رواية " رؤوس الحريّة المكيّسة " . ثلاثة اقسام. جاسم الرصيف

Monday, December 10, 2007

القسم الثالث: رؤوس الحرية المكيّسة

** كاشان **

جربت هاتف ( الثريا ) لأول مرة ، وعندما سمعت جرس هاتف ( كاكا صالح ) على الطرف ألآخر شعرت بشئ من السعادة . كانت الساعة قد تعدت الثامنة مساء ، وثمة ضجة ذكّرتها بضجات حفلات الأعراس على الطرف ألآخر .

رحب بها ( كاكا صالح ) ، حتى قبل أن يسألها كما جرت العادة في ( ألو !! من ؟! ) ، وسألها على الفور : ــ ما الجديد ؟! .

أجابت بصوت خفيض متظاهرة بالمرح : ــ البنات العاطلات !! حدثتك عنهن !! .

ضحك بسعادة وقال لها : ــ بدأنا المشاريع إذن !! ماذا لديك ؟! .

: ــ ذهب عيار ستة عشر .

: ــ بكم ؟! .

: ــ أعرض لي سعرك !! .

: ــ عشرين دولار .

: ــ نتحدث عن ذهب ( خام !! ) . ( خام !! ) . غير ( مشغول ) سابقا !! وتقول عشرين دولار !!؟؟ .

: ــ مائة دولار لأنه ( خام ) !! لاتزعلي !! .

: ــ يفتح الله !! .

: ــ بكم إذن ؟!

: ــ خمس مائة دولار .

: ــ لحظة !! .

ومرت فترة من الصمت على الطرف ألآخر ، ثم عادت الضجة تتردد في أذن ( كاشان ) ومعها صوت ( كاكا صالح ) قائلا : ــ موافق .

: ــ الدفع مقدما . لشخص واحد ، وليلة واحدة .

قالت له بحزم كانت قد أعدت له من قبل .

قال لها : ــ لحظة !! .

وغابت الضجة مرة أخرى ، فأيقنت ( كاشان ) أن هذا ينقل ماتقوله لشخص آخر ، ثم عاد إليها وهو يقهقه على أمر لم تفهمه وقال لها : ــ زين !! موافق أيضا !! اريد ان أساعدك بأية طريقة كما تلاحظين !! متى يكون الذهب الخام جاهزا ؟ .

: ــ متى تشاء من يوم غد .

وغاب عنها صوته مرة ثالثة ثم عاد يسألها : ــ إتفقنا . والمشاريع ألأخرى ؟! .

: ــ في الطريق . أصبر علي !! .

: ــ زين !! زين !! .

ثم أغلق الهاتف دون أن يضيف حتى كلمة أخرى .

** زمن **

إنتشرت رائحة القئ في القاعة ، بعد ان اخبرهم المترجم أنهم أكلوا لحم الخنزير . توقع ( زمن ) أن ألأمريكان سيسمحون لهم بالإغتسال ، ولكن الرتابة عادت للقاعة من جديد بعد فترة مصحوبة برطانات ووقع أحذية ثقيلة على ألأرض .

فكر بان الله يمكن أن يغفر له بعض الخطايا التي إرتكبها مذ قبض عليه هؤلاء ، خاصة إعترافه بأسماء من كانوا معه في الخندق ، بعد أن كسر له ( العميان ) ركبته وأصابع كفيه حتى تبول على نفسه من شدة ألألم !! وسيغفر له لأنه تناول لحم الخنزير ( مخدوعا !! ) ، ولكنه شعر بحقد كبير على المترجم العراقي الذي كان يتواطأ مع ألأمريكان .

وسرحت أفكاره نحو ( الثالولة ) ، وأخته ( صمود ) التي تمنى لو يعرف ماذا جرى لها بعد ضربة الجندي ، ونسي شعوره بالفرح عندما لم يسأله المحقق عن البندقيتين اللتين كان على يقين من وجودهما في ( التانكر ) قبل أن ينام ، وبدا انهم نسوا قصة كيس النقود التالفة ، ولكنه كاد يضحك عندما تذكر أن الضابط ألأمريكي سأله ( جادا !! ) عن نقود ( صدام حسين ) ، وعادت ألآلام تخز جسده من كل ألأطراف .

تذكر فجأة انه لم يشرب الماء منذ فترة طويلة . جف فمه . وعندما مرت من قربه أقدام مستعجلة نحو مكان ما ، قال بصوت مسموع : ــ ماء !! .

: ــ ( وت ؟! )

جاءت الرطانة مندهشة فكرر : ــ ماء !! ماء !! .

نال صفعة حادة رنت لها أذنه اليسرى مع رطانة : ــ ( فك يو !! ) .

تغيرت مواقع بقايا القئ في الكيس الذي يغلف رأسه . مازال بعضها عالقا على حنكه وعنقه وأطراف فمه وصدره ، ومازالت رائحتها النتنة تلتهم المكان ، فتمنى لو يموت .

قرقعت أمعاؤه ، فتذكر أنه لم يذهب إلى مرحاض مذ قبضوا عليه . تململ في مكانه وهو يفكر بطريقة ما يطلب منهم بها الذهاب إلى هناك دون أن يغضبهم ، ولكنه سكت عندما شدت أسماعه أصوات سيارات تتوقف بحدة في مكان قريب وأبوابها تنفتح ثم تنغلق وأقدام كثيرة تطا أرض القاعة الكونكريتي .

( خيّل ) له انه سمع ( عبد الرزاق المجنون ) وهو يهتف بصوت عال لم يخل من غضب : ــ ( بالروح !! بالدم !! نفديك يصدام !! ) .أعقبت الهتاف ضربة قاسية صاحبتها صرخة حيوانية . ولكنه لام نفسه عن مثل هذه ( ألأوهام ) التي بدأت تراوده من شدة التعذيب ، وخاف أن يكون قد جن هو ألآخر ، بعد ان عاد السكون يثقل على المكان ، لاتعكره غير رطانات الجنود ألأمريكان وأحذيتهم التي تخبط ألأرض بين فترة وأخرى من وإلى كل الجهات في القاعة .

تململ في مكانه مرة أخرى بعد شعوره بضيق لايطاق لقضاء حاجته .

