختمت توصياتها : ألله معكما !! الله معكما !! .

ولم تعد إلى ( التانكر ) حتى غابا في أول أزقة حي ( الزنجيلي ) .

وإستغفرت الله حالما وقعت نظراتها ، من جديد ، على بطانيات المعسكر والبندقيتين اللتين ركنتهما مع البطانيات في أبعد الزوايا ريثما تجد وسيلة تتخلص بها من هذا ( الرزق الحرام !! ) .

** الثالولة **

خرج ( ألأحيمر ) ورفاقه الثلاثة من معسكر ( الغزلاني ) قبيل منتصف الليل ، بعد أن جمعوا إحدى وعشرين قاذفة ( آر بي جي ) ومدفعي هاون ، أحدهما بلا قاعدة ، ولم يكونوا ( فرحين !! ) بالغنيمة لأن غيرهم حظي ببنادق ومسدسات ورمانات يدوية أكثر رواجا في السوق السوداء مما غنموه ، لذا إتفقوا على نيل قسط من الراحة في ( الثالولة ) ثم العودة للبحث عن بنادق ومسدسات في مواقع أخرى ، ذكر واحد منهم أنه يعرفها مذ كان جنديا هناك قبل أن يهرب من الجيش .

في طريق العودة إلى ( الثالولة ) ، إتفقوا على أن تكون حصة كل واحد منهم خمس قاذفات ، من يريدها يأخذها فور الوصول إلى ( قنطرة الحرية ) ، ومن يريد ثمنها نقدا ينتظر ريثما تباع ، فأعلن ( ألأحيمر ) أنه يفضل النقود ، واهمل حوارا مطولا عن مصير قاذفة ومدفعي هاون لايمكن تقسيمهما إلا ببيعهما بعد حين .

سأل ( ألأحيمر ) ، وهو يمتص دخان سيكارته بشراهة ، أكثر رفاقه خبرة بأسعار السلاح عن الثمن التقريبي لخمس قاذفات فأجاب هذا فورا : ــ بين ثلاثة وأربعة ملايين دينار .

عندئذ صرخ هذا فرحا : ــ هلا !! هلا !! .

ثم رقّص عجيزته وكرشه الضخمة وصفّق وزغرد ، كما تفعل النساء ، وهو يكرر : ــ هلا !! هلا !! لم أر ولم أقبض في حياتي مثل هذا المبلغ !! .

ولكنه توقف عن الكلام عندما توقفت إلى جوارهم سيارتان ، نزل من أولاهما رجلان ملثمّان ، مسلّحين ببندقيتي كلاشينكوف ، وظلت السيارة الثانية ، خلف ( ألأحيمر ) ومجموعته ، مشتعلة ألأضواء . ألقى واحد من الملثمين نظرة عاجلة نحو عربة ( أللّبلبي ) المحمّلة بالقاذفات ومدفعي الهاون ، ثم صاح بسائق السيارة التي نزل منها : ــ إفتح الصندوق !! .

وتقهقهر خطوتين مسددا بندقيته نحو ( ألأحيمر ) ومجموعته ثم قال بلهجة آمرة : ــ فرّغوا كل ما موجود في العربة في صندوق السيارة ألآن !! .

إغتاض ( ألأكثر خبرة في السلاح ) وقال : ــ لماذا ؟! تعبنا بها نحن !! وهي لنا !! يعني .. !! يع ..!! .

ولكنه سكت عندما هدرت من فوق رأسه صلية من الرصاص أطلقها الرجل الملثم .

إلتفت ( ألأحيمر ) نحو السيارة الثانية ، وظلّل عينيه بكفه ، فرأى أشباح ثلاثة ملثّمين مسلّحين يصوّبون رشاشاتهم نحوهم ، عندئذ شعر برعب لم يشعر بمثله طوال حياته ، وسارع بإفراغ محتويات عربة ( أللّبلبي ) الخشبية في صندوق السيارة المفتوح وهو يتمتم بعض الشتائم ، بينما كان الملثم ألأول يقول له ساخرا : ــ عفية السبع !! عفية !! إستعجل يا ( أبو الغيرة ) !! .

وبعد ان تأكّد الملثم من أن عربة ( اللّبلبي ) فارغة تماما ، أغلق صندوق السيارة ، ثم مضى بسيارته تتبعه السيارة ألأخرى ، التي أخرج ملثم رأسه من شباكها وقال ( للأحيمر ) وجماعته بنبرة مرحة هادئة : ــ يا أولاد القحبات !! .

** كاشان **

في ساعة مبكّّرة من الصباح ، إستيقظت وأشعلت ( الجولة ) تحت قدر ماء كبير ، بعد أن تأكّدت من يقظة ( بناتها ) إستعدادا للذهاب إلى العمل في ( مزبلة الشيطان ) . الفتيان تركوا العمل مذ توقفت الحرب ، وإنصرفوا للبحث عما يستطيعون نهبه في عمق المدينة ، وتوقفت الفتيات ألأخريات جميعا عن العمل ، بعد أن شاع أن ألأمريكان يصورونهن وهن يعملن في المزبلة ، فبقيت مجموعة ( بناتها ) ألأربعة تعمل وحدها في الوادي دون أن تجلب شيئا ذا قيمة كبيرة منذ أيام .

أشعلت لنفسها سيكارة مستوردة وراحت تفكر بمصدر آخر لجني المال ، إذ ماعاد يعوّل على بلدية لا وجود لموظفيها وكناسيها ولا حتى على سياراتها التي سرقها النهّابون ولن تعوّض إلا بعد فترة لا أحد يعرف كم ستطول ، وما عاد يعوّل على الفتيان العاطلين الذين تعلموا ( العلس ) من حكايات تفيد أن البعض نال ثروات خرافية خلال ساعات قليلة وهم ينهبون المصارف وخزانات النقود في البنايات الحكومية .

إستحمّت متمهّلة ، ووضعت المزيد من الكحل على عينيها ، وتعطّرت بأفضل ما عندها من عطور ، على أفضل وانظف ثيابها ، وعندما خرجت نحو البيت ألآخر ، كتم ( البدراني ) دهشته وإستمر في رزم النفايات القليلة التي جنتها البنات يوم أمس .

تجاهلت ( كاشان ) سخرية مبطنة طيّرها ( البدراني ) عبر همسة بدت كأنها لاتعني أحدا : ــ اليوم عيد !! .

أعطته سيكارة ، أخذها مع ( شكرا !! ) مشددّة ، منغّمة ، لتأكيد سخرية بدأت تغيضها ، وأشعلت سيكارتها وهي تقول كمن يسترسل في حديث جرى من قبل : ــ ماعادت البنات يجنين شيئا !! إختفت البلدية هي ألأخرى مع الحكومة !! يقولون أن ألأمريكان و( البيش مركة ) يبحثون عن ( الرؤوس الكبيرة ) في المدينة وقد رصدوا مبالغ كبيرة للقبض عليهم !! .

: ــ نعم من أمول العراق المجمّدة في أميركا !! أي نقبض على أبناء البلد بفلوس البلد !! .

أجاب ( البدراني ) غاضبا ، فدوّختها ألإجابة وسكتت متظاهرة بمراقبة بالإنشغال بخطوط بيض في السماء خلّفتها طائرات أمريكية .

وعندما قرقعت سيارة ( المخضرم ) في باب الحوش ونزل منها سعيدا أخذته ( كاشان ) معها نحو الدكان ، ثم عادا بعد فترة قصيرة ساكتين ، وعلى وجهيهما علامات الجدية ، ففهم ( البدراني ) أن هذه تعد لمشروع جديد ، لم تشأ أن تخبره عنه كما إعتادت منذ سنين .

أعطته مفاتيح الدكان ليفتحه للزبائن بدلا عنها ، ثم ركبت سيارة ( المخضرم السعيد ) ، وهي تتظاهر كما شعر ( البدراني ) ، بالسعادة مع سيكارتها الرابعة أو الخامسة .

** زمن **

صاح صاحب ، وربما حارس ، أول محطة وقود وصلاها من بعيد وهو يلوح ببندقيته : ــ ماكو !! ماكو !! . فتوجه ( زمن ) و( صمود ) نحو ( دورة الموصل الجديدة ) . ( ثمة محطات هناك أيضا !! ) . قال ( زمن ) لأخته ، كأنه يطمئنها إلى أن ( الحظ ألأسود !! ) الذي تحدثت عنه قبل قليل ، يمكن أن يتغير بصدفة سعيدة هناك عندما يعثران ( ولو على غالون واحد من نفط الوقود !! ) من أجل طبخ الطعام .

تجاوزتهما سيارة مسرعة ، توقفت بحدة ، وعادت بسرعة جنونية نحوهما . ظنت ( صمود ) أن أحدا فيها قد عرفهما ويريد المساعدة ، ولكنها فوجئت بشابين غريبين ، رمى واحد منهما نظرة وقحة نحو صدرها قبل أن يقول ، متواطئا مع نفسه على أمر ما : ــ سنوصلكما إلى أي مكان تريدان !! هيا إصعدا !! .

رد ( زمن ) بلهجة غاضبة : ــ لا !! شكرا !! .

فشعرت ( صمود ) بالإرتياح لأن ( زمن ) فهم غاية الشابين ، على غير توقع منها ، بينما أطلق واحد من الشابين شتيمة وقحة مع إشارة بذيئة من يده ، ثم ولت السيارة بذات السرعة الرعناء .

لملمت ( صمود ) العباءة على صدرها وهما يقتربان من محطة وقود أحاطتها أسلاك شائكة ، كما في المعسكرات ، أقسم صاحبها أنه ( لايمتلك نفطا حتى في بيته !! ) لأن ( العواليس ) كسروا أقفال المحطة قبل ليلتين وسرقوا كل مافيها من مشتقات النفط ، وجاء بعضهم قبل ساعتين وحاولوا ضربه مع أنه أقسم لهم بالله ورسله وكتبه المقدسة على صدق ما يقول ، وبدا ميالا للثرثرة معهما ولكنهما تركاه يحرس محطته وحيدا ومضيا .

قبيل الظهيرة تعبت ( صمود ) من المشي ، وفاجأت ( زمن ) متبرمة ، من ( الحظ ألأسود ) الذي يلاحقها ، بأن طرقت باب أول بيت صادفته . خرجت إمرأة متوسطة العمر ، بشوشة الوجه ، فطلبت منها ( صمود ) كأنها تتضرع ( ولو حفنتين من النفط !! ) ، ولكن هذه أقسمت لها على الفور ، وبحرارة ، أنها تطبخ ألآن على خشب وأوراق جرائد قديمة ، وإقترحت عليهما الذهاب إلى منطقة ( الغابات ) لجمع الحطب من هناك ، كما فعلت هي وبعض جاراتها منذ ثلاثة أيام .

عادا نحو ( دورة الموصل الجديدة ) من جهة أخرى ، ساكتين على خيبة أمل ثقيلة ، فشاهدا مجموعة كبيرة من الناس تنهب المصرف الذي يستلم منه المتقاعدون رواتبهم ، ومنهم ( العضباء ) ، عادة . فطلبت ( صمود ) من ( زمن ) أن يسرع في ألإبتعاد عن ( علامات الشر !! ) التي قرأتها على وجوه الكثيرين هناك ، لذا أسرع هذا متجاهلا عرضا قدمه واحد من رجلين لشراء العربة ، بينما كان الرجل ألآخر يحرس كيسين ضخمين ملآنين بالنقود .

تلفتا بقلق نحو المصرف الذي مازال يتعرض للنهب ، ومرت من جوارهما سيارة حمل صغيرة ، إمتلأ حوضها بالأكياس الثقيلة . كان السائق يقودها برعونة مدهشة ، ( كأن الشياطين تلاحقه !! ) . سقط الكيس ألأخير من السيارة ، دون أن ينتبه السائق ولا مرافقه ، على مبعدة خطوات من ( زمن ) الذي كان يتقدم ( صمود ) ، فترك هذا العربة وركض نحوه . مسّه متفحصا وصاح : ــ فلوس !! فلوس !! .

ثم وضع الكيس بسرعة إلى جوار حاوية النفط الفارغة في العربة وركض نحو ( الثالولة ) تتبعه ( صمود ) مذهولة قلقة عن كثب .

** الثالولة **

على غيرالمألوف ، ظلت ( الثالولة ) مستيقظة حتى مابعد منتصف الليل . مازال بعض ألأطفال يلعبون في ألأزقة القذرة المظلمة ، المحرومة من الكهرباء مذ بني أول بيت منها ، تحت رعاية البالغين ، رجالا ونساء ، ممن تجمعوا بحلقات حول ( سيد فولاذ ) وفي مقهى ( أخو عرنه ) ، بينما كان بعضهم يذهب نحو المدينة أو يعود منها مع منهوبات أطلقوا عليها وصف ( حواسم !! ) تيمنا بألإسم الذي إختاره ( الرئيس ) للحرب الثالثة التي قادها ثم إختفى في مكان ما مع وزرائه وقادته .

وكان أطرف ( الحواسم ) منظر عالوس يحمل كرسيا دوارا ، جلس عليه في مقهى ( أخو عرنه ) ، وراح يدور على نفسه محييا الجميع ، كما يفعل القادة الكبار في ألإجتماعات الشعبية ، وسط عاصفة من الضحك ، تبادل فيها الكثيرون الجلوس على ذلك المقعد الجلدي الفخم المريح ، حيث قال رجل عجوز تخلى عن وقاره للحظات وهو يدور حول نفسه عليه سعيدا كالأطفال : ــ ألآن عرفت لماذا يستقتلون من أجل هذه الكراسي !! لا يشعر المرء بأن له مؤخرة عليها !! .

وحدها مجموعة ( ألأحيمر ) عادت بدون ( حواسم ) ، فتساءل شاب ساخرا : ــ ها ؟!! ضيعتم الطريق ؟؟! .

إستغفر ( ألأحيمر ) الله بصوت عال ، كاتما غيضه لثوان ، ثم أطلق ضحكة كبيرة ، تخللها ما يشبه الشخير ، الذي أضحك سامعيه واجاب : ــ لا والله !! عرفنا الطريق ولكن اولاد قحبة مسلحين سلبونا كل ( الحواسم ) التي حصلنا عليها من المعسكر !! .

: ــ خيرها بغيرها !! .

قال الشاب ساخرا وهو يضحك ، ثم مضى مع جماعته ، وهو يتحسس مسدسه الذي أخفاه تحت سترته ، مارا من بين أكوام عجيبة من المنهوبات تحرسها نساء ورجال وحتى أطفال ، بين ( سيد فولاذ ) ومقهى ( أخو عرنه ) وأقرب أطراف بيوت التنك .

عندما وصل ( ألأحيمر ) وهو يلهث من التعب ( برج الضغط العالي ) فوجئ بمجموعة كبيرة من الرجال العجائز مازالت تنصت ، دون ملل ، ( لدليو ) وهو يعيد قصة ( الدقائق الخمسة ) وأغنية ( روح بيهه وع الزلم خليهه ) و ( إبن الحلال ) الذي أطلق سراحه من سجن مجهول كي لايموت جوعا أو من جراء القصف ، بينما كانت ( البرشه ) تقدم الشاي للضيوف بعينين ناعستين متعبتين .

صاح رجل عجوز حالما رأى ( ألأحيمر ) يدفع عربة ( ألّلبلبي ) التي إستعارها من صاحبها : ــ هااااه !!( من طوّل الغيبات نال المغانم ) !! ماذا غنمت يا إبن ( البرشه ) ؟! .

: ــ سخام !! .

أجاب هذا ضاحكا ، ثم قص ماجرى له ولجماعته للمرة الثالثة في تلك الليلة .

** كاشان **

تذكرت ، وهي تمر مع ( المخضرم ) من قرب مبنى المحافظة أن ( معارضا ) نصب نفسه محافظا قبل يومين ، مسنودا بقوة من ألأمريكان و( البيش مركة ) ، وفي أول خطبة له على جمهرة من المارة ضربه بعضهم بالأحذية ، فإبتسمت ، وتلقف هذا ألإبتسامة فقال لها مبتسما : ــ أي هكذا !! معنا تبتسمين دائما !! .

فضحكت لأنه لم يفهم سر إبتسامتها ، وهي تتخيل ( محافظا ) تضربه الناس بالأحذية ، وضحك على ظنه أنها في غاية السعادة معه ، وأراد أن يقول لها كلاما ما ولكن هاتفا رن ّ في خزانة السيارة ، تلقفه على عجل تحت أنظار ( كاشان ) المندهشة التي لم تظن في يوم ما أن ( المخضرم ) يمتلك هاتفا جوالا .

أجاب بإقتضاب : ــ نعم !! نعم !! البلبل معي ألآن !! أحتاج أحدا ينتظرني على الشارع العام ليأخذه إليك !! مع السلامة .

وعندما أقفل الهاتف ، الذي لم تر( كاشان ) مثله من قبل ، واعاده إلى خزانة السيارة تساءلت وعلى شفتيها إبتسامة عريضة ، واعدة كالعادة : ــ كل هذا البدن !! ــ وأشارت نحو جسدها ــ وتسمّيه ( بلبلا ) ؟! . إذن ماذا تسمي البلبل الصغير ؟! .

: ــ أموت حبا بالبلبل الكبير !! .

وألقى نظرة على وجهها وهو يغمز لها ، ثم إسترسل ــ واموت حبا بالبلبل الصغير !! .

قال وهو يلقي نظرة عاجلة ذات مغزى نحو وسطها ، ولكنها تجاهلت غزله البذئ وسألته بفضول صريح لم يخل من إعجاب : ــ لم أر هاتفا مثل هذا الذي عندك من قبل عند أحد !! هل هو لك ؟! .

: ــ نعم !! إنه هاتف ( الثريا ) !! ألم تسمعي به ؟! . وأصدقائي يعرفون مكاني بالضبط عن طر .. !! .

أجاب على الفور ، ثم سكت كأنه فطن إلى أمر ما ، ولكنه إسترسل مزهوا بعد لحظات : ــ أنت تعرفين أن شركائي في تركيا ، وفي الشمال ، لايمكن أن يقابلونني في أيام صدام حسين ، فنصحوني بهذا الهاتف !! إنه ثمين!! ثمن سيارة مستعملة !! أجمع البضاعة واتصل بهم !! ما كنت أستطيع ألإعتماد على بدالات الحكومة !! أي والله !! ثم ماذا تظنين ؟! .

سألها متظاهرا بالبراءة ، فأجابت هذه على الفور : ــ أظنك تكذب يا ( المخضرم ) !! .

فاطلق ضحكة كبيرة قبل أن يوقف السيارة في الجهة المقابلة لضريح ( النبي يونس ) ، إلى جوار أسواق الخضار ، وقال لها متجاهلا إهانتها له : ــ أنظري . ذلك الشاب الذي يرتدي سروالا أزرق فاتحا وسترة سوداء . إلى جوار الدراجة الهوائية المركونة على عمود الكهرباء !! . هل رأيتيه ؟ زين !! هو الذي سيأخذك إلى ( كاكا صالح ) ألان ، لأنني ذاهب في شغل مستعجل وساعود لأخذك إلى .. ( مزبلة الشيطان ) !! عندما تنتهي المقابلة !!.

قال ذلك ساخرا ، كانه يرد لها ألإهانة ، فنزلت وأغلقت باب السيارة بهدوء على عكس ما توقع .

ألقت على الشاب تحية مقتضبة ردها بأدب ، ثم تقدمها نحو زقاق فقير ، في حي ( الدركزلية ) ، تراكمت على جانبيه أكوام من القذارات . توقف الشاب عند باب بيت قديم لايثير إنتباه أحد وفتح الباب بالمفتاح ، وأشار لها بذات ألأدب أن ( تتفضل بالدخول ) ، فدخلت متوجسة في اللحظات التي خرج فيها ( كاكا صالح ) من الغرفة المواجهة للباب الخارجي وهو يردد بمرح : ــ أهلا وسهلا !! أهلا وسهلا !! ماهذه الحلاوة ؟! .