صرخ أحدهم به : ــ ( بي كوايت !! ) .

سكن جسده لحظات عاد بعدها يتململ ، فجاء هذا وداس على ركبته المكسورة بقسوة جعلته يصرخ بأعلى صوته : ــ الله !! الله !! آخ يمّا !! يمّا !! .

ثم فقد السيطرة على أعصابه وتغوط على نفسه وهو يتلوى تحت حذاء الجندي الذي أطلق قهقهة ساخرة ثم إبتعد عنه .

** الثالولة **

أطلق أهالي ( الثالولة ) على ( البدراني ) ألقابا جديدة لاتخلو من السخرية الودية التي أدمنوها منذ زمن بعيد ، منها ( المترجم الرسمي للمفجوعين ) ، و ( شيخ المنكوبات والمنكوبين ) و ( محامي دفاع حي التنك ) و( ابو العجائز ) ، ولكن لقب ( لسان الفجائع ) صار ألأكثر شهرة مذ قبض ألأمريكان على الوجبة ألأولى من ( ألإرهابيين ) ، كما وصفهم تلفزيون الحكومة الجديدة ، ومنهم ( زمن ) ( إبن العضباء ) ، أشهر نساء ( الثالولة ) ببندقيتها المرفوعة على طرف خندق ( تل الهوى ) قبل الحرب .

حشر عدد كبير من الناس أنفسهم في غرفة ( لسان الفجائع ) منذ الفجر ، وحالما إنتهت ( كبسة العميان ) الثانية ، وراحوا يشرحون له في وقت واحد ( براءات ) ذويهم من ( مكيّسي الرؤوس الجدد ) الذين بلغ عددهم أثنان وثلاثون رجلا منهم ( عبد الرزاق المجنون ) وقارئ طالع لم تسعفه قدراته ( الخارقة ) في التنبؤ بمصيره .

مل ( البدراني ) من مباراة شرح ( البراءات ) التي كان يعرف الكثير منها مسبقا فصاح غاضبا : ــ إتقوا الله يا ناس !! عندي مخ واحد !! ودعوني أفهم من كل واحد على حدة !! إتقوا الله !! يا ناس !! .

فخفتت الضجة في الغرفة وتحولت إلى همهمات ، لذا إسترسل ( البدراني ) وعلى شفتيه إبتسامة حائرة بين السخرية وألأسى : ــ هل تظنون أنني قائد القوات ألأمريكية أم المحافظ الجديد ؟! عجيبة والله !! كلهم أبرياء أعرف هذا !! ولكن هل سيصدقني ( العميان ) ؟! لديهم مترجمين ولديهم جواسيس !! ثم انا لم أفطر بعد !! دعوني آكل لقمة !! .

وخرج بصعوبة من بين المتجمهرين ، رجالا ونساء حوله ، فأمسكت به إمرأة عجوز بقوة وهي تتوسل به : ــ من أجل الله يا بني !! من أجل ألأنبياء والطاهرين والطاهرات !! لاتتركنا قبل أن تسمع منا !! .

فهز ( البدراني ) كفيه عند وجهه محتارا بين الغضب والضحك قبل ان يقول لها بحرارة : ــ يا عمّتي !! ياعمّتي العزيزة !! أنا ذاهب لأتبوّل !! .

عندئذ ضج الجميع بالضحك حتى المرأة العجوز التي صاحت مندهشة : ــ يبوه !! فكرت أنك تهرب منا !! .

وقفت ( ام عبد الرزاق المجنون ) على مبعدة خطوتين من المرحاض وقالت ( للبدراني ) حالما خرج منه وهي تنتف خصلات من شعرها الشائب : ــ لم أفتح فمي مذ دخلت بيتك !! ولكن سأقول لك ما جرى !! العراق كله و (الموصل ) يعرف أن إبني مجنون !! وهو يردد كلما رأى مجموعة من العسكريين ، ومنذ فترة بعيدة ( بالروح بالدم نفديك يصدام !! ) وقد ( فعلها !! ) حالما رأى الجنود ألأمريكان فوضعوا الكيس على رأسه وأخذوه !! .

وضحك الحضور مرة أخرى ، بينما بكت العجوز بحرقة .

** كاشان **

عندما دخلت غرفة البنات توقفن عن هرجهن الطفولي . أشارت لكبراهن أن تتبعها ، ثم أمرتها بأن تعد ماء ساخنا للإستحمام دون أن تنظر في عينيها . وبينما كانت هذه تملأ قدرا كبيرا بالماء ، وضعته على طباخ نفطي ، كانت ( كاشان ) تراقب جسدها الغض خلسة ، بفضول من يراه للمرة ألأولى ، فوجدتها قد ( نضجت !! ) بنهدين مشرأبين وردفين برزا قليلا من تحت ثوبها الفضفاض ، ولكنها ( أكثر هزالا !! ) مما كانت تظن .

بعد أقل من ساعة عادت الفتاة واخبرتها ان الماء جاهز ، فأمرتها ( كاشان ) ان تستحم ، ولما لاحظت دهشة الفتاة أوضحت لها ، وهي تتأكد من سخونة الماء بأطراف أصابعها : ــ وجدت لك عملا جديدا !! يسرك !! عائلة ثرية تحتاج لفتاة تساعدها في أعمال البيت !! سترين العالم !! لديهم ثلاث تلفزيونات وثلاث سيارات فخمة ومطبخ مساحته بقدر ربع مساحة ( الثالولة ) !! .

إستنشقت الفتاة نفسا طويلا من السعادة قبل ان تسرع في نزع ملابسها في الغرفة المظلمة المخصصة للإستحمام . خرجت ( كاشان ) ثم عادت إلى الغرفة بصحبة فانوس فغطت الفتاة عريها خجلا ، ولكن هذه قالت لها بهدوء : ــ عليك أن تنظفي جسدك جيدا . هؤلاء يحبون النظافة . هذا الشعر !! ــ قالت وهي ترفع ذراع الفتاة ــ يجب أن يزول !!. رائحته كريهة عندما تتعرق المراة . وهذا أيضا ــ وأشارت إلى شعر عانتها ــ وسأساعدك على إزالته !! . صبّي الماء على جسدك وادعكيه بالصابون !! .