وأشار لها بدخول الغرفة ، فذهلت بأثاثها الفاخر ، وزينتها الثمينة ، التي لا تتناسب مع الفقر المدقع في الحي .

** زمن **

كان الليل قد حل عندما إقتربا فرحين من ( الثالولة ) . قال ( زمن ) لأخته ( صمود ) : ــ سأشتري سيارة إجرة ، وسننتقل من هذا ( التانكر ) الجائف إلى بيت نظيف . ( كونكريت ) مفروش بالبلاط . واسع وفيه كهرباء . هذه أفضل مهنة لي . لا آمر ، ولا مأمور !! رزق حلال !! أذهب وأعود إلى بيتي متى أشاء !! .

وتوقف عن مشيه الحثيث ، وهو يدفع العربة الثقيلة ، عندما أمسكت ( صمود ) بذراعه فجأة . فرشت هذه عباءتها على كيس النقود ، وهي تتواطؤ معه هامسة : ــ سيظن من يرانا أننا كنا في مكان قريب لا يستدعي إرتداء عباءة !! قد يقتلوننا بسبب هذا الكيس !! .

إلتقتهما ( العضباء ) عند ( سيد فولاذ )، حيث تجمهرت مجموعات كثيرة من الناس حول اكوام ( الحواسم ) المنهوبة من أماكن شتى في المدينة ، فإحتضنها ( زمن ) وهمس لها مبتهجا : ــ يمّا !! ماعدنا فقراء !! هذا الكيس ملآن بالفلوس !! .

إنتفضت ( العضباء ) مرعوبة وهي تتساءل مندهشة : ــ من أين ؟! كيف ؟! . وهي تتحسس الكيس بيدها السليمة من فوق العباءة .

أجاب ( زمن ) ضاحكا مزهوا بنفسه : ــ ملائكة الرحمن قذفته نحونا من سيارة عواليس فارين .

: ــ لاتقل لي أنكما نهبتما !! .

قالت ( العضباء ) متوجسة محذرة ، ولكن ( زمن ) سرد لها وبسرعة ما جرى مذ خرجا فجرا من ( التانكر ) حتى خلعت ( صمود ) عباءتها وغطت الكيس قبيل ( قنطرة الحرية ) ، فهدأت دون أن يفارقها قلق واضح .

أغلقت باب ( التانكر ) من الداخل ، فصار البيت مظلما يكاد المرء يرى فيه كفه ، لذا عادت وفتحت الباب مواربا ( ليدخل نور الله المجاني !! ) ، وطلبت من ( عنود ) أن تراقب الخارج : ــ قفي هنا . وإذا رأيت احدا قادما نحونا تنحنحي لتحذيرنا .

ثم عادت مسرعة وفتحت الكيس بلهفة ، ولكنها صاحت مندهشة : ــ هذه أنصاف !! .

ولم يفهم أحد ما قصدت فأوضحت : ــ هذه أنصاف أوراق نقدية مرزومة !! .

: ــ ربما إنقسمت من جراء سقوطها من السيارة !! إبحثي عن غيرها !! .

قال ( زمن ) محبطا ، فقلبت ( العضباء ) الكيس على ألأرض ثم أخذت رزمة وطلبت من إبنها ان يقرأ ختما أحمر طبع على كل ألأوراق فأخذها هذا وإقترب من الباب ليراها بطريقة اوضح ثم قال : ــ ( تالف ) !! .

: ــ مامعنى تالف ؟! .

تساءلت ( عنود ) مندهشة .

أجابت ( العضباء ) ساخرة : ــ معناها أن ( ملائكة الرحمن ) ، التي يعرفها ( زمن ) وحده ، قذفت له بأوراق تصلح للوقود فقط !! .

** الثالولة **

لعلعت فجرا عدة صليات من ألإطلاقات النارية ، فصحا آخر نيام ( الثالولة ) على صوتها المزعج حتى ألأطفال . كانت سيارتا حمل كبيرتين تقودهما مجموعتان مسلحتان من الرجال ، بزيّ كردي ، قد حاولتا ألسطو على غنائم ( الثالولة ) ، بين ( سيد فولاذ ) ومقهى ( أخو عرنه ) ، فاطلق ثلاثة شبان من ( الثالولة ) النار عليهما وقتلوا واحدا بينما هرب ألآخرون بسيارة واحدة ، تاركين السيارة الثانية التي تبين انها مسروقة من دائرة ( ألأوقاف والشؤون الدينية ) في ( الموصل ) ، وقد إختفت بعد ساعات في البر الغربي .

كان القتيل في الثلاثين من عمره ، وتشير بطاقة هويته إلى انه من قرى محافظة ( دهوك ) ، ودفن قبيل الغروب في مقبرة ( وادي الحرامية ) بإشراف ( ملا حمادي ) ، الذي كان مستاء صراحة من هذه المهمة التي ألزمه بها الرجال العجائز ، وكان يردد طوال الوقت الذي أمضاه عند القبر الجديد : ــ حرام !! حرام !! والله حرام !! . تعليقا على كل ما يجري من أعمال نهب وقتال من جرائه بين النهّابين .

ثمة مروحيات امريكية كانت تمر في فضاء ( الثالولة ) على إرتفاع منخفض ، يصوّر منها أمريكان ما يجري على ألأرض باجهزة تصوير ، تجاهلها زبائن مقهى ( أخو عرنه ) ، كما تجاهلوا ألأيادي التي كانت تلوّح لهم منها ، وتساءل رجل عجوز تخلص من سعال تبغه الرخيص : ــ لماذا يظن هؤلاء أننا حيوانات لا نفهم معنى الوطن ؟! .

أجاب شاب بلهجة غاضبة : ــ لأن ( العراقيين !! ) الذين جاءوا معهم أوهموهم بذلك يا عمّي !! .

وتغير مجرى الحديث بسرعة عندما ذكر أحد الزبائن ، معززا قوله بقسم غليظ ، انه رأى ( عدي ) و ( قصي ) ومعهما رجلين او ثلاثة ، بسيارة بيضاء حديثة الصنع ، منطلقة ( كالبرق !! ) في شارع ( بغداد ــ موصل ) ، فعلّق الشاب ألأول : ــ طبعا ينطلقون ( كالبرق !! ) ، كانا ثروة وما زالا ثروة !! ، كفاهم ما اكلوا !! ، وتركونا تحت رحمة هؤلاء !! .

وأشار نحو المروحيات ألأمريكية .

ثم سكت معظم الزبائن عندما توقفت سيارة إجرة قرب هيكل ( سيد فولاذ ) وترجّل منها رجلان عجوزان وإمرأة طاعنة في السن ، بالزيّ الكردي ، فنهض ( ملا حمادي ) قائلا بإستياء وأسف : ــ لن أكون وجه حذاء لأحد !! هؤلاء أهل القتيل و لا أريد أن يتذكّروا وجهي على فاجعتهم !! .

ثم مضى مسرعا نحو أول أزقة ( الثالولة ) .

** كاشان **

لم تستغرب ( كاشان ) أن ينهض ( كاكا صالح ) عن كرسيه ، حالما غادر الشاب الغرفة بعد أن قدم لهما قدحين من الشاي المعطّر . جلس لصقها على ذات القنفة الفاخرة المريحة ، كمن يستعد لأمر غاية في السرية يستدعي حوارا هامسا عن قرب شديد ، ولكنها سحبت كفها كالملسوعة من تحت كفه التي باغتتها على همسة مشفوعة بنظرة شبقة : ــ هل بعت الرمانات ؟! .

أجابت وصدرها يعلو ويهبط : ــ لا !! .

عندئذ إعتدل سعيدا وقال لها بمرح : ــ شوفي !! من يعمل معي يربح . لا أتذكر أنني خسرت صفقة في حياتي !! الرمانات إرتفع سعرها في السوق !! ومع أنك لم تدفعي ثمنها لي بعد ، فأنا عند كلمتي ووعدي . سأشتريها منك ألآن !! وسأدفع لك الفرق !! .

وأخرج من جيبه رزمة مذهلة من الدولارات ، اخذ منها ورقة واحدة ، ثم إسترسل وهو يرشقها بذات النظرة الشبقة : ــ هذه خمسون دولار !! وعندما ترسلين لي الرمانات مع ( المخضرم ) سأرسل لك خمسين أخرى . معي تربحين !! ولا أظنك تجنين مائة دولار في يوم واحد من ( مزبلة الشيطان ) !! تحتاجين لما لايقل عن شهرين لربح مائة دولار عندما ( كانت !! ) مجموعاتك من الفتيان والفتيات تعمل بكل طاقتها في جمع النفايات !! والآن ؟! .

وعندما مدت يدها لتأخذ الورقة تلقفتها يده بقوة ، وجذبها نحوه بعنف لم تتوقعه ، وهو يقبض على ثديها باليد ألأخرى ثم ينهال بالقبل على عنقها وعلى شفتيها ، حاولت التملّص من ( همجيته ) المفاجئة ، ولكنها تراخت بعد قليل ، فعرّاها ثم ضاجعها على أرض الغرفة المفروشة . إستجابت له بحرارة فتاة صغيرة السن تجرب الجنس منذ فترة قصيرة ، كما هي عادتها مع كل رجل غريب ، دون أن يتخلى كفها عن ورقة الخمسين دولار .

ضغط على جرس كهربائي ، بعد أن إرتدت ملابسها لاهثة. دسّت الورقة النقدية في جيبها وهي تبتسم متشاغلة بنقوش الفرشة الفاخرة . طلب ( كاكا صالح ) من الشاب فنجانين من القهوة ، ثم طلب منها أن تسرد له ( كل مشاكلها !! ) على ( وعد شرف !! ) أن يحلّها جميعا مادامت ( تحبّه ) و ( يحبهّا ) .

فراحت تسرد له كل شئ عن حياتها في ( الثالولة ) ، حتى علاقتها ( بالبدراني ) ، كما طلب ( كاكا صالح ) ، الذي تحاشت ذكر أية معلومة عن علاقتها الجنسية به ووصفته بأنه مجرد ( مستأجر ) لواحدة من غرفها المعروضة للأيجار ، إستثمرت معرفته بالسياقة وشغلته مجرّد ( سائق ) لأنه ( رجل معوّق مقطوع من شجرة !! ) .

وكان ( كاكا صالح ) ينصت لها بإنتباه لم تعهده من أي رجل عرفته من قبل ، ولم يقاطعها إلا في ماندر ، فشعرت بشئ من الزهو بنفسها ، وهي ترتشف الفنجان الثاني من القهوة دون تحفظ ، كما تفعل النساء عادة ، حتى قال لها بحرارة وود ّ واضحين بعد ان توقفت عن الكلام : ــ شوفي !! كل ما ذكرتيه من مشاكل يمكن حله ببساطة شرب هذه القهوة . ولدي مشاريع لم تخطر على بالك قط !! تربحين منها عشرات ألوف ، وربما حتى مئات ألوف ، الدولارات ــ وشدد على الكلمة ألأخيرة ــ إذا بقينا أحبّة هكذا !! .

وغمز لها وهو يبتسم ثم إسترسل : ــ لدي موعد عمل هام بعد قليل . سأتركك هنا ، وإذا إحتجت لأيّ شئ ، أضغطي على هذا الجرس ولا تترددّي في الطلب . شغلي التلفزيون ، يعمل بالستلايت ، وتفرجي على ما يدور في الدنيا ، تحررنا من الدكتاتورية التي منعت عنا كل شئ . أنت الملكة هنا ألآن . تذكري هذا . ولا تقلقي إذا تاخرت . زين حبيبتي ؟! .

** البدراني **

نمت مرتاحا في تلك الليلة ، مطمئنا إلى انني ( أمانة ) في يديّ ( بمو ) ، الذي لم يحدد لي موعدا للسفر ، ولكنه قال لي وهو يغادر المقهى : ــ كن جاهزا منذ يوم غد . إبق في نفس الفندق رجاء . قد آتيك في أية لحظة لنسافر ، وخفف مما تحمله .

ثم ألقى نظرة عاجلة نحو حذائي وإسترسل : ــ وإشتر لنفسك حذاء رياضيا . سنمشي مسافات طويلة على طرق جبلية لايتحملها حذاء عادي ، وقد تجد حتى علبة السيكائر ثقيلة !! وأرجوك لاتخبر أحدا ، أيا كان ، أننا قد إتفقنا على سفر . قل أنك مازلت تبحث عمن تسافر معه .

ثم شد ّ على يدي بحرارة وقوة ومضى ، وكرر لي ( انور ) ذات التعليمات مؤكدا صدقها واهميتها دون ان يتخلى عن وصف صاحبه ( بالحيوان !! ) الذي رضي ، لدهشتي ، أن يحتفظ ( أنور ) بأجور تهريبي ( أمانة !! ) عنده حتى اصل ( اليونان ) ، يقبضها ( بمو ) حالما يتأكد ( أنور ) أنني وصلت إلى هناك ( سالما !! ) .

نمت حتى العاشرة صباحا على فراشي القذر ذي الرائحة النتنة ، وكان أول مافعلته هو الذهاب إلى المرحاض حيث فتحت بشفرة حلاقة واحدا من كمّي قميصي واخرجت أربع مائة دولار منه ، سارعت بإخفائها في فردة جوربتي ، ثم تناولت إفطارا سريعا في غرفة ألإستقبال الخالية إلا مني ومن ( مدير إدارة ) الفندق المنشغل بقراءة جريدة معارضة طبعت على ورق أسمر هزيل المنظر .

تاكدت ان لا احدا يراقبني في الزقاق المؤدي إلى بيت ( انور ) واخرجت النقود بسرعة من جوربتي . طرقت الباب فخرجت زوجته واخبرتني أنه سيعود بعد الظهر إلى البيت . اعطيتها النقود . واخذت أعمق شهيق من الهواء النقي ، مذ غادرت قريتي على اطراف ( الرمادي ) ، وانا انظر نحو السماء الواسعة . شعرت بأنني ( جاهز تماما !! ) للسفر ألآن .

تخليت عن اعتق بنطلون مع قميص ماعاد لونه يعجبني وزوج من الجواريب ، ثقبت فردة منه ، وإشتريت حذاء رياضيا أودعته ( كمادة ثمينة ) لدى ( مدير إدارة ) الفندق ، لأنني خشيت أن يسرق من غرفتي ، مفتوحة الباب دائما ، بينما ساعة السفر تقترب ، ولا ادري في أية لحظة ( أودّع كل شئ هنا ) .

** الثالولة **

قبيل آذان الفجر ، إستيقظت ( الثالولة ) على إطلاق نار كثيف في أزقتها وأقدام تركض في كل ألإتجاهات . ( ألأمريكان !! ) . إنتقلت الكلمة بسرعة من جدار إلى جدار ، ولكن هذا لم يمنع الباعة المتجولين والعمال من الخروج نحو المدينة . ثمة مدرعات وجنود في كل الجهات يصوبون أسلحتهم المستعدة لإطلاق النار نحو المارة ، ولكن صوتا جاء عبر مكبرة الصوت ، بلهجة عراقية ، طلب ( ألا يغادر أحد بيته حتى ينتهي التفتيش !! ) فعاد مترددا إلى بيته كل من خرج .

قرقعت حاكية ( ملا حمادي ) بآذان الفجر فجأة ، ولكن صوته إختلط برطانة رجل وجه له أمرا ما فسكتت الحاكية ، عندئذ فهم الجميع أن ألأمريكان في ( برج الضغط العالي ) ، ولكنهم ضحكوا عندما سمعوا المترجم يطلب عبر حاكيته المنصوبة قرب ( سيد فولاذ ) من ( المسؤولين الحكوميين تسليم أنفسهم فورا !! ) .

بعد قليل عاد المترجم العراقي يطلب من ( كل له علاقة بالحكومة السابقة أن يخرج من بيته ويسلم نفسه لأقرب جندي أمريكي !! ) ، فضحكت ( الثالولة ) مرة ثانية ، إذ ماعرفت أحدا من هؤلاء غير ( الشيخ بعيو ) الذي يسكن الحي ّ ألآخر ، ووجوه مرت لمرة واحدة أو إثنتين من موظفي الحكومة للتبليغ بأوامر إلقاء القبض على أحد من سكان المنطقة ، وعمال البلدية الذين كانوا يرمون الزبالة في ( وادي الحرامية ) .

كانت المروحيات تحلق لصق سقوف البيوت ، حتى أن كثيرا من العوائل شعرت بزوابع الهواء تنهمر من بين شقوق ألأبواب والنوافذ ، وثمة زخات من الرصاص تفقع من هنا وهناك ، دون ان يعرف أحد السبب . وكانت (الثالولة ) تراقب ما يجري في الخارج من درفات ألأبواب وشقوق الصفيح بقلق .

ولأول مرة رأى أطفال الثالولة ( الجنود ألأمريكان !! ) ببشرات وعيون مختلفة ألألوان ، محمّلين بأكداس من ألأسلحة والتجهيزات العسكرية ، يقتادون رجالا عراقيين من أهل المحلة وضعت على رؤوسهم أكياس !! فضحك ألأطفال وإستاء البالغون ، الذين تناقلوا الخبر عبر الجدران ، التي نقلت عن هؤلاء أنهم لايطرقون باب أحد !! بل يرفسونه ( كالمجانين !! ) ويدخلون مع كلابهم المسعورة غرف العوائل دون إحترام لأحد أيا كان !! .

** العضباء **

لأنها ماعادت تستطيع النوم لفترة طويلة من جراء الكوابيس ، مذ قبضت على ذراع الشهيد وهي تنبض ببقايا حياة ، ومذ ماتت حفيدتها ( هجران ) ، ثم رأت بركة الدم تتسع حول الشاب في المعسكر الذي كان يتعرض للنهب ، فقد صحت قيبل آذان الفجر ، وخرجت لتشم ّ شيئا من الهواء النقي في الباحة الفاصلة بين ( التانكر) و( برج الضغط العالي ) .

لمحت أضواء قوية تتقاطع على سفح ( تل الهوى ) قادمة من جهة قصر( الشيخ بعيو) و( حي الزنجيلي ) ، فقادها فضولها لمعرفة مصدره ، حيث رات أضواء رتل من السيارات ينساب مثل إفعى مضيئة من هناك نحو ( الثالولة ) ، وفجأة مرت من فوقها تماما مروحية أمريكية فلاذت مرعوبة بأقرب الجدران .

إنتظرت حتى إبتعدت الطائرة قليلا وصاحت بأعلى صوتها : ــ كبسة !! كبسة !! ألأمريكان !! ألأمريكان !! .

ثم تذكرت البندقيتين في بيتها فركضت وألقتهما مع الكيس الذي وضعتهما فيه في الزقاق ، وهي تبتهل لله أن ( يعمي أبصارهم وبصائرهم ) ، مندهشة من النوم العميق الذي خيّم على إبنها وبنتيها .

وعندما فكرت بالنيام ، الذين ربما لم يصحوا بعد رغم مرور المروحية الثانية على إرتفاع واطئ جدا ، وكانها تحاول الوقوف فوق واحد من البيوت ، ركضت نحو سلّم ( برج الضغط العالي ) وصاحت واضعة كفيها حول فمها : ــ كا .. بساه !! كا .. بساه !! ألأمر .. يكان !! ألأمر .. يكان !! . كا .. ب ساه !! .

ثم عادت راكضة نحو ( التانكر ) حالما سمعت أقداما تركض في الزقاق القريب ، واغلقت الباب خلفها وهي تلهث من شدة التعب والخوف .