وبينما كانت ( كاشان ) تزيل شعر إبطي الفتاة بآلة حلاقة رجالية قالت بلهجة متواطئة : ــ لاتذكري لأحد أن إسمك ( إخلاص ) !! . قولي أي إسم آخر . اولاد الحرام كثيرون !! يفضحون المرأة بإسمها الصريح !! . فأي إسم تريدين ؟! .

أجابت الفتاة على الفور : ــ ( ليلى ) !! .

ثم إسترسلت حالمة ، مستسلمة ليدي ( كاشان ) : ــ حتى يدلّعونني بإسم ( لّلا وي ) !! ( لول ) ) !! ( ليّا ) !! أحب ذلك !! .

ثم اجفلت عندما مدت ( كاشان ) كفها بين فخذيها وباعدتهما لتحلق شعر عانتها . إرتعش جسدها للحظات . وكادت تبكي من شدة الخجل وهي تشعر بأصابع ( غريبة ) تعبث بجسدها .

قالت ( كاشان ) بحميمية لم تألفها الفتاة من قبل : ــ شوفي ( لّلا وي ) . كوني مطيعة !! . نفذي كل طلباتهم بدون تردد ّ!! . إفعلي كل ما يريدون !! . سنجمع شيئا من المال ، ثم ننتقل من هذه المزبلة إلى بيت نظيف ، في حي آخر ، فيه ماء وكهرباء وحتى هاتف وتلفزيون .

** البدراني **

كنت قد ربطت شريط حذائي الرياضي الجديد بشدة إستعدادا للمشي على سفوح الجبال ، ولكنني أرخيته قليلا بعد ثلاث ساعات من إنطلاق السيارة التي أقلتنا مع ( بمو ) ، المهرب الدولي ، ( الذي لم تفشل قافلة من قوافله في الوصول إلى البلد الذي تريد منذ سنين ) .

كان جالسا في مقدمة السيارة ، ذات الدفع الرباعي ، إلى جوار السائق ، تحت ( حقه في قيادة الهاربين ) في ثلاث سيارات غصت برجال ونساء وأطفال وحقائب أعدت خصيصا لهذا اليوم الخطير على الخطوات ألأولى نحو بلدان ( آمنة ) مختلفة عبر ( أيران ) و( تركيا ) و ( اليونان ) , وكان يدخن بهدوء وثقة واضحين ، وهو يتبادل حديثا مطمئنا مع السائق ، مما أدخل بعض الطمانينة إلى نفسي ، لذا حاولت أن انام كما فعل بعض الرجال الهاربين .

على المقعد الثاني للسيارة حشرني ( بمو ) مع ثلاثة رجال . شابين ورجل تجاوز ألأربعين ، وقور . وفي الحوض الخلفي رزم حقائبنا الصغيرة بمهارة خبير في إستثمار الفراغات ، وحشر ثلاث نساء وخمسة أطفال سرعان ماناموا ، بعد حلول الظلام ، وملأوا فضاء السيارة بالفساء مما إضطر سائق السيارة إلى فتح نوافذها أكثر من مرة رغم برودة الليل .

كانت إطارات السيارة تئز برتابة ، لاتقطعها غير المطبات ، على الطريق ، وكنت أشعر أنني عالق بين زمنين ، أبتعد عن واحد لم أتجرأ بعد على وصفه ( بالماضي ) ، وأقترب كلما طوت السيارة مسافة أخرى من آخر لا أعرف مالذي سيجري فيه ، ماكنت قادرا على وصفه ( بالمستقبل ) الذي كنت أريد .

لم أفهم السبب الذي جعل سياراتنا تنطلق بدون أضواء بين منعطفات ومنحدرات الجبال العملاقة التي كنا نقطعها مسرعين ، ولكنني كنت أفهم أن الكتمان واحد من أساسيات الهروب بين الدول ، لذا أرخيت شريط حذائي مرة أخرى بعد ان فهمت من ( بمو ) أننا سنمضي نهار الغد على آخر ألجبال العراقية حتى يحين الليل فندخل ( أيران ) ومنها إلى ( تركيا ) .

تلمست ، ربما للمرة الرابعة او الخامسة ، ما تبقى من نقودي التي خبأت قسما منها في كمّ قميصي ألأزرق والقسم ألآخر في في جيب سري إبتكرته في بنطلوني ، ودخنت نصف علبة سيكائر قبل ان ألمح لوحة فسفورية قديمة تشير إلى أننا نمر في حدود ( قلعة دزه ) ، دون أن يتوقف أزيز إطارات السيارة المتبوعة بسيارتين ، بلا أضواء ، وقرى نائمة طاردتنا في بعض أزقتها كلاب شرسة .

** الثالولة **

نامت متأخرة على خيبة أملها في العثور على أثر لإثنين وعشرين رجلا ، منهم ( زمن ) ( إبن العضباء ) و( ملا حمادي ) ، من وجبة ( مكيّسي الرؤوس ) ألأولى ، وإثنين وثلاثين رجلا من الوجبة الثانية من أبرزهم ( عبد الرزاق المجنون ) و ( دليو ) و ( فتاح الفال ) ، إلا أنها صحت في ساعة مبكرة من صباح يوم الجمعة على إطلاق نار و زغاريد فرح .

أطلق ألأكراد سراح الشبان الثلاثة الذين إختطفوهم مع سيارة ألإجرة ، التي أعيدت بدون آلة تسجيل ، وقدم (أخو عرنه ) الشاي مجانا للحضور المبكرين إحتفالا ومشاركة منه في هذه المناسبة السعيدة ، ولكنه لم يتخل عن عتابه العلني ( للبدراني ) الذي لم يطالب بتعويض عن جهاز التلفزيون الذي حطمه ( ذلك الشاب الكردي الغاضب ) .

طرق باب ( البدراني ) فتى أخبره أن ( كاشان ) تريد أن تراه ، ولم يلمح هذا نظرات ألإحتقار في عيني ( البدراني ) الذي قال له بنزق : ــ قل لها بأني مشغول !! . ثم أغلق الباب حانقا . وما كاد يسترخي على فراشه حتى سمع طرقات أخرى فلم ينهض ظنا منه ان الفتى قد عاد مرة ثانية .

إزدادت الطرقات حدة فنهض وقد جهز شتيمة كبيرة للفتى ، ولكنه فوجئ بأم واحد من المخطوفين وهي تبتسم له وتقدم إناء مغطى برغيفين من خبز التنور الساخن ، وهي تعاتبه برقة : ــ ماهذا النوم ؟! كنا نراك فجر كل يوم عندما كنت في بيت ( كاشان ) !! .

كتم ( البدراني ) إمتعاضه بينما إسترسلت العجوز : ــ شوف يابا !! إشترينا هذه النعمة من السوق . بالعافية عليك . تستأهل أكثر ولكن انت تدري !! العين بصيرة واليد قصيرة !! . أطلق ألأكراد سراح ولدنا والحمد لله !! ولن ننسى فضلك علينا عندما جئت معنا إلى ( دهوك ) وعطلناك عن شغلك يومها !! لا تتحسب للغداء !! . سنقيم وليمة غداء للناس ، وانت تاجهم عندما تشاركنا .

غسل وجهه بالماء البارد في الحوش حالما خرجت العجوز وتناول إفطاره بشهية لم يشعر بها منذ زمن بعيد ، وقرر أن يمضي الفترة حتى الغداء بقراءة واحد من كتبه القليلة التي إبتعد عنها في قراءات متقطعة فرضتها عليه ظروف عمله السابق مع ( كاشان )، التي ماعاد يطيق حتى سماع إسمها دون أن يعرف السبب أحد من اهالي ( الثالولة ) الذين كانوا يراقبون ما يجري بينهما بفضول مكتوم .

صب لنفسه قدحا من الشاي ، وأشعل سيكارة وهو يفكر بأي كتبه القليلة يقرأ ، ولكن احدا ما طرق الباب . فتحه فوجد عجوزا أخرى ، لم ترافقه إلى ( دهوك ) بحثا عن إبنها ، قالت له بخجل معروف عنها في ( الثالولة ) وهي تقدم له صرّة كبيرة بنية اللون : ــ يابا !! هذه حصتك من الذبيحة التي نذرناها لوجه الله يوم الفرج عن إبننا !! الله يوفقك !! الله يستر عليك !! .

ثم مضت .

وعندما فتح الصرة ، وجد فخذا نيئا لخروف ذبح قبل قليل ، مازال دمه دافئا ، ملفوفا بكيس من ( النايلون ) ، مع ثمانية أرغفة من الخبز وعلبتين من السيكائر الفاخرة المستوردة .

** العضباء **

: ــ لماذا نسيتنا يا إلهي ؟! .

تساءلت شاكية بحرقة .

ثم إستغفرت الله ، بعد أن أشعلت آخر ما لديها من خشب واوراق من أجل فطور متأخر تناولته مع إبنتيها ( كما يتناول المرء دواء لابد منه !! ) ، وهن يتذكرن ( زمن ) الذي لايعرفن ( ماذا أكل ألآن ؟! ) ، وهل مازال حيا بعد أم لا !! .

نذرت ( العضباء ) لوجه الله خبزا بإسم ( العباس أبو حزامين ) و ( شموعا لزكريا ) ، إذا وصلها خبر ، أي خبر ( أكيد ) عن ( وحيدها الذي يبكي إذا جاع ) ، وهي تنحدر مع عربتها الخشبية نحو مقهى ( أخو عرنه ) ، الذي أشاح بوجهه عنهن على فكرة سكنت ذاكرته مؤخرا كونهن ( فأل شر !! ) ، بملابسهن السوداء وعباءاتهن الكالحات ، ( حالما يراهن المرء تناله مشكلة !! ) .

وغطت ( عنود ) على فضولها لمشاهدة ( الدش ) بإقتراح على ( العضباء ) : ــ دعينا نسأل ( أخو عرنه ) عن أخبار ( العميان ) . فوافقت هذه بعد تردد لأنها كانت تظن أن الرجل ( فأل شؤم !! ) ، ينال من يراه مصيبة خاصة إذا إفتتح نهاره بمرأى طوله المفرط ونظراته الخبيثة نحو النساء بشكل خاص رغم أنه تجاوز الخمسين من عمره .

وبينما كان رأس ( عنود ) يتراخى مذهولا بنساء شبه عاريات على تلفزيون المقهى ، وصلت أربع سيارات توقفت عند الطرف ألآخر من ( قنطرة الحرية ) ونزل منها الشبان الثلاثة الذين إختطفهم ألأكراد فقطعت ( العضباء) حديثها مع ( أخو عرنه ) عن ( العميان ) و ( مكيّسي الرؤوس ) وهرولت نحو الشبان الثلاثة وهي تزغرد وتصيح : ــ سلامات !! سلامات !! .

يتبعها بعض الزبائن .

وأطلق أحدهم ، من أول أزقة ( الثالولة ) ، بضعة صليات رصاص فرحا بعودة المخطوفين ، بينما كان الكثير من النساء وألأطفال يتراكضون ( بالخبر السعيد ) نحو عوائل المخطوفين ، وقالت ( العضباء ) لإبنتيها بحماس : ــ فلنعد إلى البيت !! .

سألتها ( صمود ) مستغربة : ــ والحطب ؟! .

أجابت : ــ يفرجها الله !! سأشعل ثيابي بدلا من الحطب مقابل خبر عن ( زمن ) !! شوفي !! لاتكوني غشيمة !! ألأكراد أصدقاء ( العميان ) !! وربما سمع هؤلاء ــ وأشارت نحو الشبان المحاطين بمجموعة كبيرة من الناس ــ شيئا عن ( مكيّسي الرؤوس ) في ( دهوك ) !! .

إقترحت ( عنود ) على امها أن تذهب هي مع ( صمود ) إلى المدينة بحثا عن الحطب فولولت هذه رافضة ذهابهما ( وحدهما !! ) وهي تمد إصبع يدها السليمة في وجه ( عنود ) قائلة : ــ رعناء !! أنت رعناء دائما !! أموت ولا اترككما تذهبان وحدكما في مثل هذه ألأيام !! هل فهمت ؟! يا ألله !! خذي العربة وعودي قبل أن يلتصق بنا ( ألأحيمر) ــ وأشارت نحوه بطرف عينها ــ كما قرادة !! لا أدري ماذا يرى هذا الثور في نفسه !! .