وفي اللحظة التي مدت فيها يدها السليمة لتوقظ ( عنود ) ، متجاهلة دهشة ( زمن ) و( صمود ) ، فرقع باب (التانكر ) وسقط على ألأرض بضجة مرعبة ، وإندلقت بعده أشرطة من أنوار البطاريات تتلاصف متقاطعة في كل أنحاء الغرفة مع زمجرة كلب ، فلم تجد ( العضباء ) في ذاكرتها غير كلمة ( تأ !! ) محتجّة رددتها في وجه أول جندي أمريكي تراه في حياتها داخل ( التانكر ) !! .

أزاحها هذا بحدة عن طريقه ليسلط الضوء على ( صمود ) التي لاذت خلفها ، ورطن بكلمات لم يفهمها أحد ، غضب بعدها هذا وجر الفتاة من كتفها ، ولكن ( صمود ) تشبثت بأمها وهي ترتجف مرعوبة ، فمد جندي آخر يده نحو صدرها ليفصلها عن ( العضباء ) ولكن هذه صفعته لأن مسّ ثديها .

ضحك الجندي ألأول بعد رطانة قام الجندي الثاني على أثرها بالقبض على شعر الفتاة ومد يده ألأخرى نحو ثدييها وفركهما وهو يرطن ضاحكا ، فصفعته ( صمود ) ثانية ، بينما كانت ( العضباء ) تصرخ : تأ !! تأ !! و( زمن ) يحاول التملّص من قبضة جندي ثالث غاضبا ، في اللحظة التي لطم بها الجندي الثاني ( صمود ) بقسوة فأسقطها أرضا ، والمترجم العراقي يقول : ــ لايتحرك أحد !! يطلقون النار على كل من يتحرك !! .

ولمحت ( العضباء ) ( زمن ) وهو يسقط على ألأرض بعد ضربة تلقاها من ضربة قوية من عقب بندقية الجندي ألأمريكي فسقطت هي ألأخرى وهي تسمع ( عنود ) تصرخ بجنون في الزاوية البعيدة من ( التانكر) .

** البدراني **

طوال فترة مابعد الغداء حتى غابت الشمس ، كنا نمشي أنا و( أنور) في شوارع ( السليمانية ) وأسواقها . حدثني عن نشأته في هذه المدينة ، وكيف جرته البطالة للتطوع في صفوف ( البيش مركة ) ، ثم إستقالته منها بعد أن إكتشف أن معظم ألأحزاب الكردية ، كما هي ألأحزاب العربية العراقية ، لها برامج معلنة جميلة وبرامج غير معلنة ، قبيحة ، (غير إنسانية !! ) ، وكأن العمل السياسي في هذا البلد ( تنظيمات عصابات ) دموية تتخفى خلف إبتسامات ( القادة ) .

وحدثته عن نشأتي في قريتي ودراستي في ( الرمادي ) و ( بغداد )، وعن وظيفتي كمدرّس لمادة ( التربية الوطنية ) ، التي لم أقبض راتب الشهر ألأول منها ، وإستهواه الحديث عن البنات الطليقات بثقافة العاصمة ، اللواتي يختلفن كثيرا عن بنات قريتي وبنات ( الرمادي ) ، وحدثته عن قضيتي مع الحكومة ، التي جنّحها خوفي من السجن وإحتمال الحكم علي بسبب إطلاقتين طائشتين أطلقتهما عفويا توديعا لرجل غضبت من الطريقة التي قتل بها ، ( بأنياب كلاب جائعة !! ) ، والتي دفعتني للفرار إلى هذا المكان بحثا عن ملاذ آمن .

تناولنا عشاء مبكرا ، كما إعتاد ( أنور ) ، وبعد ان تناولنا قدحين من الشاي في زاوية مكتضة بالمارة من أحد الشوارع ، طرف منه مضاء بمولدات الكهرباء ، والطرف ألآخر مظلم ، إستحلفني فجأة وهو يستعد للعودة إلى بيته ، ببساطة وطيبة أحببتها فيه ، عما ( إذا كنت محتاجا للأربع مائة دولار التي تركتها له عند زوجته أم لا ؟! ) . وأقسم لي ( أنها في جيبه ألآن !! ) ، وانه مستعد لإعادتها لي فورا ، طبعا دون علم ذلك ( الحيوان !! ) ، ( بمو ) ، وأنه سيعتبرها قرضا بذمتي أعيده عندما أصل دولة آمنة .

فأقسمت له أنني لا احتاجها ، شاكرا له شهامته وكرم اخلاقه ، عندئذ كرر لي وصايا ( بمو ) وطلب مني ألا اغادر الفندق لفترة طويلة لأن هذا ( الحيوان !! ) مخبول وعصبي ، ( إذا جاء ولم يجدك فقد يسافر بدونك ، وقد فعلها عدة مرات ، مع آخرين !! ) .

وعند ساحة ( مولوي ) صافحني ( انور ) بحرارة على امل أن نلتقي غدا ، فشعرت وانا اعود وحيدا نحو الفندق المظلم ، برغبة مفاجئة للبكاء ، على فكرة انني أعيش اللحظات ألأخيرة ، مع ألإنسان ألأخير ، الذي جعلني أشعر أنني مازلت في العراق .

** الثالولة **

خيل ( لزمن ) أن قصفا طاول البيت ، عندما فرقع باب ( التانكر) ، فإستيقظ مرعوبا ، ولكنه فوجئ بضوء بطارية يعمي عينيه ورطانة رجال أغراب وزمجرة كلب فقفز عن فراشه واضعا كفيه على عينيه وهو يرتعد خوفا ، بينما كانت ( العضباء ) تتأتئ على رطانة تتكرر : ــ ( شت أب ) !! لم يفهم ( زمن ) معناها .

ضرب الجندي ألأمريكي ( صمود ) وأسقطها أرضا وإنكشف ثوبها عن ساقيها ، فقهقه الجندي وراطن من معه ، وإندفع ( زمن ) ، حائرا بين أن يضرب الجندي الذي ضرب أخته أو يغطي عريها أمام رجال أغراب ، فتلقى ضربة مفاجئة بعقب بندقية سقط على أثرها ، شبه فاقد لوعيه ، وسمع ( العضباء) تطلق ( تأ !! ) عالية أخرى .

وعندما صحا ، ظن انه أصيب بالعمى من جرّاء الضربة القاسية التي تلقاها ، فحاول أن يتحسس عينيه ولكنه وجد يديه مقيدتين خلف ظهره ، فصرخ مرعوبا : يمّا !! .

وهو يحاول النهوض ، ولكن ضربة أخرى أسقطته من جديد على ألأرض ، وهو يسمع أختيه تولولان خائفتين والجنود يرطنون بمرح وكلب قريب يطلق زمجرة خافتة .

حاول أن يعتدل ، ولكن قدما ثقيلة حطت على صدره مع رطانة ترجمها ( عراقي !! ) :ــ لا تتحرك !! يطلقون عليك النار إذا تحركت !! .

وفهم بعد ثوان أنه ليس اعمى كما خيل له قبل قليل ، بل انهم وضعوا على عينيه عصابة عريضة ، ربما كيس ، رأى من طرفه السائب أضواء البطاريات تتلاصف على ألأرض .

إمتدت يد ورفعته من إبطه عن ألأرض فإستجاب ، بينما كانت مروحية ترسل زوبعة من الهواء عبر باب ( التانكر) نحو الداخل ، وصوت المترجم العراقي يتساءل : ــ عندكم أحد من المسؤولين في الحكومة ؟! .

أجابت ( صمود ) غاضبة وهي تبكي : ــ وهل انتم عميان ؟! ( مسؤول !! ) يسكن هذا البيت ؟!! .

بعد أن ترجم هذا كلامها عاد يسأل : ــ هل تعرفون أحدا من المسؤولين يسكن هذه المنطقة ؟ .

أجابت ( صمود ) بذات الغضب : ــ وهل تظنون أن ( الثالولة !! ) هي القصر الجمهوري ؟! .

ضحك ألأمريكي بعد أن ترجم له هذا ماقالته ( صمود ) ثم رطن وعاد المترجم يتساءل : ــ هل لديكم سلاح حكومي ؟.

ومرت فترة سكون ، وحدها ( العضباء ) كانت تتأتي خلالها ، ثم أجابت صمود : ــ لا !! .

زمجر الكلب ، وبعد رطانات كثيرة سحبت يد قوية ( زمن ) مع أمر من المترجم العراقي : ــ إمش !! بدون مقاومة !! يطلقون عليك النار إذا حاولت المقاومة !! .

شعر بالهواء البارد يلفح جسده بعد أن جرّه الجندي ألأمريكي متعثرا ، وفكر انهم سيطلقون سراحه بعد قليل ، مع أن هذا إنحدر به عبر واحد من ألأزقة الضيقة نحو مكان ما من ( الثالولة ) ، ثم أجلسه على ألأرض مرددا رطانات لم يفهمها .

** العضباء **

صرخت ( عنود ) بوجهها مرعوبة وهي تهز كتفيها : ــ يمّا !! أخذوا ( زمن ) !! أخذوا ( زمن ) يمّا !! .

فكررت ( العضباء ) نصف مغمضة العينين بما يشبه البلادة وعدم فهم ما يجري : ــ ( زمن ) !! ( زمن ) !! .

ثم نهضت وأطلقت ( تأ !! ) محتجة غاضبة ، بعد أن ألقت نظرة نحو ( صمود ) ، التي ألصقت ظهرها على الجدار واضعة رأسها بين كفيها وجسدها ينتفض بنوبات بكاء مكتومة ، وركضت خارجة من ( التانكر ) وهي تصيح : ــ تأ !! تأ !! .

صادفت جنديين أمريكيين ، عند ( برج الضغط العالي ) ، صرخت بهما غاضبة ولكنهما اهملاها حتى حاولت ألإقتراب من أحدهما فوضع ألآخر بندقيته على خاصرتها ورطن غاضبا ، فركضت نحو ( سيد فولاذ )، تتبعها ( عنود ) و ( صمود ) ، حتى وصلن مجموعة كبيرة من النساء المولولات وبعض الرجال العجائز الغاضبين مع سيكائرهم ، عند الخطوة ألأخيرة التي منعت أي واحد منهم من الذهاب نحو الساحة التي جمعوا المقبوض عليهم من رجال ( الثالولة ) والذين وضعت رؤوسهم في أكياس غريبة جالسين بصفين على ألأرض عند بداية ( قنطرة الحرية ) .

لم تصدق ( العضباء ) أن ( زمن ) يمكن ان يكون بين من تراهم من ( مكيّسي الرؤوس ) ، لذا راحت عيناها تبحثان عنه بين الجنود ألأمريكان وسياراتهم المنتشرة في كل مكان تراه ، وأسلحتهم مصوبة نحو كل الجهات على وشك إطلاق النار ، حتى يئست من العثور على ( وحيدها ) فإندفعت نحو المترجم العراقي وهي تصرخ : ــ ( زمن ) !! أين إبني ( زمن ) ؟! ( زمن ) !! .

ولكن جنديا أمريكيا وضع بندقيته على صدرها ودفعها بقوة راطنا كالمجنون ، فتراجعت مذهولة مرعوبة من عينيه الزرقاوين وحواجبه الشقر المحفوفة تحت خوذته العسكرية . شعرت بالغثيان وهي تطلق في وجهه ( تأ !! ) وصرخ هو برطانة لم تفهمها ، ولكنها أهملته صرخت بالمترجم حالما إلتقت عيناها بعينيه الضيقتين ووجهه ألأسمر الكالح : ــ قل لهم يا إبن القحبة أن إبني ليس وزيرا !! لم يفطم بعد !! وهو مجرد حمّال في سوق الخضار !! أعيدوه لي !! أعيدوه !! قل لهم .. !!

ولكن هذا ألقى عليها بنظرة إحتقار وتشاغل عنها بالرطانة مع ضابط أمريكي ، فتهاوت على ألأرض ، عندما رأتهم يضعون ( مكيّسي الرؤوس ) في سياراتهم ثم يمضون ورشاشاتهم مصوبة نحو ( الثالولة ) التي غطتها المروحيات المدجّجة بالصواريخ .

** البدراني **

عدت مثقلا بحزن ، ما ألفته من قبل قط ، بعد العشاء إلى الفندق المعتم ، فأفرد لي ( العقيد الركن عدنان ) مكانا إلى جواره في أبعد زوايا غرفة ألإستقبال . عرّفني حالما جلست على ( ألأستاذ هفال ) ، الجالس إلى جواره ، ثم طلب من صبي المقهى ثلاثة فناجين من القهوة ، بدا كانه كان ينتظرني ليطلبها .

وبينما حافظ ( ألأستاذ هفال ) على رزانته ، إندلق ( العقيد الركن ) يسالني في حوار حميمي لايحصل إلا بين صديقين على معرفة قديمة : ــ الله !! كم هي ( الموصل ) جميلة !! أهلها دائما تظهر على وجوههم العافية !! مدينة مباركة !! وكيف حال ألأهل ؟! لم تقل لي !! هل عثرت على مهرّب يأخذك معه ؟! .

: ــ لا !! .

أجبت بإقتضاب وبرود تعمّدتهما لأنفي أية حميمية تربطنا ببعضنا .

ولكن هذا واصل حميميته قائلا بمرح : ــ أعرف أن حظك ليس سيئا !! هذا أفضل لك : أن لاتعثر بعد على أحد من هؤلاء الكذابين المحتالين !! شوف أخي ( عبد الكريم ) !! ــ وأجفلت من إسمي المستعار الذي كنت قد نسيته ــ أريد أن أنفعك !! من يدري ؟! قد تنفعني أنت ألآخر في يوم ما !! فلنتكلم بصراحة بحضور أخي ( ألأستاذ هفال ) !! ولا تخف !! هو شخص مأمون الجانب ومعروف جيدا في مدينة الحرية هنا !! لأنك ضابط طيار ، من جماعة المرحوم اللواء الركن ( محمد مظلوم ) فهذا يعني أن كل الفرص أمامك مفتوحة ألآن ، ليس في حق اللجوء السياسي إلى دولة ديمقراطية ، بل وللثراء أيضا !! نعم الثراء !! لا تندهش !! .

وسكت ريثما وضع صبي المقهى فناجين القهوة أمامنا ، ثم أشار لي بالسكوت عندما رآني اهمّ بالكلام ، وإسترسل بذات الحرارة : ــ أنت معارض ألآن !! ولا يمكنك أن تعود إلى الداخل !! تعدم إذا قبضوا عليك لمجرد أنك وصلت هذا المكان !! يعني لا بد أن تستمر في طريقك حتى نهايته !! ولنكن صريحين !! نحن المعارضة فعلنا كل شئ لإسقاط الحكومة ولكننا لم ننجح !! ولكن هناك من هو أقوى منا ، وحتى من الحكومة ، ويريد مساعدتنا على إسقاطها ، ولكن يحتاج هذا الطرف إلى معلومات دقيقة عن الدكتاتورية ليسقطها ويسلم الحكم لنا !! أنا وأنت وألأستاذ ( هفال ) ، وكل الوطنيين الحقيقيين ، نبني علاقاتنا مع بعضنا على أساس الثقة !! وأول دروب الثقة هو أن نتبادل المعلومات التي نمتلكها عن عدونا المشترك لنسقطه !! لذا نساعد بعضنا بكل شئ !! من لديه معلومات يساهم بالمعلومات ، ومن لديه مال يساهم بالمال !! .

وسكت لثوان ، أشعل خلالها سيكارة ثمينة كان ( ألأستاذ هفال ) قد أعطاها له ، قبل أن يسترسل بحرارة أشد : ــ شوف أخي ( عبد الكريم ) !! ليس منا من لايحتاج إلى المال في هذه ألأيام الصعبة ، ونحن في المعارضة .. !! عائلتك تحتاج المال أكثر منك ألآن !! وعائلتي ، وعوائل معظم المعارضين هنا !! خاصة إذا أردت لهم أن يهربوا مثلك إلى بر أمان !! في ( أوربا ) أو ( أميركا ) !! ولا أظن انك تريد الهروب نحو بلد عربي !! اول مايفعله معك أي نظام عربي هوأن يطلب منك ألإرتباط بجهاز مخابراته لتتجسس على العراقيين أولا !! أنظر كيف باعوا البلاد العربية ( لأميركا ) وبعض الدول ( ألأوربية ) !! فهل تبيع نفسك لهؤلاء ؟! إذن !! الباب مفتوح لك ألآن !! بصراحة ، ساعدنا بما لديك من معلومات عن القوة الجوية أو غيرها ، نساعدك بالمال الذي تحتاجه انت وعائلتك ، ونساعدك في الوصول إلى أية دولة تريد ، انت وعائلتك !! . هل تشرب فنجانا آخر من هذه القهوة الممتازة ؟! .

تساءل معجبا بنفسه .

كنت قد اخذت رشفتين من فنجاني ، تأكدت بعدهما أن كل شئ يمكن أن يوصف ( ممتازا ) إلا تلك القهوة التي إرتشفها ( العقيد الركن ) متلذذا وهو يرصد ردود أفعالي عن خطبته التي طالت ، وكنت محتارا بين أن أصحح له معلوماته عني ، او أتركه على أوهامه بأنها صحيحة ، وعن الفوائد التي أجنيها في الحالتين في مدينة عجيبة تحكمها منظمات الجاسوسية الدولية ، ولكن نظرة الصياد الخبيثة التي رأيتها في عيني صاحبي ألجاتني لإجابة لم أفكر طويلا بها : ــ بعض ماقلته صحيح ، والبعض ألآخر خطأ . ولكن صدقني : لامعلومات لدي عن الحكومة !! .

** الثالولة **

عندما مضى ألأمريكان مع ( مكيّسي الرؤوس ) ، وأسلحهم المستعدة لإطلاق النار مشرعة نحو الجميع ، ركضت (البرشة ) نحو ( سيد فولاذ ) وألقت نفسها على واحد من أذرعه الضخمة وهي تلطم وجهها الهزيل وصدرها ، على دهشة الناس من القبض على زوجها ( دليو ) الذي خرج من سجن الحكومة قبل أسابيع إلى سجن ألأمريكان (مكيّس ) الرأس .

وكانت ( العضباء ) واقفة هناك وهي تتأتئ ملوّحة بيدها السليمة نحو الجهة التي غابت فيها سيارات ألأمريكان التي أخذت ( وحيدها !! ) ، ( الذي يبكي إذا جاع ، ويتبوّل عل نفسه إذا خاف !! ) ، والذي لايعرف من دنياه غير (الثالولة ) و( سوق المعاش ) وعربة التحميل !! ، وسرعان ما تحول المكان إلى مناحة جماعية للعوائل المنكوبة بذويها من ( مكيّسي الرؤوس ) .

بعد ان شاع أن ( البدراني ) يجيد التكلم بالأنكليزية بحثوا عنه ولم يجدوه . ( فص ّ ملح وذاب !! ) . قالت لهم ( كاشان) التي أيقضوها ، متذمرة من صفاقتهم ، بطرقات متوالية وحادة على باب الدكان الفولاذي ، فجلس على ألأرض عند اقدام ( سيد فولاذ ) ، معظم ذوي ( مكيّسي الرؤوس ) وأكثرهم من عمال البناء والباعة المتجولين ، وأفضلهم حظا كان ( ملا حمادي ) بوصفه ( نائب ضابط متقاعد ) ، ومشعوذ كان يدّعي القدرة على قراءة الطالع عبر مرآة سحرية ( أصيبت بالعمى !! ) عن ألأمريكان الذين قبضوا عليه، كما تندّر أحد الساخرين .

وتم ألإتفاق على الذهاب إلى مبنى المحافظة الذي إحتله ألأمريكان مع مؤازريهم من ( البيش مركة ) وبعض العراقيين المجهولين الذين جاءوا معهم من دول أجنبية ، لعل واحدا من هؤلاء يفهم ان كل ( مكيّسي الرؤوس ) فقراء أبرياء لاعلاقة لهم ( بطويل أو قصير !! ) في الحكومة التي إختفت ، ولكن الجميع إتفقوا على ضرورة إستصحاب ( البدراني ) ليتحدث مع ألأمريكان بلغتهم وبإسم أهل ( الثالولة ) جميعا ، فجددوا حملة البحث عنه في كل مكان دون جدوى .

عاد متمهلا على عرجه بعد صلاة الظهر نحو مقهى ( أخو عرنه ) فصاح به أكبر العجائز سنا شبه غاضب منه : ــ لاتجلس يا إبن العروس !! تعال معنا ألآن لتتكلم مع ( العميان ) بلغتهم عن اولادنا !! فجعوا إثنتين وعشرين عائلة في هذا الصباح وانت مختف في ( ... ) ( كاشان ) !! .

ولكن ( البدراني ) جلس ، وأشعل لنفسه سيكارة ، اخذ منها نفسا طويلا قبل ان يقول بهدوء : ــ أعرف يا عمّي بهذا الخبر !! ولكنني لا أريد أن أتحدث مع هؤلاء !! .

واشار نحو الجهة التي مضت منها قافلة ألأمريكان .

خيمت خيبة ألأمل على وجوه سامعيه . قرأها ( البدراني ) في عيون الجميع فاطرق نحو ألأرض زامّا شفتيه لثوان ، ثم رفع رأسه ونفث دخان سيكارته قبل أن يدعك سيكارته بعصبية بعقب حذائه العتيق ثم قال وهو ينهض : ــ سآتي معكم !! .

** العضباء **

طالت غيبوبة ( العضباء ) ، عند أقدام ( سيد فولاذ ) وبداية ( قنطرة الحرية ) ، رغم رشقات الماء البارد وولولولات إبنتيها ، حتى خيل للعجائز أنها تحتضر حزنا على وحيدها ، لذا وضعنها على عربتها الخشبية ، بمجهود كبير ، ونقلنها حتى بوابة ( التانكر ) التي حطمها ألأمريكان ، ثم تعاون ّ على وضعها على فراشها الرث البالي .

ومع أن عجوزا جلبت طعام الغداء للفتاتين اللتين جلستا إلى جوار أمهما مرعوبتين باكيتين ، إلا انهما لم تتناولا الطعام حتى طقطقت حاكية ( برج الضغط العالي ) وأدّى أحدهم آذان صلاة العشاء ، ففاجات ( العضباء ) البنتين بصرخة ( تأ !! ) خافتة سارعت ( صمود ) بعدها بسقيها رشفة من الماء فتحت عينيها على اثرها ورمت البنتين بنظرة ( لاترى !! ) ما حولها .

رشقتها عجوز حضرت توا لعيادتها ببقية الماء البارد وهي تردد : ــ الله عندك !! بسم الله !! بسم الله !! الله وانبياؤه عندك !! عندما أطلقت هذه شهقة حادة ، كانها تختنق بشئ ما ، فواصلت العجوز كلامها : ــ قولي يا ألله !! قولي يا ألله !! .

فتمتمت ( العضباء ) : ــ يا الله !! يا الله !! أين ( زمن ) ؟! .

ودخل ( البدراني ) . وقف مائلا على رجله العرجاء وهو يتساءل : ــ كيف حالها ألآن ؟! .

فادهشت ( العضباء ) الجميع بأن سالته وهي تعتدل بسرعة : ــ ( زمن ) !! أريد ( زمن ) منك يا صاحب الغيرة !! .

قال لها ( البدراني ) وهو يبتسم : ــ قولي يا ألله !! ذهبنا إلى المحافظة وسألنا عنهم ولكن أحدا لا يعرف أين هم ألآن . قالوا لنا أنهم سيحققون معهم ثم يطلقون سراحهم !! .

إنتفضت ( العضباء ) وصرخت غاضبة : ــ تحقيق !! تحقيق يعمي عيونهم !! ماذا فعل إبني ليحققوا معه ؟! هل قلت لهم ان جنودهم الحقراء اللقطاء كسروا باب بيتي ؟! هل قلت لهم أن حقيرا منهم تحرش بإبنتي ؟! هل سألتهم لماذا أدخلوا كلبا نجسا إلى بيتي ؟! ها ؟! هل قلت لهم ؟! هل قلت لهم أن ( زمن ) مجرد طفل يبكي إذا جاع ؟! ويضعون كيسا !! كيسا !! على رأسه !! هل هذه هي الحرية التي تحدثوا عنها مع جواسيسهم ؟! ها !!؟؟ هل قلت لهم ؟! ( زمن ) يتبول على نفسه إذا خاف !! قل !! قل !! .

** زمن **

أجلسوه على أرضية السيارة القاسية ، ثم حشروا إثنين وربما ثلاثة من ( مكيّسي الرؤوس ) معه ، وكثرت رطاناتهم ، ثم دفعوا مجموعة أخرى من ( مكيّسي الرؤوس ) تعثرت بمن سبقها . سقط أحدهم على رأس ( زمن ) ، فإنبطح هذا تحت ثقل الرجل ، وشعر بكفيه المقيدتين خلف ظهره تنسحقان على أرضية السيارة ، التي تحركت فجأة ، فصرخ متألما وهو يحاول أن يتنفس تحت الرجل الذي إعتدل قليلا بعدما شعر بأنه يضايق رجلا آخر .

إستدارت السيارة بسرعة ، في مكان ما ، وسقط الرجل عليه من جديد . صرخ : ــ آخ !! يمّا !! . عندما إنسحقت كفاه مرة أخرى ، فنال رفسة بحذاء ثقيل مع صرخة ( شت أب !! ) لم يفهم منها غير نبرتها ألآمرة . بكى بهدوء في أول ألأمر ، ثم بكى بطلاقة بعد قليل . نزل مخاطه حتى شفته العليا ، وإختلط بدموعه ، حاول أن يمسحه بالكيس الذي يغلف رأسه دون جدوى .

عندما توقفت السيارة في مكان ما ، توقف نشيجه حالما إنفتحت أبواب كثيرة ، وإزداد امله في أن يطلقوا سراحه . جره جندي بحدة من السيارة ونزل على ألأرض . قاده نحو مكان ما . تعثر بلا شئ . ثم توقف حسب اليد التي أمرته بذلك مع رطانة . شعر بالعجز عن تحريك أصابع كفيه . فكر . ربما تكسرت عظام بعضها ، وتمنى لو يستطيع ان ينام قليلا .

هدوء غريب خيم على المكان . أشعل أحدهم سيكارة في مكان قريب . ود ّ لو يدخن ( لينسى كل ما حصل !! ) . ثمة رجال يتحركون حوله مع رطانات لم يفهمها ، ومرة أخرى تمنى لو ينام . كلما عاقبته ( العضباء ) كان ينام ، وعندما يصحو يجد أنه نسي كل شئ . قرفص لينال قسطا من الراحة ، ولكنه تلقى ركلة أسقطته على ألأرض . اعانته يد على النهوض . وقف مختلج ألأطراف رعبا وألما وغضبا ، وهو يجتر بصمت : ــ آخ يمّا !! آخ يمّا !! .

فجأة فك أحدهم القيد عن يديه . صرخ مبتهجا على ظنه انهم يطلقون سراحه : ــ والله لم أوذي أحدا !! .

ولكنه تلقى صفعة قاسية سدت أذنه اليسرى عن كل صوت فترة طالت بكى خلالها بصمت من جديد حتى سمع المترجم العراقي يصيح عبر مكبرة للصوت : ــ ضع يدك اليمنى على كتف الشخص الذي أمامك !! .

رفع ذراعه فصعقه ألم لايحتمل في ذراعه ، وهو يبحث عن كتف الرجل الذي يتقدمه كالأعمى . إمتدت يد وأرشدت كفه الراجفة على كتف رجل ما ، ثم جاء صوت المترجم العراقي آمرا : ــ وألآن !! إنتبه !! إلى ألأمام سر !! .

** الثالولة **

ثمة قطرات ندى على اطراف ( سيد فولاذ ) الصدئة ، والكثير من اشرطة النذور الملونة كانت مرمية على ألأرض بعد ان داستها أقدام الجنود ألأمريكان يوم أمس ، وثمة بقايا ضباب على أطراف المدينة ، ( وربما هو بداية عماء !! ) فكرت ( العضباء ) بأنه أصابها لكثرة ما بكت طوال سني عمرها الماضية ، أو بقايا دخان من أدخنة الحرب التي توقفت قبل أسابيع ، بعد حرب أخذت زوجها إلى ألأبد ، وهذه التي أخذت إبنها الوحيد بعد حفيدتها .

لم يؤد أحد آذان الفجر هذا اليوم في ( الثالولة ) ، ولكنها إستيقظت على آذانات ألأحياء ألأخرى ، وقاقأت ( البرشه ) بتحية الصباح ( للعضباء ) ، فاجفلت هذه وقالت مندهشة : ــ إما ان تكوني قد ظهرت كالشيطان دون ان أراك ، أو أنني عميت يا ( أم ألأحيمر ) !! .

تجاهلت ( البرشه ) صفاقة ( العضباء ) وسخريتها المعروفة عنها ، وقالت لها ، بعد ان لفّت جسدها بالعباءة طلبا لشئ من الدفء : ــ قلت للمترجم . عراقي !! . هل ترين ؟! . أن ( دليل ) خرج من توا من سجن الحكومة !! وأن .. !! ولكنه أهملني كما فعل ألأمريكان !! لا أصدق أنه عراقي !! .

: ــ الله لايرحمهم ، امريكان وعراقيين !! الله لايرحمهم !! .

قالت ( العضباء ) وهي تتذكر مشهد الرتل ألأمريكي الذي أخذ ( مكيّسي الرؤوس ) ومنهم ( زمن ) .

ظهر ( أخو عرنه ) مع مجموعة من أولاده ، مع لفتين من أسلاك الكهرباء . ألقى عليهما تحية الصباح فردتا بإقتضاب كما تفعل النساء الحزينات عادة ، ولكنه قال لهما ضاحكا : ــ سأوصل الكهرباء لأول مرة في حياة (الثالولة) !! كهرباء الحكومة صارت مجانية ، بلا إجازات ، ولا عدادات حتى !! .

ولكنهما أهملتاه .

همست ( البرشه ) : ــ لم يأخذ ألأمريكان أحدا من عائلته فلماذا لايضحك ؟! الحظ !! الحظ !! .

ثم أخذت شهيقا عميقا يشبه حشرجة قبل أن تقول ( للعضباء ) وهي تنظر نحو الغيوم : ــ بس لا تمطر !! .

قالت هذه غاضبة : ــ عساها لا أمطرت ولا أشرقت الشمس عليها !! بعد ( زمن ) أنا ميتة !! .

نهضتا عندما رأتا ( البدراني ) مع أربعة رجال عجائز يخرجون من اقرب ألأزقة . مشوا في قافلة بطيئة نحو الشارع العام ، ثم إستاجروا سيارتين على أمل مقابلة ( المحافظ الجديد ) الذي عينه ألأمريكان . وجدوا حشدا هائلا من الناس عند بوابة المحافظة ، كل واحد فيه كان يحاول لفت أنظار الجنود ألأمريكان أو فردا من ( البيش مركة ) ، نحوه . و كان هؤلاء قد تحصنوا خلف البوابة الفولاذية وبنادقهم مصوبة نحو الجميع ، مستعدة لإطلاق النار .

وبينما كانت قافلة ( الثالولة ) تحاول أن تشق لنفسها طريقا من بين الناس كانت ( العضباء ) تذكر ( البدراني ) بأن ( وحيدها لم يزل طفلا يبكي إذا جاع !! ) ، ( وإن هو إلا حمّال في سوق الخضار !! ) ، و( البرشه ) تذكره في نفس الوقت بأن زوجها ( دليل ) خرج توا من سجن الحكومة ، ورجل عجوز ينافسهما في تكرار قصة إبنه ، ( بائع الشلغم المسلوق ، الذي لاعلاقة له بغير عربة الشلغم التي يمتلكها !! ) ، و( البدراني ) يهز رأسه للجميع ، متفهما ما يقولونه له ، ربما للمرة الرابعة او الخامسة منذ الصباح الباكر .

سألت عجوز ، من منطقة أخرى ، كانت قد سبقتهم في اللجوء إلى جدار المحافظة ، ( البرشه ) إن كانوا من (الثالولة ) أم من غيرها فأجابت ( العضباء ) بدلا عنها : ــ أي !! نحن من جهنم !! .

إبتسمت العجوز الغريبة ثم قالت مندهشة : ــ يمّا !! البارحة طلعت محلتكم بالتلفزيون !! عندما فتشها ألأمريكان !! شفنا أسلحة كثيرة وحتى قنابل يدوية !! .

فتشاغلت ( العضباء ) عنها بمراقبة أحد أفراد ( البيش مركة ) وهو ينتهر رجلا عجوزا عند البوابة ، لأنها تذكرت البندقيتين اللتين رمتهما في الزقاق .

** كاشان **

بعد ليلة أمضتها في بيت ( كاكا صالح ) ، صعدت في الثامنة صباحا إلى جوار ( المخضرم ) في سيارته التي كانت تنتظرها قبالة ضريح ( النبي يونس ) . قالت متظاهرة بالعفوية : ــ تأخرت عليك !! .

ضحك وأجاب بمرح : ــ تعبك راحة !! ليلة هنيئة !! .

وشدد على الكلمة ألأخيرة مع غمزة متواطئة تعمّد ان تراها ، ثم قاد سيارته بسرعة ، ولكنها إنحشرت في إختناق مروري مقابل ( مديرية الزراعة ) ، لعدم وجود شرطة مرور مذ إختفت الحكومة القديمة .

ثمة جنود أمريكان ، مع أسلحتهم المصوبة نحو الجميع ، قطعوا الطرق ليمر رتلهم العسكري . كانوا قلقين يراقبون كل الجهات من خلف نظاراتهم السود ، وعندما مر رتلهم تقدمت السيارات قليلا ثم توقفت مرة أخرى ، إذ كان ( البيش مركة ) يقطعون الطريق عند بداية ( جسر الحرية ) ليمر رتل سيارات بدا انه ( لمسؤول كردي كبير ) .

دخن ( المخضرم ) سيكارته الرابعة بغضب مكتوم ، وأشعل الخامسة عندما تحركت سيارته ببطء عبر الجسر الذي يقطع نهر ( دجلة ) نحو منطقة ( الدوّاسة ) ، ثم قال ( لكاشان ) فجأة : ــ لايهم !! سيحولون البلد إلى جنة بعد أيام !! أمريكا كلها هنا !! سنرى مالم نره من قبل !! .

رن جرس هاتف ( الثريا ) في صندوق السيارة فتناوله ( المخضرم ) على عجل ، واجاب باللغة الكردية عن بعض ألأسئلة ثم أغلق الهاتف وسال ( كاشان ) : ــ هل فتحت هاتفك كما أوصاك ( كاكا صالح ) ؟ .

فإصفر وجهها ، إذ كانت تتوقع أن يبقى ذلك سرا بينها وبين ( كاكا صالح ) ، ولكنها مثلت الخجل وهي تجيب : ــ أوه ياربيّ!! نسيت والله !! .

ثم اخرجت الهاتف من جيبها وفتحته بسهولة لم يتوقعها ( المخضرم ) الذي اوصاها بشحن البطارية بأية طريقة ، ثم إقترح أن يزودها ببطارية مشحونة يوميا ريثما تصل الكهرباء ( الثالولة ) وغمز لها وهو يقول : ــ أنا مستعد ( لشحن !! ) كل أنواع البطاريات !! .

بعد أن مر من تحت ( قنطرة السكة الحديدية ) في ( وادي حجر ) ، واجههم إختناق مروري آخر من جراء مرور قافلة أمريكية أخرى ، كانت عدة مروحيات تحلق فوقها على إرتفاعات منخفضة ، قال ( المخضرم ) وهو يشير نحو إحداها : ــ يصورون المزابل التي نسكنها !! أراهن بأنهم سيزيلون كل هذه الزبالة ــ وأشار نحو البيوت القديمة المتهالكة ــ ويبنون بدلا منها بيوتا على الطريقة ألأمريكية تتوفر فيها خدمات الماء والكهرباء والهاتف وحتى الستلايت !! هل رأيت كم هن جميلات ، ألأمريكيات وألأوربيات ؟! مشمش وخوخ وتفاح حتى بدون ألأصباغ التي تكومها النساء هنا على قبح وجوههن !!

** زمن **

قادته يد ثقيلة نحو مكان آخر ثم أوقفته . جاءه صوت المترجم العراقي آمرا : ــ أنزع دشداشتك !! .

وخيّل له أن خطأ ما ، في الأمر قد حصل ، أو انه لم يسمع جيدا من جراء الصفعة القاسية التي تلقاها قبل قليل فتساءل ( زمن ) مندهشا : ــ ماذا ؟ ماذا بها دشداشتي ؟! .

أجاب المترجم : ــ إنزعها !! إنزعها !! .

فتلكأ عن خجل . إذ لم يتعرّ بحضور غريب قط . لذا نال صفعة أخرى على رقبته . ترنح ، ثم تمالك توازنه ومد يديه لينزع دشداشته مترددا وهو يطلق صرخات خافتة من شدة ألألم الذي شعر به في أصابعه المهروسة التي تخثر الدم والتراب عليها وقال للمترجم : ــ أصابعي !! أصابعي توجعني !! يمكن مكسورة !! .

رطن المترجم لشخص ما ، فرطن هذالآخر أمسك دشداشته وقصها بآلة حادة من ياقتها حتى أسفلها . شعر ( زمن ) المندهش الخائف بالهواء البارد يلفح جسده العاري ، بينما كان هذا ينزع عنه الدشداشة كليا ، غير مبال بصرخاته المتالمة .

وقف عاريا إلا من لباسه الداخلي والكيس الذي يغطي رأسه .

: ــ إسمك الكامل ؟ .

سأله المترجم .

أجاب : ــ ( زمن فاروق عمر ) .

: ــ عمرك ؟ .

: ــ خمسة عشر !! .

: ــ دينك مسلم ، وواضح أنت سني !! .

قال المترجم ، ثم راطن صاحبه ، بينما إنشغل ( زمن ) بالتفكير بجملة المترجم ألأخيرة التي قرر بها أنه ( سنيّ !! ) ، ثم عاد هذا يسأله : ــ أنت شيعي أم سنيّ ؟! .

فأجاب ( زمن ) على الفور : ــ انا مسلم !! .

عندئذ تلقى الصفعة الثالثة مذ وصل هذا المكان . وكرر المترجم عليه السؤال ، فراح يفكر جادا بهذا ( الفرق !! )الذي لم يفكر به من قبل قط ، ولا سمع أحدا من الكبار يتحدث عنه ، حتى رمته ضربة قاسية على ألأرض ، ثم أعانته يد باردة على النهوض بينما كرر المترجم سؤاله الغريب للمرة الثالثة ، فتمتم ( زمن ) : ــ أمي من ( النجف) وأبي من ( الموصل ) !! يمكن أمي شيعية وأبي سني !! لا أعرف !! لم أسمع بالضبط !! وأنا .. !! .

قاطعه المترجم ، بعد رطانة نزقة تبادلها مع أمريكي : ــ شوف !! إذا تعاونت معنا سنعطيك دولارات !! كثيرا من الدولارات !! وإذا لم تتعاون ، سيتحول جسدك إلى أكلة ( كباب ) تصلح للكلاب السائبة فقط !! فكر جيدا !! كن عاقلا !! وكن ذكيا !! وأجب بصدق عن هذا السؤال . هل سكن ، أو إختبأ ، أحد من موظفي الحكومة أو أعضاء حزب البعث ، في محلتكم ؟ .