** البدراني **

مع بزوغ أوائل أشعة الفجر ، كنا قد إجتزنا ( آخر قرية !! ) ، حسب ( بمو ) كما قال بصوت ناعس ، وإنحدرت قافلتنا عبر طريق ترابي حاد نحو غابة صغيرة تحاذي جدول ماء . كان صباحا قارص البرودة ولكننا تناولنا إفطارا أصر ركاب السيارات الثلاث أن يكون ( مشتركا ) بين جميع الهاربين ، تألف من كل ماحملوه من طعام ، بعد ان إستثنت ألأمهات شيئا منه للأطفال الذين قد يجوعون مبكرا مرة أخرى أثناء الطريق .

قدرت أن ذلك الفطور السخي سيكون ( ترفا ) قد لايتكرر في طرق هروبنا عبر ألأراضي ألأيرانية والتركية ، لأن ( بمو ) اعاد علينا توصياته بأن نتخلى عن كل ماهو غير ضروري ، طالبا منا أن ننال قسطا من النوم أثناء النهار ، ( سننام منذ ألآن وحتى نصل تركيا نهارا ، ثم نمشي ليلا عبر ألأراضي ألأيرانية ) .

وزود عائلتين بحبوب منومة طالبا منهما التأكد من إعطائها للأطفال قبيل حلول ظلام هذه الليلة ( لأننا سنمر في أماكن قريبة من معسكرات الجيش وشرطة الحدود ألأيرانية ، وهؤلاء يطلقون النار على أية حركة يرونها او يسمعونها بدون تردد !! ولا نريد أن نموت وتأكل جثثنا الحيوانات البرية !! ) .

لم أفلح في النوم كما طلب ( بمو ) . كنت أفكر بالطريق الذي سنسلكه ، وبالدولة ، ( أية دولة آمنة ) ، التي قد أصلها . تقلبت على ألأرض ، وبقيت أراقب الحشرات الصغيرة وهي تدب بحركات غير مفهومة قرب وجهي . توسدت حقيبتي الصغيرة الخفيفة ، وانصت لأصوات البرية الرتيبة بين جبلين عملاقين فصلاني عن آخر المدن التي تعج ( بالجواسيس والمتآمرين ) ، حتى فوجئت ( ببمو ) يوقظني من إغفاءة لا ادري كم طالت ، من اجل طعام غداء تأخر فصار عشاء .

كان علينا أن نستقل السيارات لمدة ساعتين أخريتين قبل أن نصل الحدود الدولية ، التي ظننا أننا تناولنا العشاء قربها ، لذا عادت إطارات السيارات ( تخربش ) الطرق الترابية الصعبة ، بحذر وبطء شديدين ، على إرتجاجات مزعجة مع أفول الشمس وبداية حلول الظلام الذي ما عدنا نكتم القلق منه .

قرات على وجه الرجل الكردي الوقور الذي يجاورني أسى واضحا ، وربما ذات ألأسف الذي كنت أشعر به ألآن ، وخمنت من ملابسه الثمينة وألأنيقة أنه كان يشغل موقعا هاما في هذه الدنيا ولكن سببا لا بد ان يكون قويا يدفعه للهروب مثلي نحو المجهول الذي نقترب منه ببطء وحذر .

قدمت له سيكارة على ( فرصة المرة ألأخيرة التي تسمح لنا بالتدخين ليلا ) التي منحها لنا ( بمو ) قبل أن نصل الحدود الدولية ، بينما كانت السيارة تنحدر بحدة ، دون أضواء ، نحو واد مظلم ، فاخذ السيكارة شاكرا بصوت خفيض ، في اللحظة التي شعرت فيها بأن السيارة قد إرتجت بعنف و ( طارت !! ) في الفضاء مع صوت إنفجار صمّ أذني !! .

** 3 **

** الثالولة **

جلس المدعوون ، ومنهم ( البدراني ) ، على فرش متقابلة يتبادلون الحديث مع الشاب الذي إختطفه ألأكراد ثم أطلقوا سراحه ، بينما كان رجل عجوز يوجه مجموعة من الشبان لصب طعام الوليمة في سبع صوان كبيرة وزعوها بإنتظام أمام المدعوين ، وقال الرجل العجوز بصوت عال : ــ حيّاكم الله !! شرّفتمونا !! كلوا طعامكم على بركة الله واحمدوه عن كل مكروه إذ لايحمد على مكروه سواه !! وعساه يحفظكم ويحفظ عوائلكم من كل مكروه !! تفضلوا !! تفضلوا !! .

ولكن صلية من ألإطلاقات النارية ، تلتها اخرى ، قاطعته فسكت قلقا ، وركض شاب من الحضور نحو مصدر إطلاق النار ، الذي قدروه قريبا جدا ، ولكن العجوز عاد يطمئن ضيوفه : ــ الذي يسقط من السماء لا بد أن تتلقاه ألأرض . كلوا !! . توكلوا على الله ، وكلوا !! .

فأقبلوا على الطعام مترددين حتى سمعوا بعض الزغاريد مع عودة فتى أخبرهم أن ( العميان ) أطلقوا سراح العم (دليو ) ، فأوعز العجوز صاحب الوليمة لشابين بالركض لدعوة ( دليو ) ، مع عائلته ، لتناول طعام الغداء وهو يكرر : ــ يا الساعة المباركة !! يا الساعة المباركة !! يا سبحان الله !! .

وعندما ظهر ( دليو ) ، مع ( ألأحيمر ) ، في باب الحوش رد الجميع تحياتهما دون ان ينهضوا عن طعامهم ، كالعادة ، وأفرد العجوز لهما ، مع الولدين الصغيرين و( البرشه ) ، التي مازالت تمسح دموعها ومخاطها ، صينية طعام كبيرة .

كانت دشداشة ( دليو ) ممزقة ، متسخة على بقع قاتمة اللون في أكثر من مكان ( كمن هاجمته مجموعة من الكلاب المسعورة !! ) ، كما علّق ساخرا أحد المدعوين من بعيد ، فأيد ( دليو ) الوصف ضاحكا وهو يلتهم لقمة كبيرة من الثريد ، إذ ردد : ــ وانجس !! وانجس !! .