: ــ لا !! .

أجاب ( زمن ) على الفور ، فتلقى ضربة على وجهه المغطى بالكيس ، ترنح من جرائها ، وشعر بعدها بمذاق الدم في فمه ، بينما عاد المترجم يسأله : ــ هل خبّأ أحد في محلتكم أسلحة أو أموالا حكومية ؟ .

: ــ لا أعرف !! والله لا أعرف !! .

فنال ركلة على معدته ، إنكفأ ، وسقط على ألأرض وهو يتلوى من شدة ألألم مردّدا : ــ الله !! الله !! .

وإنهالت عليه الركلات بينما المترجم ينصحه بعدم ذكر هذه الكلمة ( الله ) مرة ثانية ، لذا راح يردد : ــ يمّا !! آخ يمّا !! .

وهو يبكي بطلاقة كما ألأطفال بعدما توقفت الركلات عنه .

قال له المترجم ساخرا : ــ قلت لك ستتحول إلى ( كباب ) ، ولكنك تصر على الكذب !! والآن !! قل لي ماهو سر كيس النقود في بيتكم ؟! .

وفوجئ ( زمن ) بالسؤال . إرتعب . كانت ( العضباء ) قد إستبقتها ( من أجل الوقود !! ) ، كما الجرائد القديمة ، ولم يجد في ذهنه المحموم غير كلمة واحدة : ــ تالفة !! تالفة !! .

ثم غص بالدم الذي ملأ فمه وتحشرج في الكلام وهو يسترسل : ــ وجدناها في ( مزبلة الشيطان ) !! والله .. !! . ولكنه توقف عن الكلام إذ باغتته ركلة حادة على خاصرته فتقطعت انفاسه ، بينما كان المترجم يسخر منه : ــ إستمر بالكذب وترديد : ألله الله ، وسترى ماهو أقسى من هذا !! وألآن !! دعنا من كيس النقود !! قلت لك تعاون فنعطيك الكثير من النقود !! دولارات ليست تالفة !! وكن صادقا كي لا يضربك أحد !! من كان يحمل السلاح ، من الجيش أو الجيش الشعبي ، أو حزب البعث ، في محلتكم ؟ .

فأجاب على الفور : ــ لا أحد !! .

عندئذ داس أحدهم على عنقه ، وظل يشعر بإلإختناق ، محاولا التملّص من تحت ثقل هذا ، حتى غاب عن الوعي .

** الثالولة **

لملمت ( العضباء ) أطراف عباءتها العتيقة ، ناصلة السواد ، على وجهها ووضعت كفها على أنفها وهي تنصت للعجوز الفضولية ، التي إتكأت على الجدار الخارجي للمحافظة ، وهي تسترسل في وصف ما شاهدته على التلفزيون عن أسلحة ( الثالولة ) . خافت ( العضباء ) أن تكون هذه قد رأت أيضا كيسا من النقود التالفة بين أيادي الجنود ألأمريكان ، وإبتهلت لله ان يلهم وحيدها القدرة على الصبر والتصرف الحكيم فلا يعترف بوجود البندقيتين اللتين رمتهما في الزقاق قبل ثوان من وصول ألأمريكان إلى ( التانكر ) .

وكانت تراوغ الرؤوس الكثيرة لترى ماذا يفعل ( البدراني ) عند بوابة المحافظة المحروسة بالجنود ألأمريكان و ( البيش مركة ) ، بينما كانت ( البرشه ) ( تقأقئ !! ) باكية كعادتها كلما وجدت احدا يهتم بشكاويها من ( حظها ألأسود ) مذ تزوجت ( دليو ) الذي عاد إلى السجن دون ذنب جناه سوى سكنه في ( الثالولة ) .

وعندما إلتقطت ( العضباء ) ( البدراني ) وهو يكلم جنديا أمريكيا أسود طويلا وهو يشير نحوها ونحو( البرشه) وعجائز ( الثالولة ) ، الذين كانوا يدخنون بصمت وقلق ، حمدت الله ورفعت كفها عن وجهها ليقرأ الأمريكي حزنها ألأكيد على فقدان إبنها ، ولكن هذا لم يلتف نحوها ، كما كانت تأمل ، وإستمر في حوار بارد مع ( البدراني ) ، الذي كان يلح على أمر ما ، لم تفهمه ، ثم تدخل مسلح من ( البيش مركة ) محتدا في الحوار مع ( البدراني ) الذي تخلى عن البوابة يائسا .

إلتفتت ( العضباء ) يائسة هي ألأخرى لتخبر ( البرشه ) بما راته ، لأنها كانت أطول منها ، في اللحظة التي شعرت فيها بجسدها يهتز وينصفق على الجدار الصخري للمحافظة بقوة ، ثم دوى إنفجار صمّ سمعها ، لعلعت بعده الرشاشات بصليات غزيرة من الرصاص ، فأغمضت هذه عينيها ورددت الشهادة وهي تسقط على ألأرض مرتجفة ألأطراف مرعوبة .

إصطدم أحدهم بها وهو يركض ، ولكنها نهضت بسرعة فتعثر بها آخر ، سقطت معه على ألأرض ثانية ، ولكنها نهضت مع ألإنفجار الثاني ، الذي إزدادت معه صليات الرصاص ، وهربت بمحاذاة الجدار نحو جامع ( النبي شيت ) القريب وهي تولول حافية القدمين بعد ان تخلت عن نعالها الذي أعاقها عن الركض .

لاذت بجدار بناية البريد وهي تلهث مذعورة . جلست على ألأرض ، بينما كان أصحاب المحال التجارية يغلقون أبوابها على عجل ويفرون مسرعين . بكت من ( حظها ألأسود !! ) وهي تتمتم كما إعتادت في مثل هذه ألأحوال : ــ يا ألله !! يا ألله !! .

وفوجئت بإمرأة شابة تحمل طاسة ماء قدمتها لها وهي تسالها بلطف دون أن يظهر عليها أن ما يجري قد أرعبها كالآخرين : ــ هل انت بخير ياعمّتي ؟! .

فهزت ( العضباء ) رأسها لتؤكد أنها بخير وهي تشرب الماء .

قالت لها الشابة وهي تبتسم : ــ بيتنا هناك !! قريب !! تعالي لتستريحي عندنا !! .

مسحت ( العضباء ) دموعا إنحدرت من عينيها بيدها السليمة ثم قالت : ــ لا !! شكرا !! كثر الله خيركم !! قبضوا على إبني !! طفل يمّا والله طفل !! يبكي إذا جاع !! هل عرفت ماذا جرى هناك ؟! .

وأشارت نحو المحافظة حيث كانت عدة مروحيات تحلّق على إرتفاعات مختلفة بعد ان توقف إطلاق الرصاص ، أجابت هذه : ــ لا والله !! ولكن توقعنا هذا مذ أعلنوا أنهم ( قوة إحتلال ) وحلّوا الجيش والشرطة وأعلنوا أنهم ضد الحزب !! وجهك ياعمّتي ليس غريبا علي !! رأيتك في مكان ما من قبل !! من أية محلّة أنت ؟ .

: ــ من ( الثالولة ) !! .

أجابت ( العضباء ) .

عندئذ أطلقت الشابة صرخة دهشة خافتة قالت بعدها : ــ الله يرحم والديك !! تذكّرتك ألآن !! شاهدتك في التلفزيون ترفعين بندقية قبل يوم من الحرب !! قلت لنفسي أنني أعرفك حالما رأيتك تركضين في الشارع !! .

** كاشان **

لم تشا لأحد ان يراها عائدة مع ( المخضرم ) بعد غياب ليلة عن ( الثالولة ) ، لذا عبرت ( قنطرة الحرية ) مشيا على ألأقدام ، وعند منتصف الزقاق خبطت صدرها بكفها مذعورة إذ شاهدت باب الدكان المحطم ، ونسوة ورجال عجائز واطفال سائبين يمرون من هناك بلا مبالاة كمن يعلم بما جرى .

دخلت البيت مستعجلة قلقة فوجدت البنات يتبادلن المزاح والثرثرة في حوش ( البيت ألآخر ) . أخبرنها أن ألأمريكان فتشوا الدكان والبيتين ، وانهن لم يذهبن إلى ( مزبلة الشيطان ) خوفا منهم . أمرتهن ، مستاءة ، بالعودة إلى غرفتهن ، فتراكضن كما قطيع ماعز إلى هناك .

بحثت مرة أخرى عن كيس القنابل اليدوية في غرفتها ، وشعرت بقلبها ( يذوب !! ) لأنها لم تعثر لها على أثر حتى في غرفة ( البدراني ) ، شبه الخاوية ، في ( البيت ألاخر ) . ثمة كرسي فولاذي عتيق ، وبضعة كتب مهترئة من كثرة القراءة ، وحقيبة ملابس عتيقة وبضعة أوان للطبخ وفراش على سرير عسكري مما يباع في أسواق البضاعات المستعملة ونعال مهترئ ، ولا أثر ( للبدراني ) ولا لكيس القنابل .

أجفلت بحدة عندما سألتها إمراة عجوز من خلف باب الدكان المكسور عن شئ من البطاطا ، فقالت لها ( كاشان ) بشئ من الغضب : ــ وهل هذا الحال يوفر البطاطا ؟! .

مضت العجوز .

وتذكرت ( كاشان ) أمرا ( هاما !! ) إتفقت عليه مع ( كاكا صالح ) ، فأسرعت نحو غرفة البنات وأمرتهن بإستبدال ملابس الشغل بملابس نظيفة يرتدينها بعد ألإستحمام .

كبراهن كانت في السادسة عشرة من عمرها ، تذكّر من يراها بذلك النوع من الدجاج ( ألأثول ) ، الذي يستمر واقفا في مكانه لساعات حتى يحركه أحد ما . نهداها برزا بوضوح من تحت ثوبها ، وكانت مقبولة الجمال ، يمكن مع بعض ألأصباغ أن تكون اجمل بثوب زاهي ألألوان .

قال لهن جادة : ــ سأشتري لكن ملابس جديدة .

فوجئن . هللّن . وتساءلت الصغرى ببراءة : ــ هل صحيح يا عمّتي ؟! .

: ــ عمى بعينك !! متى كذبت عليكن ؟! .

صفقت هذه بفرح طفولي وأسرعت لتسبق ألأخريات نحو الغرفة الطينية الخاصة بإلإستحمام والطبخ في آن ، وعادت ( كاشان ) إلى الدكان وهي تستعيد جملة من ألأعذار جهزتها ( للبدراني ) الذي لابد أنه إستغرب من مبيتها خارج الدار لأول مرة منذ أكثر ثلاثة عشرة سنة دون عذر أنها ذاهبة لتوليد إمرأة ما في مكان معلوم دائما .

** زمن **

إستيقظ في ساعة ما من الليل ، مرتجفا من شدة البرد ، فوجد نفسه عاريا تماما . ثمة من نزع عنه حتى لباسه الداخلي ، ومازال الكيس يغطي رأسه ويداه مقيدتان خلف ظهره ، وثمة آلام لاتحتمل تضج في أنحاء جسده . تكور على نفسه لينال شيئا من الدفء ، وانصت لعله يسمع أحدا ، أي أحد ، قد يغطيه ، كما كانت أمه تفعل في كل شتاء ، ولكن السكون كان ثقيلا إلا من انفاسه المحبوسة في الكيس .

إعتدل في مكانه ، بعد أن يئس من المساعدة على شعوره بالبرد والخوف ، ثم نهض وحاول أن يخطو إلى الوراء ليتعرف على المكان الذي هو فيه ، ولكنه إنهار على ألأرض عندما صعقه ألم لا يطاق في ركبته اليمنى التي نالت ركلة وحشية قبل ساعات ، وربما دقائق ، ماعاد يدري . كان المكان مضاء . عرف ذلك من الفراغات الدقيقة في الكيس . وتوقف عن الحركة عندما سمع خطى مستعجلة تقترب منه . توقع أن ينال ضربة فتشنج جسده المرتعش على ألأرض ، وتكوّر على نفسه من جديد .

: ــ ( ستاند أب !! ) .

أمره الجندي ألأمريكي ، بعد أن قبض على زنده . ولم يفهم الرطانة فهزه هذا وهو يكرر غاضبا : ــ ( شيت !! ستاند أب !! موف !! آس !! ) .

وفهم ( زمن ) أن هذا يريد له أن ينهض ، وعندما فكر بانه قد يساعده على نيل شئ من الدفء ولو بإعادة دشداشته له ، إعتدل ثم وقف على رجل واحدة ، متحاشيا ان تمس رجله ألأخرى ألأرض . سحبه الجندي نحو الخطوة ألأولى فسقط عاجزا عن المشي .

رطن هذا مع جندي آخر ، فأمسكاه من زنديه وسحلاه. إقشعر جسده عندما تذكر عريه المعروض على الجنديين ، فبكى بصمت . رمياه في مكان ما ومضيا . سمع ، بعد سكون طويل ، خطوات تتقدم نحوه فإعتدل على ألأرض ليستر عريه . ألصق رأسه المكيّس لصق ركبته اليسرى ، إذ كان عاجزا عن طي ّ ركبته اليمنى المصابة ، وإنقبضت عضلاته وهو ينصت لحركات الشخص الذي إقترب منه .

سمع المترجم العراقي يسأله بصوت خفيض : ــ سنيّ !! ها ؟! .

فلم يرد .

تلقى ركلة قاسية على خاصرته فشعر بالإختناق لحظات ، سمع بعدها رطانة بين أشخاص يقتربون منه .سأله المترجم عن قرب ، تمناه بعيدا على حلم يقظة أن ما يجري له ليس غير كابوس : ــ أين أموال ( صدام حسين ) ؟! .

عقدت الدهشة لسانه . فكر أن هذا ربما يمزح معه ، فإحتار أيضحك ليجامله لعله يتشفع للإفراج عنه ، أم يجيب ( بلا أعرف !! ) التي وردت في ذهنه على الفور وقد ينال ضربة أخرى كما عوّدوه بعد كل إجابة ، صادقة كانت أم كاذبة .

صفعه أحدهم فقال بسرعة : ــ لا أعرف !! والله العظيم لا أعرف !! .

فنال صفعة أخرى ، بينما كان المترجم يذكره غاضبا ألا ّ يذكر ( الله ) مرة أخرى ويسأله : ــ والنقود في بيتكم ؟! من أي مسؤول أخذتموها ؟! .

: ــ تالفة و .. ياعمّي تالفة !! وجدناها في مزبلة الشيطان !! و .. !! من أجل الوقود !! ليس عندنا .. !! .

أجاب ( زمن ) ولكن المترجم قاطعه : ــ إسمع !! سأسألك سؤالا آخر . وإن لم تصدق في الجواب ، فالجندي الذي خلفك سيزني بك !! .

وشعر ( زمن ) بشئ دافئ يمس مؤخرته فأجفل وقفز إلى أمام كالملسوع ، ولكنه سقط حالما مست رجله المصابة ألأرض وهو يصرخ متألما : ــ عمّي !! الله .. !! .

ولكن ركلة قاسية على فمه أسكتته ، ورطمت رأسه على ألأرض ، من شدتها داس بعدها رجل ثقيل الوزن على ركبته المصابة فصرخ متوجّعا بكل ما يستطيع من قوة ، وإنفلتت مثانته الممتلئة ، وهو يتلوّى كالدجاجة الذبيحة توا تحت الحذاء الثقيل .

ضحك أحدهم بعد رطانات لم يفهمها ( زمن ) وهو يشعر ببوله يبرد تحته قبل أن يسأله المترجم من جديد : ــ دعنا من النقود ألآن !! أريد منك أن تذكر لي أسماء من كانوا يحملون السلاح قبل الحرب في محلتكم !! .ولا تقل أنك لا تعرف !! .

** الثالولة **

كانت ( البرشه ) اول من عاد إلى ( الثالولة ) عند العصر . ركض ( ألأحيمر ) ، تتقدمه كرشه الرجراجة ، نحوها من مقهى ( أخو عرنه ) الغاص برجال وأطفال يشاهدون التلفزيون للمرة ألأولى في عمر ( الثالولة ) ، بعد ان نجح هذا في سرقة خط كهرباء من مولدات الحكومة القديمة التي مازال بعضها يعمل .

بكت ( البرشه ) حالما رات إبنها وقالت له بصوت واهن مرعوب : ــ قتلوا . كلهم قتلوا . حتى ( العضباء ) و( البدراني ) . وعدد كبير من الناس . امام المحافظة . الرصاص أتانا من كل الجهات . مذبحة . ولكن الله نجّاني !! مذ رأيت ( دليل ) تعثر حظي . في يوم زواجنا أطفأت زوبعة كل الفوانيس .. !! .

ولكن ( ألأحيمر ) ، الذي سمع منها قصة زواجها من أبيه عشرات المرات ، قاطعها ضاحكا : ــ ولكنك نجوت !! ولا تقولي لأحد ما قلتيه لي قبل قليل . عاد ( البدراني ) ومعه كل الشيّاب ، عدا واحد ، يمشون على أرجلهم كما بط ّ نشيط !! وحدها ( أم زمن ) لم تعد بعد !! .

: ــ من جلب جثثهم ؟! .

تساءلت مندهشة .

ضحك ( ألأحيمر ) وهو يجيب : ــ قلت لك عادوا مثل بط ّ نشيط !! .

: ــ أحياء ؟! .

: ــ يمّا !! هل رأيت قتيلا يمشي على رجليه ؟! مابك ؟! .

: ــ وماذا قال ( البدراني ) ؟! .

: ــ قال أن ( العميان ) في المحافظة قد اخبروه بانهم لايعرفون شيئا عن ( مكيّسي الرؤوس ) .

: ــ ألم يسألهم عمّن يعرف ؟! .

: ــ سألهم فأجابوا : لا نعرف !! .

أجاب ( ألأحيمر ) وهو يعينها على النهوض عن واحد من أذرع ( سيد فولاذ ) . نفضت مؤخرتها الهزيلة مما علق بها من أوساخ وهي تقول غاضبة : ــ عرفوا باجلهم القريب إن شاء الله !! قلت لك !! في يوم زواجنا .. !! .

: ــ اطفات زوبعة كل الفوانيس !! أعرف يمّا هذه القصة !! .

قاطعها ( ألأحيمر ) متذمرا من حبها لتكرار قصة زواجها من أبيه ، ولكنها فاجأته بصرخة : ــ ( أم زمن !! ) . وهي تشير نحو سيارة إجرة توقفت عند الطرف ألآخر من ( قنطرة الحرية ) ، ترجلت منها ( العضباء ) مترنحة حافية القدمين .

ركضت نحوها ( البرشة ) ، بينما كانت تركض نحوها من أقرب ألأزقة ( صمود ) و( عنود ) بدون عباءتين ، خلافا للمعهود ، غير مباليتين بنظرات الشبان التي إنصبت على جسديهما الرشيقين ، وأشعل ( ألأحيمر) سيكارة رخيصة راح يمتص دخانها بشراهة نادما على إكتشافه ( المتأخر !! ) لجاذبية الفتاتين في ثوبيهما الرقيقين الواسعين ، وتعمد ألإقتراب من النساء ليسمع ( حفلة البكاء !! ) الجماعي في منتصف ( قنطرة الحرية ) حتى إنتبهت له ( البرشه ) فشزرته بنظرة ذات مغزى عاد بعدها إلى مقهى ( أخو عرنه ) وهو يتلفت بدهشة وإعجاب صريحين نحو الشابتين اللتين لم يفطن لوسامتهما من قبل .

** كاشان **

( تأكدت )، في اليوم الذي حصلت فيه ( كبسة ) ألأمريكان ( للثالولة ) ، شاعة أن هؤلاء يصورون ما يجري في (مزبلة الشيطان ) و ( وادي الحرامية ) عبر أقمارهم التجسسية والطائرات ، ويعرضون صور البنات ، ( أصابع كاشان ) بشكل خاص ، على العالم كله ، فمنعت العوائل النساء من الذهاب إلى هناك حتى لإكتيال بعض الماء من قعر الوادي من اجل غسيل الملابس وألأواني ، تحاشيا ( لهذا العار !! ) الذي أذهل ( كاشان ) و ( اكد !! ) لها بأن حسّادها ( غاية في الخباثة !! ) .

كان ( البدراني ) قد أخبرها ، مطمئنا ، أنه رمى كيس القنابل والمسدسين ، في ( وادي الحرامية ) ، حيث يتغوط ألأطفال عادة ، حالما سمع تحذيرات ( العضباء ) ، ولكنها ظلت حزينة بعد حساب خسائرها من جراء تلك ( الكبسة ) التي لم يتوقعها أحد ، من حيث أنها مضطرة ألآن لدفع ثمن القنابل اليدوية والمسدسين ( لكاكا صالح ) ، ولإعادة مائة دولار نقدا له من جراء فقدانها لكل هذه البضاعة ، عدا خسائرها في إختفاء معظم محتويات الدكان ، من سكائر وحبوب منع حمل وحبوب ضغط الدم بعد ان ترك ألأمريكان باب الدكان ملقى في الزقاق منذ ساعة متأخرة من الليل الذي هرب فيه ( البدراني ) نحو البرية ولم يعد حتى الظهيرة .

لم يسألها هذا عن سر مبيتها خارج البيت ، متظاهرا بان ( ألأمر لايعنيه !! ) ، لتأكيد غضبه منها مذ عثر عليها في وضع مشبوه وحدها مع ( ألأحيمر ) قبل أيام ، وعندما دعته للعشاء ، بنبرة مصالحة ، أسرف في كلمات الشكر ( كأي رجل غريب !! ) ، واخبرها ببرود أنه مدعو للعشاء عند ( العضباء ) ، كانه يتعمد معاقبتها بفكرة العشاء مع ثلاث نساء ، إحداهن في ألأقل ، ( صمود ) ، واعدة بتوفير المسرّة في قلب أي ( رجل محروم ) من رجال ( الثالولة ) ، على فتوة لامجال للتقليل من شأن جاذبيتها .

أمسكت بزنده وضغطته بقوة ، كما تفعل كلما تشهّته ، وهي تحاول إلتقاط عمق عينيه ، على ضوء الفانوس في غرفته ، ولكنه تجاهل ألإشارة ومضى تاركا أياها وحدها مع ( أفكار مشاريع ) كانت تريد له أن يكون شريكا فيها كرجل يحميها في ( العالم الجديد ) الذي فتحه لها ( كاكا صالح ) ، والذي لم يخطر لها على بال من قبل قط .

فكرت بانه ( يتمرد ) عليها ، ليس من جراء ذلك الموقف مع ( ألأحيمر) ، بل لأنه ( إطمان !! ) ألآن على خلاص أكيد من الحكومة القديمة التي كانت تلاحقه ، أو لأن واحدة من النساء الثلاث في ( التانكر ) قد ( إلتقطته ) دون علمها ، فأمضت مساء مثقلا بالخيبات والشعور بالخسارة .

فكرت ( بالأحيمر ) بديلا لهذا ( العاقّ ) ، ولكنها قيمته طفلا تعثر بسرواله وسقط مرعوبا على ألأرض عندما فاجأهما ( البدراني ) في خلوتهما الوحيدة ، ثم فكرت بعواليس البر وأحياء الذباب الفقيرة ، ولكنها ماكانت تعرف الكثير عنهم ، ولم تجد من بينهم من يصلح شريكا لها في مشاريعها الجديدة ، ولكنها إستقرت على ( بديل ) ، في ساعة متأخرة من الليل ، هو( المخضرم بن عمشه ) !! .

** البدراني **

في غرفة الفندق المظلمة ، وعلى سريري ذي الرائحة العفنة والبقع الداكنة ، ( أفضل أسرة الغرفة !! ) ، بقيت حتى ساعة متأخرة من الليل أجتر ( حماقة ) ألإطلاقتين الطائشتين في ( الرمادي ) ، ثم هروبي الذي لم أخطط له ولم أفكر به حتى حصل .

ومن بين كل الذكريات ، التي كنت أستعيدها عن طفولتي في القرية ودراستي الثانوية ، وأيام الدراسة الجامعية ، التي إفتقدتها كثيرا ، في ( بغداد ) ، كان السؤال يعذبني وبإلحاح : ــ هل كانت حماقة أن أطلق رصاصتين طائشتين ، كما جرت العادة في قرانا ، عند توديع الرجال الذين يموتون ، أم انها كانت مجرد إنحياز صادق ، عفوي ، لقيمة ألإنسان التي وهبها الله لنا حقا مكفولا بإرادته لايمكن لبشر آخر أن يعتدي عليها ؟! .

لا أدري متى نمت !! رغم شخير رجل شاركني الغرفة منذ ليلتين ، ولكنني إستيقظت على ضوضاء الشارع المجاور للفندق قبيل الظهيرة في اليوم التالي للقائي ( ببمو ) ، أفضل مهرب دولي في ( السليمانية ) ، وبقيت في السرير غارقا في بلادة اللحظات الفاصلة بين زمنين ، ماض جميل عشته بإرادتي ، ومستقبل مجهول سأعيشه رغما عني قد يبتدئ بعد لحظات .

ترى ، هل فكر ( بمو ) ، بجغرافية ( البلد ألآمن !! ) الذي أردت أن أصله دون ان أسميه بعد ، ودون أن أفكر أنا بخارطته حتى ؟! كان قد اجاب بعربية سليمة ، تعلمها من ( كركوك )حيث كان يعمل هناك : ــ بسيطة !! ستصل المكان الذي تريد !! . قالها بثقة مذهلة ، كما إله قادر على تقرير بعض المصائر !! .

وجدت نفسي تردد : ــ بسيطة !! بسيطة !! وانا مغمض العينين على السرير المقرف ، حتى فوجئت بطرقات على الباب ، دخل صاحبها قبل أن آذن له بالدخول ، وكان ( العقيد الركن ) . ألقى علي إبتسامة عريضة ، وهو يجلس على السرير المقابل ، كأي صديق قديم ، قائلا : ــ يا ألله !! قم !! إنهض !! ماهذا الكسل ؟! انت مدعو للفطور عندي !! ثمة مطعم ، صغير ، في نهاية الشارع يقدم مشويات ، إذا اكلت منها مرة ، لن تأكل غيرها في أي مطعم !! يا ألله !! قم !! .

لا ادري لماذا رغبت في العودة للنوم ، بعد ان سمعت ( العقيد الركن ) يدعوني للفطور !! . ربما لأنني ماعدت قادرا على ألإبتعاد عن الفندق لفترة طويلة على سر سفري ( في أية لحظة ) قادمة مع ذلك ( الحيوان ) من أجل مستقبل مجنح على كلمة ( بسيطة ) ، وربما لشكّي بأن هذا يدعوني لغاية ما اجهلها ، ولا أريد ان اعرفها ، أو أسمع المزيد من هلوسات ( المعارضة ) هنا .

قلت له : ــ انا مريض . أتركها لمناسبة أخرى . شكرا جزيلا !! .

ولكنه قال على الفور ، وكانه توقع ردّي : ــ يا أخي ، هذا من واجبي !! بيننا روابط كثيرة !! زوجة أخي ، كما قلت لك ، من ( الموصل ) !! وكان تحت إمرتي ضباط كثيرون من هذه المدينة العظيمة !! بسيطة !! نتناول ألإفطار هنا في الفندق !! في الغرفة إذا اردت !! .

فضحكت من كلمة ( بسيطة ) ، التي وردت على لسانه هو ألآخر بسهولة ، مما أبهجه على ظنه أنني فرحت بدعوته وبالحل الذي إهتدى إليه ذكاؤه .

** الثالولة **

ثمة إزدحام لمشاهدة التلفزيون توقعه ( أخو عرنه ) ، الذي نجح في توصيل سلك طويل بكهرباء الحكومة السائبة عن كل مراقبة ، ولكنه لم يتوقع ان يقوم البعض من الزبائن بإحتساء أقداح الشاي ثم يهربون من بين الزحام دون دفع الثمن ، لذا رفع إعلانا مكتوبا بخط ردئ ، رآه اهل ( الثالولة ) لأول مرة في حياتهم هنا : ( الدين ممنوع والعتب مرفوع ) !! .

ثم ظهرت عجيبة اخرى عندما بدأ ( أخو عرنه ) يفقد بعض ألأقداح !! كان يبحث عنها في كل مكان من المقهى ، حتى بين أقدام الزبائن المنشغلين بمتابعة ألأخبار الدولية والمسلسلات الخليعة ، ولكنه ماعاد يعثر عليها ، فأيقن ان بعضهم بات يسرق حتى أقداح الشاي !! . لذا صرخ غاضبا في وجوه الزبائن وهو يقف بينهم وبين التلفزيون ليضمن وصول كلماته للجميع : ــ سأشلع عيني من يسرقني !! وسترون !! .

طمأنه عجوز ساخرا وهو ينفث دخان سيكارته الرخيصة : ــ حظك زين !! لا تزعل !! سرقوا بندقية الحكومة منك فسقطت الحكومة وتمتعت بالتعويض الذي جمعته ( الثالولة ) لك !! ويسرقون أقداحك ألآن ولا بد أن حظك الحسن سيعوّضك عنها !! لا تزعل ودعنا نتفرج على التلفزيون يا أخي !! .

توقفت سيارة ، نزل منها مسلحون بالزي الكردي ، على الطرف ألآخر من ( قنطرة الحرية ) ، وعبرت أربع سيارات القنطرة ثم توقفت على مسافات متباعدة حول مقهى ( أخو عرنه ) ، ونزل منها مسلحون آخرون أطلق بعضهم النار فجأة نحو الفضاء ففر ألأطفال من مقتربات ألأزقة مذعورين ، وسكت زبائن المقهى مندهشين من سلوك هؤلاء .

تقدم الشاب ، ألأكثر عصبية في إطلاق النار ، من المقهى وقال لعجوز من الزبائن بعربية واضحة اللّكنة : ــ أريد قاتل أخي لأقتله !! .

أجاب العجوز بهدوء : ــ إبني !! حصلت معركة بين غرباء من اجل النهيبة . ويشهد الله أنني لا أعرف من قتل ولا من قتل !! .

عندئذ صوب هذا بندقيته نحو شابين واقفين وشتمهما طالبا منهما أن يدلانه على قاتل أخيه فأنكرا معرفة القاتل ، وجر مسلح آخر واحدا من الشابين غاضبا طالبا منه الصعود إلى أقرب السيارات ولكن هذا إمتنع ، وتدخل شاب ثالث في الحديث واصفا ما يجري بانه ( إعتداء غير مبرر على ألأبرياء !! ) ، فصوبت مجموعة من المسلحين بنادقها نحو الشبان الثلاثة وأمرتهم بالصعود إلى السيارتين القريبتين ، بينما كان الشاب الغاضب يفرغ غضبه بإطلاق صليات أخرى من الرصاص نحو الفضاء .

ومع ان مروحيتين أمريكيتين حوّمتا ، في تلك ألأثناء أكثر من مرة ، من فوق ( الثالولة ) ، وتوقع بعض الحضور بأن تتدخلا في أية لحظة ، إلا انهما مضتا ، بعد أن أطلق أحد المسلحين النار نحو تلفزيون ( أخو عرنه ) فحطمه ، وإستولى مسلحان آخران على سيارة إجرة عبرت ( قنطرة الحرية ) صدفة ، ثم إنسحبت مجموعة المسلحين ألأكراد بسرعة وهي تطلق المزيد من الرصاص على ذهول ( الثالولة ) من هذا التصرف الغريب .

** العضباء **

عندما عادت من رحلتها اليومية إلى المدينة وجدت ( صمود ) تغسل الملابس في الفسحة الفاصلة بين ( التانكر) و ( برج الضغط العالي ) ، فسألتها ( صمود ) دون أن ترفع رأسها عن الطشت الكبير : ــ ها ؟! .

أجابت ( العضباء ) ، متخشبة الوجه ، وبنبرة مريضة : ــ لا أحد يعرف أين هم ألان !! . الكل لايعرفون !! .حتى المحافظة !! هل عثرت على صابون ؟! .

: ــ لا !! أغسل بدون صابون !! .

أجابت ( صمود ) وهي تمسح عن وجهها بعض قطرات العرق .

نظرت ( العضباء ) نحو السماء وأطلقت آهة طويلة قبل أن تدخل ( التانكر ) . وجدت ( عنود ) نائمة مما بعث فيها غضبا جنونيا جعلها تركلها وهي تصرخ : ــ أخوك في سجن ألأمريكان وتنامين !! أختك تغسل الملابس بدون صابون وتنامين ؟! أنا ادور في الشوارع مثل المجنونة وتنامين ؟! هل أنت حيوانة ؟! ضميرك ميت ؟! قومي !! قومي !! شوفي كم بقي لدينا من تموين الوجبة الحكومية !! سألت إبن الكلب وكيل الحكومة عن الوجبة ، فسألني ساخرا مني : وأين الحكومة ؟! إنتظري وجبة ألأمريكان !! إبن القحبة !! وجبة ألأمريكان !! وجبة ألأمريكان !! .

وسكتت بينما كانت ( عنود ) تحصي المواد الغذائية متبرمة مما تفعل ، ثم تذكرت أمرا آخر فصاحت غاضبة : ــ حتى المصرف مقفل !! وجدت موظفا أعرفه كان يسلمني راتب المرحوم ، كان يدور مثل دجاجة ثولاء حول البناية ، وعندما سألته عن الراتب ، فتح ذراعيه نحو السماء كأنه يصلي و ( بشّرني !! ) بأن المصرف منهوب ، ولا أحد يعرف من سيزوده بالمال ولا متى !! أولاد القحبة !! ينتظرون ألآن صدقات ألأمريكان !! .

أهملت الفتاتان شكاوى أمهما ، إذ إنخرطتا في حديث عن ( ألأحيمر) ، الذي بدا أنه ( فقد ) شيئا في الزقاق القريب ،أو( برج الضغط العالي ) ، فراح يكثر من المرور وهو يلقي التحيات السخية على ( صمود ) بشكل خاص ، والتي وصفته ( لو كان عنزا لملأ زقاقنا بالبعرور !! ) ، فإلتقطت ( العضباء ) المعلومة الجديدة وعقبت بخيبة امل : ــ ربما هو يريد واحدة منكما !! لم يبق علي سوى هذا الدبّ ليكون نسيبي !! شاب بلا غيرة حتى لم يأت مع أمه للبحث عن أبيه في سجون ألأمريكان !! هل جلبت ( كاشان ) شيئا من الخضار ؟! .

أجابت ( عنود ) ساخرة : ــ مضروبة على رأسها !! ( كاشان ) تقول أنها فقدت الكثير من ألأموال بسبب ( كبسة ) ألأمريكان !! .

ثم ضحكت وهي تسترسل : ــ كما فقدت ( البدراني ) أيضا !! ظلت بلا من ( يؤانسها ) !! .

وعمقت الحروف في الكلمة ألأخيرة عندما نطقتها على مغزى غير برئ .

** البدراني **

إستأذنت ( العقيد الركن ) بالذهاب إلى الحمام ، فنهض وهو يخبرني ، سعيدا ، بأنه سيوصي صبي الفندق لجلب الفطور إلى غرفة ألإستقبال ، ثم غادر الغرفة معي . ولكنني وجدته جالسا على نفس السرير عندما عدت من الحمام بعد قليل !! .

حدثني بحماس عن نفوذ ( ألأستاذ هفال ) ، الذي عرفني عليه قبل يومين ، والذي يمتد ( من هنا إلى كل عواصم الدول المعنية بالعراق ) ، فأيقنت أنه يحدثني عن واحد من الجواسيس العتاة ، حتى جاء الصبي وأخبرنا أن الفطور جاهز في غرفة ألإستقبال التي أضاءتها شمس الظهيرة .

فوجئت بإفطار سخي ، يكفي لإطعام أربعة رجال جياع ، من المشويات المنوّعة ، مع ثلاثة أنواع من السلاطات ، وما لايقل عن ثمانية أرغفة من الخبز الساخن . وسكت صاحبي أثناء تناول الطعام ، لأن فمه إنشغل بطريقة ذكرتني بنعجة سجينة مسّها الجوع ثم إنطلقت دون توقع في حقل علف شهي . كان يزدرد اللقمة بعد مضغتين او ثلاث عاجلات ، لتليها لقمة أكبر ، وكانه دعا نفسه ، بعد جوع قاس ، إلى سباق في إلتهام الطعام .

شبعت قبله طبعا ، وإستمر مسابقا نفسه حتى ظهر على وجهه التعب ونعست عيناه ، وادهشني أنه طلب من صبي الفندق كيسا فارغا حشر فيه كل ما تبقى من طعام ثم وضعه إلى جانبه بعناية ، وراح يشرب الشاي ويدخن ملتذذا ، سعيدا ، كمن أنجز للتو مهمة ما كان واثقا من إنجازها ، وعاد يحدثني عن نفوذ صاحبه ( المعجب بي !! ) ، ( وهذا أمر نادر من ألأستاذ هفال !! ) الذي لايعجب بأحد ( بسهولة !! ) .

وعندما إنتبه إلى أن حديثه لم يدهشني ، غيّر الحديث نحو هذه المدينة والناس الذين يسكنونها ، ثم عاد فجأة وكرر قصة ذلك ( المعارض ) الذي اعطى ( ألأستاذ هفال ) معلومة هامة عن القصر الجمهوري فقبض خمسة وعشرين ألف دولار ( نقدا وعدا !! ) مع جواز سفر سويدي .

فما رأيك ؟! .

تساءل .

: ــ بطعام الفطور ؟! .

سألته ببراءة .

قرات صدمة في عينيه قبل أن يجيب بخيبة أمل لم يستطع كتمانها : ــ لا يا أخي !! لا !! بالمبلغ !! .

: ــ عظيم !! .

قلت له وانا أشعل سيكارتي الثانية .

رمقني بنظرة شك ّ من صياد محترف ، ثم تنحنح قبل ان يهمس لي بحرارة ( صديق قديم !! ) : ــ إذن لماذا لاتستفيد أنت أيضا مما لديك من معلومات ؟! ستحتاج الكثير من الفلوس هنا !! .

فأجبت دون تردد : ــ لأن معلوماتي تافهة !! أنا مجرد موظف في بلدية . هل يريد ( ألأستاذ هفال ) معلومات عن مزابل المدينة وعدد الكناسين ؟! .

إصفر وجه ( العقيد الركن ) ، حتى خيل لي أنه أصيب بمرض مفاجئ ، على نظرة في عينيه حائرة بين طلب ألإستغاثة وخيبة ألأمل الثقيلة .

** الثالولة **

منذ ساعة مبكرة جدا ، بعد منتصف الليل ، تجمعوا بين ( سيد فولاذ ) ومقهى ( أخو عرنه ) ، من اجل السفر إلى ( دهوك ) ، لمتابعة خاطفي الشبان الثلاثة وسيارة ألإجرة التي حضر صاحبها ، وهو رجل تجاوز الخمسين من العمر من حي ّ آخر لاهثا ، إذ قطع مسافة طويلة مشيا على ألأقدام بين ألأزقة تحاشيا للدوريات ألأمريكية في الشوارع العامة .

مع ثلاثة رجال عجائز ، وإمرأتين متقدمتين في العمر ، وشاب أصر على الذهاب بحثا عن أخيه ، حضر ( البدراني ) ، والذي أجاب ، ربما للمرة الثالثة أو الرابعة ، مؤكدا ان له صديق كردي في ( دهوك ) ، ولكن ( أخباره إنقطعت منذ فترة طويلة !! ) ، ولا يعرف إن كان قد بقي في نفس العنوان أم لا .