عندما فرغوا من الطعام ، إحتضنوا ( دليو ) وقبلوه مهنئين بسلامته ، ومازحه احدهم : ــ هل بالوا عليك ؟! . فأجاب ( دليو ) ضاحكا وهو يدخن سيكارته بشراهة : ــ أي والله !! بال علي جندي أمريكي طويل ، وعاتبت حظي الذي لم يجلب جندي قصير بولته أقل من بولة ذلك الذي كان أنفه يطل علي بفتحتين كبيرتين تمنيت لو أغلقهما بالرصاص !! لا يصدقون أحدا . وأول ما يسألونك هل أنت عربي أم كردي . وثاني ألأسئلة هل أنت سني أم شيعي !! صاروا أصحاب البلد ونحن الغزاة .

: ــ وماذا قالوا لك عندما أطلقوا سراحك ؟! .

سأله أحد الحضور جادا .

أجاب دليو ضاحكا : ــ ( قبّلوا !! ) رأسي معتذرين ومنحوني رتبة جنرال مع ركلة قوية على مؤخرتي قذفتني خارج سيارة ( الهمر ) نحو الشارع المجاور لقصر ( الشيخ بعيو ) عند بداية ( قنطرة الحرية ) !! .

وتحسس مؤخرته قائلا : ــ مازالت توجعني !! كأنها رفسة بغل مرعوص !! .

** العضباء **

عندما عادت ، قبيل الظهر ، من بيوت المخطوفين وجدت ( صمود ) جالسة بين ( التانكر) و ( برج الضغط العالي ) ، فجلست إلى جوارها بوجه متيبس حزين وهمست يائسة : ــ قلت لك !! . من يصبّح بوجه ( أخو عرنه ) يفقد رحمة الله !! لم يسمعوا أي خبر عن ( مكيّسي الرؤوس ) في ( دهوك ) . أنظري إلى سعادة أمهات المخطوفين الثلاثة بعودة أبنائهن ، وأنظري في أي مرحاض هو حظي !! .

ثم بكت .

أمسكت ( صمود ) كف أمها السليمة بين كفيها ودلكتها بلطف وهي تتساءل بمرح من إعتاد شكاوى ( العضباء ) : ــ ما رأيك يا ( أم زمن ) في أن نطبخ فخذ خروف للغداء ، أو العشاء ، كما تحبين ؟! ؟.

إستاءت ( العضباء ) قائلة : ــ بعد مائة عام ؟! هل جننت ؟! .

أجابت ( صمود ) جادة : ــ لا والله يمّا !! لأننا ( صبّحنا !! ) بوجه ( أخو عرنه ) جلب لنا ( البدراني ) فخذ خروف تشتهين تناوله وهو نيئ !! .

أسرعت ( العضباء ) في دخول ( التانكر ) وراحت تتحسس اللحم الطري غير مبالية بالدم الذي لوث أصابعها ، ثم إلتفتت نحو ( صمود ) وقالت لها جادة : ــ هل تعرفين ؟! أتمنى لك رجلا مثله !! هو أكبر منك سنا . ولكن حظك في أعلى ( برج الضغط العالي ) إذا أرادك زوجة له !! مع هكذا رجال لن تندمي على عمرك . ولكن ؟! .

نظرت بإستياء نحو ( عنود ) النائمة وهي تهز رأسها على أفكار ما صحت منها حتى إنطلقت صليات رصاص من أبعد جهات ( الثالولة ) أعقبتها زغاريد فرح ، فهمست ( العضباء ) : ــ أحدهم عاد !! سأرى من هو !! .

قالت وهي تنهض بسرعة ، ثم قالت وهي تصل الباب مشيرة نحو فخذ الخروف : ــ أطبخيه ألآن !! .

سألت مجموعة من ألأطفال ( عمّن عاد توا ) فلم يعيروها بالا إذ كانوا منشغلين بلعبة ما في الزقاق ، فأطلقت شتيمة كبيرة بحق امهاتهم ، ثم أسرعت نحو دكان ( كاشان ) ، ولكنها فوجئت بهذه تكلم احدا ما في بهاتف نقال وهي تشير لها بأن ( أصبري !! ) أو ( أنتظري !! ) وربما ( أغلقي فمك !! ) ، لذا هزت ( العضباء ) كفها السليمة في وجه السماء لتتأكد انها لاتحلم وليست واهمة على مرأى ( هاتف نقال !! ) في يد ( كاشان ) وفي ( الثالولة !! ) ، ثم إنحدرت مسرعة نحو ( سيد فولاذ ) .

شعرت بالغيرة ( تخنقها !! ) من ( هذا الترف !! ) ، وربما من الفتوة العجيبة على وجه إمرأة بعمرها ، ( إن لم تكن أكبر منها !! ) ، ليست عضباء ولا إبن لها كيّس ألأمريكان رأسه وأخذوه إلى مكان مجهول ، يتشهاها الرجال لأكثر من سبب ، ولا تعاني ما اجل الوقود والطعام .

وعندما إصطدمت بها مجموعة من ألأطفال الراكضين ، تطوع احدهم وأخبرها بأن ( العميان ) قد اطلقوا سراح ( العم دليو ) فركضت نحو ( قنطرة الحرية ) .

** البدراني **

لا ادري كم امضيت من زمان في المستشفى الذي رقدت فيه . كنت أصحو على رطانات لا أفهم منها شيئا ، وأعود إلى نوم عميق تتخلله هلوسات وكوابيس وذكريات تختلط ببعضها ، تتقطع على آلام لاتحتمل في كل أنحاء جسدي ، ولكنني فهمت أنني مازلت حيا ، وانني بين ناس ليسوا عربا يعتنون بي ، وأن لغما قد إنفجر على السيارة التي كنت فيها مع ( بمو ) والهاربين ألآخرين .

تظاهرت بالخرس ، إذ ما كنت أجيد غير العربية وألأنكيزية ، ولا أعرف من يحيط بي ألآن ، ولكنني بعد ثلاثة أشهر تأكدت أنني في منطقة عراقية ، وان من حولي هم أكراد ، فشعرت با لإرتياح لنجاتي من الشرطة ألأيرانية والتركية التي كانت تسلم أمثالي لحرس الحدود العراقي .