دعا ( البدراني ) ، كما تقتضي ألأصول ، أكبر العجائز سنا للصعود إلى جوار سائق الحافلة التي إستأجروها منذ ليلة أمس لهذه المهمة ، ولكن هذا رفض بشدة وأصر على أن ( يتصدّر ) ( البدراني ) الحافلة قائلا له بإستسلام : ــ يابا !! لاوقت للوجاهات في هذه ألأيام !! على طريقنا ، كما علمت ، سيطرات أمريكية وكردية وأنا لا أعرف غير لغة أمّي !! هذا المكان لك لترطن معهم ، حتى يفرجها الله عن أولادنا !! .

إقترح احد العجائز على السائق أن يطفئ الضوء الداخلي للحافلة فأجاب هذا بمرح : ــ لا أستطيع يا عمّي !! المترجمون العراقيين الذين يعملون مع ( العميان ) بلّغونا أن نبقي هذا الضوء مشتعلا في الليل لتعرف الدوريات ألأمريكية من في داخل السيارة من بعيد !! .

وعندما اطلق العجوز آهة توجع وإحتجاج مكبوت قال له السائق مازحا : ــ ثم انا أريد أن أضمن أنك لن تتحرش بعمتي الجالسة إلى جوارك !! .

قهقه العجوز قبل أن يقول بمرح : ــ يا فتاح يا رزاق !! والله ماعدت قادرا على أية حرشة حتى لو تحرشت هي بي !! . ولكن قل لي . من أين جلب ( العميان ) هؤلاء المترجمين العراقيين ؟! .

: ــ من الدول التي هربوا إليها خلال سنوات الحصار الدولي !! يصرفون لكل واحد منهم أكثر من عشرة آلاف دولار شهريا !! فإبك على حظك الذي لم يمنحك فرصة بيع العراق بمثل هذا المبلغ !! .

أجاب السائق وهو يشعل سيكارة نفخ دخانها من نافذة السيارة بغضب واضح .

حتى وصلوا الطرف ألآخر من المدينة ، كانت قد إستوقفتهم أربع دوريات أمريكية ، ثم إستوقفتهم سيطرة ( للبيش مركة ) بعد مسافة قصيرة عن آخر البيوت . نام عجوزان ، وظلت المراتان تتهامسان في أذني بعضهما ، بينما كان ظلام الليل يودع ألأعالي تاركا للزرقة الداكنة حرية فقدان لونها أمام أوائل ضياء الفجر ، الذي راح يكشف تضاريس الحقول والقرى على جانبي الطريق .

على طول الطريق كانت سيارات الحمولات الثقيلة ، التي يقودها أكراد ، معبأة بكل ما يمكن أن تحويه دوائر الحكومة ( القديمة ) ومعسكرات الجيش من ممتلكات . ثمة مدافع ، وسيارات ، ودبابات ، ورشاشات مقاومة طائرات ، وقضبان فولاذية ، وحتى أبواب وشبابيك .

: ــ غنائم !! .

كرر السائق بأسف .

ولم يعلق أحد من ركاب الحافلة على أسفه ، إذ مازالوا مسكونين بمبدأ ( الحيطان التي لها آذان ) .

وصلوا ( دهوك ) في ساعة مبكرة . كانت اوائل الدكاكين تفتح أبوابها ، وعندما إقترح ( البدراني ) أن يتناولوا فطورا في واحد من مطاعم المدينة ، رفضت المرأتان في آن مستنكرتين الطعام وإبنيهما ( مجهولي المصير !! ) ، وسكت أخو المخطوف الثالث ، لذا أرشد ( البدراني ) السائق نحو الطريق الذي يشق المدينة نحو طرفها ألأخير على سفح الجبل .

أشار للسائق أن يتوقف عند أحد البيوت ، وهو يعلن أن المدينة ( تغيرت مذ رآها للمرة ألأخيرة قبل سنوات !! ) ، ثم نزل وطرق الباب . خرج فتى أجاب باللغة الكردية عندما سأله ( البدراني ) عن صديقه ( بكر ) ، ثم خرجت إمرأة تكلمت العربية بطلاقة وذكرت ( للبدراني ) أن صديقه القديم ( كان في هذا البيت ، ولكنه غادر إلى بغداد ) منذ أربع أو خمس سنوات ( ويقال أنه فتح فرنا هناك !! ) .

** العضباء **

أعادت شرح ( خطتها !! ) لجمع المزيد من الحطب لإبنتيها ، المتبرمتين من يقظة مبكرة جدا من النوم ومن التكرار الممل ، ثم خرجت إلى الفسحة الفاصلة بين ( التانكر ) و ( برج الضغط العالي ) وصبت بضعة قطرات من النفط ألأبيض على أوراق الجرائد القديمة ، التي كانت ( عنود ) قد جمعتها من ( مزبلة الشيطان ) يوم أمس .

رأت على إحداها صورة ( السيد الرئيس ) ، فهزت يدها بالتناغم مع هزات بطيئة من رأسها ، لأنها تذكرت أنها من المستحيل أن تتجرأ على إشعال صورته ، علنا ، لو كان في الحكم ، وشعرت بأسف حقيقي من اجله . سمعت أنه يعد للمقاومة الشعبية ، وأنه هرب إلى ( روسيا ) ، وربما هو في ( دولة ألإمارات العربية ) ، لا أحد يؤكد !! ولا أحد ينفي !! .

ويقال أن البعض رأى ( عدي ) و ( قصي ) في سيارة بيضاء يتنقلان بين ( الموصل ) وقراها الحدودية مع ( سوريا ) ، ربما بحثا عن طريق للهروب وربما لأسباب أخرى ، كما سمعت عن ( رؤوس كبيرة ) من الحكومة التي إختفت تطاردها القوات ألأمريكية بجوائز خرافية من المال من أجل القبض عليها .

زمن آخر ، جديد ، قد حل !! .

هكذا أيقنت ، عادت فيه المظالم إلى ( الثالولة ) ، كما ألأمراض المزمنة ، والمعدية ، أو اللعنات التي تلاحق عتبات بعض البيوت !! . همست لنفسها وهي تحدق طويلا في عيني ( السيد الرئيس ) ، وهمست معاتبة بعد ان تنهدت : ــ ماذا فعلنا لك ؟! وماذا فعلت لنا ؟! ماذا فعلنا بك ، وماذا فعلت بنا ؟! .

ولكنها قلبت الجريدة بسرعة عندما مرت مروحية أمريكية . يقال أن هؤلاء ( يرون النملة السوداء في الليلة الظلماء ) بوساطة طائراتهم وأقمار التجسس التي التي أطلقوها لتراقب العراقيين ، ثم عادت وقلبت الجريدة وحدقت في عيني ( السيد الرئيس ) الجميلتين ، وسبابته الطويلة التي كانت تشير إلى ، أو تهدد جهة ما !! وكررت هامسة : ــ ضعنا يا ( أبو عدي ) !! ضعنا !! كنا نخاف منك ، ونحن نخاف اليوم من اعدائك الذين أخذوا البلد !! .

وفاجأتها ( صمود ) ، التي أحضرت قوري الشاي من أجل الفطور ، قائلة : ــ ها !! تتحدثين مع حبيب القلب ؟!. فتنهدت ( العضباء ) مرة أخرى قبل ان تضع الجريدة في النار ، ثم أجابت آسفة : ــ سيبيعونه هو ألآخر للأمريكان !! ألم يقل فينا سيدنا ( علي ) : ــ ( ملأتم قلبي قيحا ) ؟! باعوا البلد !! ثم نهبوه !! وسيبيعونه ــ وأشارت نحو الجريدة المشتعلة ــ إذا بقي في العراق !! ولهذا يعاملنا ألأمريكان كالعبيد !! بل كالحيوانات !! كنت أسأله ــ وأشارت نحو الجريدة التي كانت تحترق ببطء ــ ولكنه لايرد !! قبل حرب ( أيران ) كنا أفضل !! وقبل حرب ( الكويت) كنا أفضل !! وقبل الحصار الدولي كنا أفضل !! وقبل هذه الحرب كنا أفضل !! ألأفضل دائما يمضي عنا ولا يعود!! .

وأشارت نحو مروحية أمريكية مرت في فضاء ( الثالولة ) قائلة : ــ هذا سرّ حزني ألآن !! وهذا سر ّ أسفي على ما مضى !! . ثم دخلت ( التانكر ) ، بينما كانت ( عنود ) ترتدي ( ملابس الشغل ) التي كانت تستخدمها عندما كانت ( إصبعا ) من أصابع ( كاشان ) في ( وادي الحرامية ) .

وإنتبهت ( العضباء ) ، لأول مرة منذ زمن بعيد ، إلى أن رائحة نتنة تنبعث من تلك الملابس ، فهزت يدها السليمة آسفة حزينة ، إذ ما كانت تمتلك مايمكنها من شراء ملابس أخرى لإبنتها ، وعندما أرادت أن تعيد شرح ( خطتها !! ) وهن يتناولن شيئا من الخبز الساخن والشاي إنطلقت آذانات صلاة الفجر من جوامع المدينة ، وقالت لها ( عنود ) بشئ من الحدة : ــ يمّا !! والله عرفنا !! قولي يا ألله !! .

** البدراني **

إبتلع ( العقيد الركن ) كلمات أراد أن يقولها بعد ( ولكن !!؟؟ ) مندهشة مصدومة من إجابتي بأن لامعلومات لدي عن الحكومة ، ولمحت على وجهه قلقا وإرتباكا كبيرين عندما ألقى علينا ( انور ) التحية وجلس راسما على شفتيه إبتسامة ساخرة .

لمحت كف ( العقيد الركن ) تنقبض ثم تنفتح بعصبية مكبوتة ، وزالت من عينيه نظرة الصياد ، وهو يرد تحية ( أنور ) ، وحصل ما لم أكن أتوقعه قط ، عندما تساءل ( أنور ) بلا مبالاة وهو يشعل السيكارة التي قدمتها له : ــ كيف حالك ( نائب ضابط عدنان ) ؟! . ومط ّ حروف ( نائب ضابط ) ليؤكدها وبوضوح متعمد .

: ــ أشكرك أخي !! .

أجاب هذا ، وهو ينهض متظاهرا بالهدوء ، قائلا : ــ أستأذنكما !! لدي موعد !! .

: ــ مع الجواسيس أم مع اللصوص ؟! .

سأله ( أنور ) وهو يكاد يضحك ، ولكن هذا تظاهر بأنه لم يسمعه ، وخطى خطوتين فصاح ( أنور ) بصوت آمر عال : ــ (عدنان ) !! .

فتوقف هذا ممتقع الوجه .

قال له ( انور ) وهو يضع كفه على كتفي : ــ هذا الرجل أخي !! تذكر ذلك !! وقل ما سمعته ألآن ( للعفطية ) من جماعتك !! فهمت ؟! .

فهز هذا رأسه دون ان ينظر في وجهينا ثم مضى .

ضحك ( انور ) وهو يطلق شتيمة غاية في البذاءة أضحكت ( مدير ألإدارة ) ، الذي كان ينصت لما يجري في غرفة ألإستقبال . وعندما حدثت ( انور ) عن دعوة الفطور السخية التي أقامها لي هذا عاد يضحك وهو يسالني مستغربا جهلي : ــ وهل تظن أنه دعاك على نفقته ؟! أقنع العفطية بانك ( صيد ثمين ) فصرفوا له ثمن الفطور وثمن بعض الهدايا !! يأكل وجبتين يوميا لأنه لا يمتلك ثمن الوجبة الثالثة ، وفي أفضل الحالات يأكل رغيفا من الخبز مع قدح من الشاي !! سرق مشجب سريته وإنكشف فهرب إلى هنا مدعيا انه ( عقيد ) و( ركن ) !! الله اعلم ماذا لفق عنك عند العفطية الذين يتعاملون معه !! ولكن إطمئن ، يعرف ألآن أن أي أذى ينالك سيدفع هو ثمنه !! أنت لاتعرف هؤلاء !! مستعدون للعمل كقوادين من اجل بضعة دولارات !! هل دخل غرفتك ؟ .

: ــ نعم !! .

أجبت مستغربا ، فنهض ( انور ) على الفور وأشار لي بالنهوض إلى غرفتي وهو يسألني إن كنت أتذكر شارة ما على حقيبتي التي سحبتها من تحت السرير، ثم فتحتها مستعجلا حسب مقترح ( أنور ) فوجدت أن أفضل زوج من جواريبي مع قطعة صابون جديدة لم أستعملها بعد قد إختفيا .

ضحك ( أنور ) وهو يقول لي آسفا ساخرا من قلة حذري : ــ ترى ( عدنان ) ألآن ينظف مؤخرته القذرة بصابونتك ، ولا تستغرب إذا رأيت جواريبك في قدميه هذا المساء !! .

** الثالولة **

بكت العجوزتان عندما يئستا من العثور على ( كاكا بكر ) لذا سألتهما المرأة الكردية عن المشكلة ، فإندفعتا في آن واحد في سرد قصة إختطاف الشبان الثلاثة من ( الثالولة ) ، بطريقتين مختلفتين ، مما اوقع المرأة في حيرة لفهم ما جرى ، حتى خرج رجل بدا انه زوجها ، أصر بعد تبادل التحيات على دخول الجميع إلى البيت ، فدخلوا غرفة مازالت دافئة برائحة النوم .

وزع صاحب الدار السيكائر على الرجال ، وهو يكرر ترحيبه ، وشرح له أكبر العجائز سنا حادثة مقتل الشاب الكردي في ( الثالولة ) ثم حادثة إختطاف ثلاثة من الشبان وسيارة إجرة من قبل ممن يبدون انهم من ذوي القتيل ، وكان الرجل ينصت بتعاطف واضح وهو يدخن حتى إنتهى العجوز من قصته ثم قال مطمئنا : ــ قبل كل شئ ، تناولوا الفطور !! .

ثم نادى على زوجته ، التي تعاونت مع بعض أولادها على تقديم طعام ، كان واضحا انه قد اعد لإفطار العائلة ولكنه قدم للضيوف . وأصر صاحب البيت على الجميع أن يأكلوا ( من زاده وملحه ) ، كما أي إخوة وأية أخوات ، وهو يعد بمساعدتهم على حل هذه المشكلة ، مؤكدا لهم انه ( ليس مسؤولا ) في المنطقة ، وإن هو إلا ( تاجر سيكائر ) ، ولكنه يعرف ( بعض الناس ) هنا ممن قد يساعدونهم في ألموضوع الذي جاءوا من اجله .

قاد الرجل سيارته أمام سيارتهم حتى توقف أمام بناية كبيرة ، يحرسها عدد كبير من ( البيش مركة ) ، ثم دخل البناية بعد ان أشار ( للبدراني ) وجماعته بالإنتظار ، وبعد فترة طالت خرج مع رجل يرتدي ملابس كردية غاية في ألأناقة يتمنطق بمسدس وقدمه لأهل ( الثالولة ) على أنه : ــ ألأستاذ ( شهاب الدين ) !! .

وبعد ان سمع ( ألأستاذ شهاب ) القصة من ( البدراني ) قال لهم وهو يبتسم بثقة : ــ إذا كانوا احياء ، وفي أي منطقة تحت سيطرة حزبنا فسنعيدهم لكم !! وانتم تعرفون قضايا الثأر !! نحن نرفض ألإعتداء على احد بدون ذنب !! ونحن أهل أولا وآخرا !! إن شاء الله يصير الخير !! .

** العضباء **

على تلفاز ( أخو عرنه ) ، شاهدت ( العضباء ) ، مع إشراقة الصباح المبكرة ، مجموعة كبيرة من الراقصات شبه عاريات يراقصن رجالا بالأحضان ، فصرخت مستنكرة : ــ يمّا !! أعوذ بالله .. !! عمى !! ماهذا ؟! .

ثم إقتربت من التلفاز وسألت ( أخو عرنه ) جادة : ــ هل هن من لحم ودم ؟! .

فأطلق هذا ضحكة ساخرة ونقل البث من قناة أخرى عرضت أسماكا بحرية ملونة ، فهمست ( العضباء ) مستغربة وهي تكاد تتلمس الجهاز : ــ يا سبحان الله !! هل هي حقيقية ؟! .

ولم يرد عن سؤالها ، إذ إستهوته براءتها وجهلها بما يجري في الدنيا ، فنقل البث من قناة ثالثة أظهرت رجلا يقبل إمرأة بعنف وشبق ، فصرخت ( العضباء ) غاضبة : ــ أستغفر الله !! أستغفر الله !! .

ثم مضت مبتعدة مع إبنتيها عن المقهى وهي تردد : ــ إبن القحبة هذا سيفسد الناس بهذا ( الدش ) !! .

على الجهة ألأخرى من الوادي توقفت سيارات ( الشيخ بعيو ) أمام قصره المحترق ، ونزل واحد من أولاده مع بضعة رجال ، بدون سلاح ، ووصلت بعد ثوان سيارتان نزل منهما رجال مسلحون راحوا يطلقون النار نحو إبن ( الشيخ بعيو ) والرجال الذين كانوا معه .

صرخت ( العضباء ) مرعوبة وسقطت عند واحد من أذرع ( سيد فولاذ ) ، بينما وقفت الفتاتان مذهولتين للحظات قبل أن تهربا نحو مقهى ( أخو عرنه ) .

ركض ( أخو عرنه ) نحو ( العضباء ) وفي ظنه انها أصيبت . قرفص إلى جوارها وهو يصيح : ــ ( أم زمن ) !! ( أم زمن ) !! .

ففتحت هذه عينيها وسألته بنبرة منكسرة وهي تئن دون أن ترفع رأسها عن ألأرض : ــ هل أصابوني ؟! هل إنتهت ؟! .

فسخر هذا منها : ــ يا الله قومي !! قومي !! إنتهت روحك إن شاء الله !! وعساهم خلصونا من لسانط الطويل !! إنتهت ومع ألأسف مازلت حيّة !! .

ثم مضى عنها .

نهضت برأس يتلفت ، كما تفعل الطيور القلقة ، نحو كل الجهات حتى وصلتها إبنتاها ، فدفعت العربة الخشبية بيدها السليمة نحوهما غاضبة ، بينما كان رجال يركضون ، بعضهم يحمل سلاحا وبعضهم بلا سلاح ، نحو قصر ( الشيخ بعيو) ، وثمة نساء واطفال ظهروا على مداخل ألأزقة وسطوح البيوت والنوافذ وألأبواب .

: ــ فلنعد إلى البيت !! .

قال ( العضباء ) لإبنتيها وهي ترتجف .

: ــ والحطب ؟!

سألتها ( صمود ) ببرود .أجابت ( العضباء ) : ــ سأشعل ملابسي هذه ولا اترك واحدة منكما تذهب في هكذا شوارع !! جنت الناس !! تتذابح !! . وانا حظي .. !! .

وسكتت عندما عاد ( أخو عرنه ) من أمام القصر حيث تجمعت الناس وهو يقول بأسف : ــ قتلوا أكبر أبناء الشيخ وإثنين من أقاربه !! قضية ثأر قديمة جدا !! ثلاثة جرحوا !! .

** زمن **

رموا دشداشته الممزقة عليه فبكى وهو يرتديها من قسوة ألآلام التي نزت في أصابع كفيه المتورمتين وبقية جسده . شعر بالخجل ( يقتله ) لأنه تبول على نفسه بحضور رجال إنتزعوا ألإعترافات منه عن خندق ( الثالولة ) والرجال الذين كانوا فيه ، وهم يتسلون بتعذيبه ، وتوقع أن يطلقوا سراحه في اللحظات القادمة .