كانت رجلي اليمنى ملفوفة بالجبس الثقيل من نهاية الفخذ حتى مفصل القدم ، وثمة ضمادات سميكة على ساقي اليسرى . أصبت بكسور مركبة في عظم الفخذ والساق ألأيمن كانت تسبب لي كل تلك ألآلام الرهيبة رغم جرعات الدواء المنومة .

وإنتبهت إلى أنني أرتدي ملابس غير الملابس التي كنت أرتديها ليلة الحادث فإرتعبت خوفا على ما تبقى من نقودي التي خبأتها في كمّ قميصي ألأزرق وبنطلوني الكحلي . بحثت عن ملابسي في جرارات المنضدة المجاورة لسريري ، ولكن الجرارات كلها كانت فارغة تماما من أية ملابس ولا أثر لحقيبتي الصغيرة .

بحثت عن أوراقي الشخصية في جيوب ثوب المستشفى فوجدتها فارغة هي ألأخرى . كانوا قد جلبوني إلى هذا المكان عاريا إلا من ملابسي الداخلية التي إستبدلوها بأخرى ، وكنت الناجي الوحيد من ركاب السيارة . كلهم قتلوا . ( بمو ) . ألأطفال . النساء ، والرجال ، حتى الرجل الكردي الوقور الذي أخذ السيكارة مني ( لتوه !! ) فلم يدخنها أبدا ، إذ مضى فجأة مع أحزانه التي لم أعرف سرها .

وعندما تمكنت من السير بضعة خطوات ، مستعينا بعكازة خشبية ، وضعني ممرض عجوز في سيارة حمل صغيرة رمتني بعد ساعتين ، كما قدّرت ، في ساحة ( مولوي ) في قلب مدينة ( السليمانية ) .

** الثالولة **

عندما غادر ( دليو ) وعائلته الوليمة ( ليغتسل من بول البغل ويغير ملابسه ) غادر ( البدراني ) الوليمة طالبا منه أن يأتي معه إلى ( بيته الجديد ) قبل ان يذهب إلى بيته ، فوافق ( دليو ) دون تردد وهو يغمز ( للبدراني ) متواطئا على دهشة من ( البيت الجديد !! ) : ــ خربت العشرة مع ألأحباب ؟! .

تساءل ، فاجاب ( البدراني ) بحيادية : ــ لكل شئ نهاية !! .

ثم دخل بيته مسرعا وعاد بعد قليل برزمة ملفوفة بأوراق جريدة قديمة وضعها في يد ( دليو ) قائلا بود : ــ أعدها لي عندما يتحسن الحال !! ستزورك ناس كثيرة وستحتاج هذه .

فتح ( دليو ) جانبا من اوراق الجريدة فوجد رزمة كبيرة من النقود . نظر ساكتا في وجه ( البدراني ) للحظات ، أغرورقت عيناه بالدموع خلالها ، قبل أن يحتضنه بقوة ثم يبكي .

مذ سكن ( دليو ) ( الثالولة ) ، عندما كان ( ألأحيمر ) بعمر سنتين ، لم يره أحد باكيا غير تلك المرة . إندهش ( ألأحيمر ) من أبيه وتساءل بصوت عال :ــ ( دليو ) يبكي ؟! أي والله يبكي !! .

: ــ لو أنك تفهم !! لو أنك تفهم !! .

كرر ( دليو ) بعد أن ضرب ( ألأحيمر ) على كتفه ، وهو يمضي في الزقاق مصحوبا بعائلته وبمجموعة كبيرة من ألأطفال الفضوليين والنساء ، ولكنه ذهل من عدد الرجال والنساء الذين كانوا ينتظرونه أمام بيته . كان يعرف بعضهم ولا يعرف أكثرهم ، ولكنهم جميعا إحتضنوه رغم رائحة البول ، التي ما زالت تنبعث من دشداشته الممزقة القذرة ، وهنأوه بالسلامة .

ثم إنهالت عليه ألأسئلة عن ( مكيّسي الرؤوس ) في آن واحد ، فإستهل إجاباته ( بالعضباء ) التي ( بشّرها ) بأنه رأى ( زمن ) ( بهاتين العينين !! ) وانه ( حي يرزق !! ) فزغردت هذه من بين نوبات بكائها ، وضاعت أسئلتها الجديدة في خضم أسئلة ألآخرين الذين حاصروا ( دليو ) من كل الجهات حتى تدخل رجل عجوز صائحا بصوت عال : ــ دعوا الرجل يستبدل ملابسه في ألأقل يا ناس !! .

إستحم على عجل في زاوية البيت البعيدة ، وخرج بدشداشة نظيفة ، وطمأن ( العضباء ) التي كانت تنتظره عند باب الحمام على انه سيأتي إلى بيتها بنفسه ليشرح لها مزيدا من التفاصيل ، ولكنها لم تغادر وظلت تنصت ( لدليو) وهو يجيب عن أسئلة ألآخرين الذين تكاثروا حتى ماعاد البيت يكفي للجميع .

** العضباء **

مع أن ( دليو ) أكد لها ، للمرة الخامسة أو السادسة ، أنه رأى ( زمن ) وهو يتناول الطعام ، ورآه يقف على رجليه ، إلا ان ( قلبها!! ) حدثها بانه يكتم أمورا أخرى لا يريد ان يتورط بالحديث عنها ، ربما شفقة عليها وعلى ذوي ( مكيّسي الرؤوس ) ، وربما خوفا من ( العميان ) الذين شاع أنهم قد ( إشتروا لهم آذانا !! ) من بين الناس يدفعون لهم بسخاء .

وعندما أيقنت ، بعد أكثر من ثلاث ساعات ، انها لن تسمع جديدا من ( دليو ) الذي راح يكرر ما رآه هناك ، أشارت ( للبرشه ) أن تتبعها وقالت لها عند باب الحوش هامسة : ــ يا اختي !! نذرت خبزا لوجه الله بشفاعة (العباس ) وشموعا بشفاعة ( زكريا ) إذا سمعت خبرا أكيدا عن ( زمن ) !! وليس لدي نقود . وانت تعرفين الحال . لم أستلم راتب المرحوم منذ تسعة أشهر .