أمره المترجم بالنهوض ، ولكنه عجز بعد محاولتين من جراء ركبته المصابة وأصابع يديه المتورمة . رفعه جنديان من ذراعيه ، وسحلاه على ألأرض الكونكريتية . شعر بجلدة ركبتيه وساقيه تنسلخ مخلفة آلاما أخرى في جسده ، ثم تركاه ملقى في مكان ما ، لم يسمع فيه غير لهاثه ودقات قلبه .

سمع همهمة قريبة منه فجأة . فكر . ربما هم جنود أمريكان يترصدون حركاته كالعادة وهم يستعدون لضربه . ترددت ضربة على جسد ما صاحبتها صرخة توجع ، ثم عم ّ السكون فترة طالت على أوجاعه . تمنى لو يستطيع أن ينام خلالها ، ولكن أوجاعه لم تمنحه مثل هذه ( النعمة ) التي إكتشف قيمتها توا .

تذكر اللحظات ألأولى لإعتقاله ، واخته ( صمود ) تتهاوى على ألأرض من جراء ضربة الجندي ألأمريكي . ربما قتلها . فكر . وأقسم أن يقتل ما لايقل عن أربعة جنود أمريكان إذا كانت قد قتلت ، تماما كما يفعل أي ( طالب ثأر ) من أهل المدينة .

وتذكر مدرسته ، التي تركها منذ ثلاث سنوات ، عندما مر شتاء عجزت فيه ( العضباء ) عن شراء سترة شتوية وسروال له ، فلم يذهب إلى المدرسة ( خوفا عليه من أمراض الشتاء !! ) ، وتكرر الحال في الشتاء التالي ، الذي إلتهبت فيه أسعار الملابس ، حتى المستعملة ، من جراء الحصار الدولي الذي ( ضرب ) الفقراء وحدهم ، فلم تجد ( العضباء ) بدا من إستثمار بطالته في دفع عربة خشبية لنقل البضاعات في ( سوق الخضار ) في كل فصول السنة .

داهمته حركة قريبة ويد تفك القيد عن يديه ثم ترفع الكيس عن رأسه . أعماه ضوء النهار للحظات ، ثم إستطاع أن يرى رجال ( الثالولة ) جالسين في قاعة كبيرة متباعدين عن بعضهم ، يقوم بعض الجنود ألأمريكان بفك القيود عن أياديهم ويرفعون ألأكياس عن رؤوسهم ، فشعر بشئ من الفرح على ظنه أنهم سيفرجون عنهم ، ولكنه شعر باليأس عندما جلبوا لهم بعض الطعام ، رغم الجوع الذي نسيه .

كان طعاما امريكيا !! .

إناء بلاستيكي مستطيل بأربع حفر ، في كل واحدة منها طعام مختلف . وثمة كيس شفاف فيه ملعقة وشوكة وسكين من البلاستيك . ولم يجرؤ على مد يده نحو الطعام ، رغم جوعه ، حتى سمع المترجم يسمح لهم بذلك . وعندما تذكر أن ( هؤلاء ) يأكلون لحم الخنزير تردد عن ألأكل وراح يراقب بقية ( مكيّسي الرؤوس ) بقلق ليتأكد إن كانوا يأكلون أم لا .

إلتقت نظراته بنظرات جندي مسلح ، قدر انه في العشرين أو الواحدة والعشرين ، ببشرة فاقعة البياض ( لاحياة فيها !! ) ، وشعر أشقر قصير ، بدا مزهوا بنفسه ، وهو يرطن موجها الكلام له مشيرا بيده الطليقة نحو الطعام ، ففهم ( زمن ) أنه يأمره بتناوله .

غمس سبابته المتورمة في ما يشبه العجين ألأبيض ، وتذوقه مترددا ، وهو يشتم كل ماهو أمريكي في سره .

** الثالولة **

ما كادت ( الثالولة ) تنام على دهشة الصحن اللاقط ، ( الدش ) ، في مقهى ( أخو عرنه ) حتى صحت بعد منتصف الليل على أصوات المروحيات ألأمريكية ، يهز عصفها سقوف البيوت ونوافذها وكل ما هو راخ وسائب فيها ، ثم بدات ألأخبار تنتقل عبر الجدران المتلاصقة للبيوت عن ( الكبسة ) الجديدة .

جلست ( العضباء ) وهي تتمتم الدعاءات لله طالبة منه ( الستر والمغفرة وحسن العاقبة ) ، دون ان تتحول نظراتها عن باب ( التانكر ) ، المعوج منذ الكبسة القديمة من جراء ( رفسة البغل !! )التي سددها الجندي ألأمريكي نحوه ، وصعب على ( البدراني ) ان يعيده إلى ماكان عليه ، لذا راح يسرّب الهواء والذباب إلى الداخل .

توقعت أن يرفس الباب جندي آخر في أية لحظة ، وهي ترتجف خوفا من حقيقة أن هؤلاء باتوا يعتقلون النساء أيضا كما سمعت عن كبسات أخرى جرت في المدينة ، وقد يعود ذات الجندي الذي حفظت تضاريس وجهه لينتقم منها او من ( صمود ) او ( عنود ) عن صفعتين تلقاهما هنا .

كانت قد إتفقت مع ( البدراني ) للذهاب فجرا إلى مطار المدينة القريب من معسكر ( الغزلاني ) بعد أن سمعت من بعض الناس أنهم شاهدوا جنودا أمريكان ومعهم ( مكيّسي رؤوس ) عراقيين هناك ، ولكنها شعرت بالرعب عندما فكرت بان هؤلاء قد يقبضون على ( البدراني ) هذه الليلة ، او يقبضون عليها ، عندها لن يبحث أحد عن ( وحيدها ) ، فهمست مستغيثة : ــ يا ألله أعنيّ !! .

وأجفالت بشدة عندما سألها ( صمود ) : ــ مابك ؟! .

ثم أجابت هامسة : ــ عمى !! فكرت أنك نائمة !! .

وسكتت لتنصت إلى مروحية تقترب من ( التانكر ) ، ثم غطت ساقي ( عنود ) المستغرقة في النوم بسرعة . وهمست وهي تشير بذراعها السليمة نحو ألأعلى : ــ هم فوقنا ألآن !! .

: ــ والله فوقهم . يمّا !! .

همست ( صمود ) وهي ترتعد .

وضعت ( العضباء ) فمها على أذن ( صمود ) وقالت لها : ــ شوفي . إذا أخذوني ، أو أخذوك ، من تبقى منا يجب أن تبحث عن ( زمن ) . فهمت ؟! . لا أحد يبحث عنه غيرنا . رجل البيت هو . وعساهم يأخذونني بدلا منه . انا رجلي ّ في القبر وهو المستقبل كله .. !! .

ثم بكت بصمت .

تعثر أحدهم بشئ ما بين ( التانكر ) و( برج الضغط العالي ) ، فكاد يغمى على ( العضباء ) . رددت مرعوبة : ــ جاءوا !! جاءوا !! .

وركضت أقدام في الزقاق ، ثم دوت صليات رصاص من مكان قريب فإستيقظت ( عنود ) . وما عدن يسمعن غير أنفاسهن اللاهثة ونظراتهن القلقة تسمّرت على الباب . دوت طلقتان من مكان بعيد ، ثم عاد السكون ثقيلا لا يقطعه غير شخير المروحيات وشحطات أحذية الجنود ألأمريكان .

نهضت ( العضباء ) على أطراف أصابعها ، وقرفصت عند الجزء المعوج من الباب . لفحها الهواء البارد ، ولكنها لم تر شيئا في ظلام الليل الدامس في الخارج . همست : ــ اللهم إعم بص .. !!

ولكن رطانة غاضبة فاجاتها من الخارج : ــ ( شت أب !! ) .

فوقعت على ألأرض فورا وهي تصرخ : ــ تأ !! .

** كاشان **

أمضت ليلة كئيبة على ضوء الفانوس في غرفتها . فتحت المذياع ، الذي يعمل بالبطارية ، طلبا لشئ من التسلية قد تساعدها على نسيان ، ولو مؤقت لمجموعة من ( الكوارث ) الشخصية حلت بها من جراء الحرب ، فهاجمتها التحاليل ألأخبارية التي بدا أكثرها عصيا على فهمها لما يجري عن آثار الحرب ، وبحثت في محطات اخرى ففقعت في أذنيها أغان عجيبة إستفزت مزاجها المتكدر فأغلقت المذياع .

عندما توقفت ( أصابعها ) عن نبش ( مزبلة الشيطان ) في ( وادي الحرامية ) ، بعد أيام قليلة من بدء الحرب ، توقعت أن يدوم ذلك لبضعة أيام فقط ، لأن الكناسين توقفوا عن تنظيف الشوارع خوفا من القصف ، ، وعندما إنتهت الحرب حصل مالم يتوقعه احد ، إذ سطا العواليس على دوائر الحكومة ونهبوا حتى سيارات نقل ألأزبال ، وإستولت أحزاب ( المعارضة ) المحمية بالجنود ألأمريكان و( البيش مركة ) على بنايات الدوائر الحكومية ، فما عاد المرء يدري من المسؤول الحقيقي للمدينة .

مازالت البلدية تنتظر السيارات الجديدة التي وعدت بها الحكومة الجديدة ، وقضت شاعة أن ألأمريكان يصورون البنات والفتيان وهم يعملون في ( وادي الحرامية ) على آخر آمالها في أي مورد مالي من هناك . وتوقفت تجارة ألأدوية السرية ، التي منعتها الحكومة القديمة ، لأن الحكومة الجديدة تركت الحدود الدولية سائبة للمهربين الدوليين والتجار الذين جلبوا كل ما كان ممنوعا وعرضوه في الشوارع .

وبينما كان ( المخضرم ) وجماعته يتلقفون حتى ربع كيلو غرام من النحاس ، أو مطاط النعالات وألأحذية المستلهكة ، صاروا يبحثون في هذه ألأيام عن صفقات خرافية من مثل خردة الدبابات الروسية ومدافع الميدان وحتى الطائرات والمعدات الثقيلة للمصانع الحكومية ، فلم تعد ( كاشان ) قبلة ( للمخضرم ) كما كان يوحي ( إعجابه !! ) بها في أيام الحصار الدولي .

وخطف ( الحظ السئ !! ) حتى القنابل الخمسين التي أعطاها لها ( كاكا صالح ) ، ولكن ( البدراني ) رماها في (وادي الحرامية ) قبل كبسة ألأمريكان ألأولى بلحظات ، ولو لم يفعل ذلك لكانت هي ألأخرى معتقلة برأس ( مكيّس !! ) ، مما إضطرها لدفع ثمنها كاملا ، ومن مدخراتها ، ( لكاكا صالح ) الذي لقنها درسا جديدا يفيد أن ( الحب حب والتجارة تجارة ) ، ولكنه عرض عليها مشاريع أخرى ، ( جديدة !! ) تماما على البلد ، جعلتها على يقين أن زمنا آخر قد حل !! .

وعندما إشترطت على ( البدراني ) أن يستحم ليقسم لها على ( القرآن الكريم ) أنه سيكتم الأسرار التي تريد أن تبوح له بها من أجل ( شراكة كبيرة !! ) ، إستحم الرجل متوجسا ، وأنصت لها بإمعان وهو يدخن سيكارته الثالثة على ملامح ( جديدة في وجهه هي ألأخرى !! ) ، كانت مزيجا من الغضب وألإحتقار والذهول الذي لم تتوقعه .

نهض بعدها ، قبل أن تذكر له ( كل شئ !! ) وهي تتشبث بكتفه ، وقال لها جادا ، كما لو انها تراه جادا للمرة ألأولى مذ رأته للمرة ألأولى عندما جاء قبل سنوات باحثا عن غرفة للأيجار : ــ شوفي !! أنا أحترم القرآن الذي أقسمت عليه !! ولن أبوح لأحد قط بما قلتيه لي !! ولكنني لن أبقى في هذا البيت ساعة أخرى !! إنتهى كل شئ بيننا !! .

** زمن **

بينما كان رجال ( الثالولة ) يتناولون طعامهم بتوجس واضح ، وثمة ضجة خافتة لا تعلوها غير رطانات الجنود ألأمريكان وهم يوجهون أوامرهم وتعليماتهم عبر المترجم العراقي ، كان ( زمن ) يبحث بطرف عينيه عن ( ملا ّ حمادي ) ، ومن كانوا معه في خندق ( الثالولة ) ، على ( تل الهوى ) ، فلم ير أحدا منهم .

إستبعد أن يكون ألأمريكان قد أطلقوا سراحهم ، لأن هؤلاء لم يطلقوا سراحه هو الذي إضطر للإعتراف عنهم تحت التعذيب ، وشعر بالعار وألأسف فتوقف عن تناول الطعام . تظاهر بانه يلوك لقمة ما دون أن يرفع نظراته عن ألأرض فترة طالت حتى سمع المترجم يقول وهو يشير نحو عربة زبل صغيرة تمشي على عجلات أدخلوها توا : ــ فليبق كل واحد منكم في مكانه حتى تصله العربة !! ضع ماعونك في العربة ثم عد إلى مكانك !! .

على رجل واحدة قفز ( زمن ) وألقى ماعونه في عربة الزبل التي لم ير مثلها من قبل . إنفتحت دشداشته المشقوقة إلى نصفين ، ورفرفت ، كما جناحي طائر ، كاشفة عري جسده النحيل . قهقه جندي أمريكي وقهقه معه المترجم العراقي . تبادلا رطانة ، وعادا يقهقهان . إلتقت نظرات ( زمن ) بنظرات الجندي صاحب البشرة التي ( لاحياة فيها !! ) ، لم يكن يضحك ، ولكنه كان يصوب بندقيته نحوه تماما ، وهي مستعدة لإطلاق النار . و أشاح ( زمن ) بنظراته نحو ألأرض كي لايقرأ أحد نظرات الغضب والإحتقار في عينيه .

من نهاية القاعة بدأ ألأمريكان يقيدون المعتقلين مرة أخرى ويضعون ألأكياس على رؤوسهم ، ويضعون في يد كل واحد منهم ورقة صغيرة . كاد يسقط ، عندما أمروه بالنهوض ، على قدم واحدة ، لو لم يسنده أحد الجنود ، وقال له المترجم : ــ من ألآن تنسى إسمك . أنت هذا الرقم على هذه الورقة . فهمت ؟! .

: ــ نعم .

أجاب ( زمن ) بسرعة .

قيدوه من جديد ، ووضعوا الكيس على رأسه . كان ذات الكيس الذي تقيأ فيه ، وكان القئ قد تيبس دون أن يفقد رائحته الكريهة . أمره المترجم بالجلوس فجلس ، ولكنه تلقى ركلة مؤلمة لم يفهم سببها ، وتمنى لو يتعرف على وجوه من عذبوه .

بعد لحظات خيم السكون على القاعة حتى قطعه صوت المترجم مرحا في هذه المرة على غير ما إعتادوه من نبراته : ــ إنتباه !! إنتباه !! كلكم تناولت الطعام ولم يمت أي واحد منكم !! زين !! أكلتم لحم الخنزير ولم تموتوا !!

وشعر ( زمن ) بمعدته تضرب صدره بعنف . سمع آخرين يتقيأون بصوت عال وهم يستغفرون الله ، وسمع ضربات موجعة تتردد وصرخات مكبوتة ، ولم يتمالك نفسه فتقيأ هو ألاخر . سال قيؤة على صدره ، دافئا ، نتنا ، ثقيلا ، وتندت عيناه بالدموع وهو يردد ، كما علمته ( العضباء ) كلما شعرت بالظلم : ــ حسبي الله !! حسبي الله !! .

** الثالولة **

عندما إنطلقت آذانات الفجر ، شعرت ( العضباء ) بأن ألأمريكان ( ولوا !! ) ، إذ ماعادت تسمع أقدامهم المتعثرة ولا رطاناهم في ألأزقة ، ولا شخير المروحيات اللعينة المزعجة . من عمق الليل ، سمعت أصواتا أليفة ففتحت الباب متوجسة . تنحنحت بصوت عال لتختبر مافي الفسحة الفاصلة بين ( التانكر ) و( برج الضغط العالي ) ، وعندما لم تسمع ( شت أب ) أمريكية غاضبة ، ركضت نحو المرحاض وأغلقت باب الصفيح الصدئ خلفها بسرعة .

نصحت ( صمود )، التي خرجت بعدها ، ان ( تتبول الخوف !! ) ، ولكن هذه لم تستمع للنصيحة كعادتها ، وتشجعت ( العضباء ) على ضوضاء سمعتها في ألأزقة ، بلا رطانات ، فتجاوزت ( برج الضغط العالي ) مترددة لتلقي نظرة نحو أقرب ألأزقة .

ثمة أشباح نساء كن يولولن ، فإقتربت منهن وهي تسأل : ــ شكو ؟! .

أجابت أقربهن إليها : ــ سخام !! أخذوا وجبة جديدة وكيّسوا رؤوسهم !! .

صرخت ( ام عبد الرزاق المجنون ) : ــ حتى ( عبد الرزاق ) أخذوه !! ماذا يفعلون بمجنون ؟! ي ويلي !! ي ويلي !! .

كان الفجر يمسح بضوئه الفضي ألأفق البعيد ، وثمة نجوم تتلاصف في عمق الزرقة الداكنة من الجهة ألأخرى للأفق . مزقت السكون طلقة نارية من عمق ( وادي الحرامية ) . وجلست القرفصاء إمرأة تحتضن طفلة نائمة وهي تلقي نظرات كسيرة نحو النساء ، متشبثة بعكازة خشبية ، أشارت نحوها ( أم عبد الرزاق المجنون ) وهي تقول بأسى : ــ حتى زوجها المعوق أخذوه بدون عكازته بسبب هوية معوقي الحرب التي قدمها لهم !! حتى الهويات صارت مصيبة على أصحابها !! .

جلست ( العضباء ) ، بعد أن تاكدت من خلو البقعة التي جلست عليها من غوائط ألأطفال ، ولم تجد في ذاكرتها غير الكلمة التي كانت اكثر النساء يرددنها ألآن : ــ ي ويلي !! ي ويلي !! .

ولكنها سكتت عندما مر ثلاثة رجال مسلحين ، ملثمين ، يتبعهم مسلحان ملثمان .

سألت المرأة التي تجاورها هامسة قلقة : ــ من هؤلاء ؟! .

أجابت هذه هامسة : ــ أعرف واحدا منهم فقط . إبن ( الحاج أحمد )!! بيتهم قريب من ( سيد فولاذ ) . صار من المجاهدين مذ دخل ألأمريكان ( البصرة ) .

: ــ إبن ( حاج أحمد ) !! طالب الجامعة ؟! .

تساءلت ( العضباء ) مندهشة .

أجابت هذه : ــ نعم .

قالت زوجة معوق الحرب ( للعضباء ) : ــ أختي ( أم زمن ) !! الله يفرجها عن وحيدك ، هل تأخذين عكازة زوجي معك إذا ذهبت للبحث عن ( زمن ) هذا اليوم ؟! زوجي لايستطيع المشي بدونها !! وأنا مريضة لا أستطيع البحث عنه ، واهله في القرية كما تعلمين ولا يعرفون أن ( العميان ) قبضوا عليه بعد .

نهضت ( العضباء ) وهي تقول لها بطلاقة : ــ أي . أي !! .

ثم أخذت العكازة منها وأسرعت لتتأكد أن ( العميان ) لم يقبضوا على ( البدراني ) ، الذي إنتقل من بيت ( كاشان) إلى بيت من غرفة واحدة يطل على طرف ( وادي الحرامية ) البعيد .

About Me

My photo
مؤمن بحقيقة تقول : إن شبرا من ألأرض يكفي لمتحابّين وألأرض كلّها لا تتسع لمتباغضين http://2arraseef.blogspot.com/