إبتسمت ( البرشه ) وهي تجيب بسعادة : ــ أي والله عندي . ( البدراني )، جزاه الله ، أقرضنا . وسأعطيك مما يبقى حالما يعود ( ألأحيمر ) من ( سوق الغنم ) . ذهب ليشتري ذبيحة . نذر مقبول إن شاء الله ويوم فرج قريب !! .

وتمنت ( العضباء ) ، وهي في طريقها نحو دكان ( كاشان ) ، لو أن ( البدراني ) يخطب منها ( صمود ) أو (عنود ) ، وطلبت من ( كاشان ) أن تجهز لها كمية السمسم واللوز والكبابة والبيض والطحين من اجل خبز( العباس ) ، مع ست عشرة طاسة من ألألمنيوم الخفيف وست عشرة شمعة من أجل شموع ( زكريا ) ، على ان تدفع ثمنها ( هذا المساء !! ) .

: ــ ما هذا يا ( أم زمن ) ؟! عيّدنا ؟! .

تساءلت ( صمود ) مندهشة وهي تشير نحو ألأكياس الكثيرة التي جلبتها ( العضباء ) ، أجابت هذه وهي تتذوق مرق اللحم المسلوق لتتأكد من جودته : ــ نعم . نصف عيد . رأى ( دليو ) ( زمن ) وهو حي يرزق !! شوفي !! أغسلي وجهك بالصابون . ضعي شيئا من الكحل على عينيك . وخذي هذا الطعام ( للبدراني ) !! .

إبتسمت ( صمود ) لفكرة الكحل الذي توقفت عنه مذ ماتت إبنتها ، مع انها لم تكن معجبة بما يدور في ذهن (العضباء ) ، ولكنها طلبت من ( عنود ) ان ترافقها ( لأن الليل قد حل !! ) .

** زمن **

: ــ ( ستاند أب ) !! .

جاءته الرطانة مفاجئة ، من عالم آخر . ولكنه ظل راقدا في مكانه كأنها لاتعنيه . إمتدت يد دافئة نحو إبطه وأعانته على النهوض على قدم واحدة . كان قد كف عن البكاء ، منذ زمن بعيد ، غارقا في شعوره الثقيل بالعار مما فعله مذ وصل هذا المكان .و فتح احدهم القيد عن معصميه ، ورفع الكيس المتسخ عن رأسه .

ظل مغمضا ، حتى إعتادت عيناه ضياء الشمس ، ورأى في القاعة بقية رجال ( الثالولة ) ، مازالت ( مكيّسة الرؤوس ) ، وثمة جنود أمريكان في كل الجهات مع أسلحتهم . أشار له الجندي الذي فك قيده نحو باب القاعة البعيد ، فشعر بالسعادة على ظنه انهم أفرجوا عنه .

قفز مسرعا على قدم واحدة دون أن يبالي بالألم الذي ضج ّ في كل جسده ، وعندما وصل منتصف القاعة أشار له جندي آخر ( بإحتقار !! ) نحو باب آخر مع رطانة بالتوجه إلى هناك . أشار له الجندي الذي رافقه نحو الحمام ، ومثّل عملية إستحمام مع رطانة فهم ( زمن ) منها أن هذا يريد له أن يستحم .

تعرى ، مترددا أمام الجندي الذي كان يراقبه من باب الحمام المفتوح . تلمس الماء . شرب منه على عجل حفنتين عن عطش . ثم راح يستحم جالسا على ألأرض الباردة . ومع أن رائحة الصابون انعشته ، إلا انه ظل قلقا من التصرفات الجنونية للجنود ألأمريكان .

إرتدى دشداشة متروكة في الحمام بدلا من دشداشته القذرة الممزقة الملوثة بالغائط ، وخرج من الحمام ، ولكن جنديا آخر قيد يديه ووضع كيسا نظيفا على رأسه ، فتلاشى أمله بالحرية وهو يعود إلى القاعة . أجلسوه في المكان الذي كان فيه .

وفطن وهو يجلس على ألأرض الرطبة التي غسلوها بالماء ، كما يبدو منذ قليل ، إلى أن عدد من رآهم من (مكيّسي الرؤوس ) كان أكبر من العدد من رآهم من الوجبة ألأولى ، التي جاء معها ، ولكن شعوره بالعار من ألإعتراف على رفاقه في خندق ( الثالولة ) عاد يلهب أفكاره عن نفسه وعن ألآخرين الذين رافقهم هناك .

** الثالولة **

منذ الفجر طوق ألأمريكان حي ( الموصل الجديدة ) . شاعت أخبار تفيد أن ( عدي ) و ( قصي ) ، مع مرافقين ( لصدام حسين ) يختبؤون في بيت ( نواف الزيدان ) الذي راحت المروحيات تحوم حوله كما خلية نحل تدور حول نفسها وحول ألأحياء المجاورة ، وسرعان ما إندلعت صليات الرصاص ممّن في البيت وممّن يطوقهم من الجنود ألأمريكان .

طالت فترة تبادل إطلاق النار بشكل غير متوقع ، فنفث زبون عجوز ، في مقهى ( أخو عرنه ) ، دخان تبغه الرخيص وهو يهز رأسه وواحدا من كفيه ثم قال بصوت عال موجها كلامه للا أحد : ــ قبضوا على ( عبد الرزاق المجنون ) مجانا !! ربما ظنوه محافظنا القديم !! وسيقبضون على ( المطلوبين الخمسين ) من ( الرؤوس الكبيرة ) ، ولكن بعد دفع الثمن !! ( الملايين تخرّب السلاطين ) !! وأسفنجة العراق ستشرب أموالهم وأموالنا ولن ترتوي . أسفنجة العراق . العراق ألأسفنجة !! هذا العراق !! .

ثم إستدار نحو ( أخو عرنه )، الذي كان يغسل بعض أقداح الشاي ، وقال له بصوت حزين منكسر : ــ انا أكره السياسة والسياسيين !! .

قال هذا ضاحكا : ــ يا عمّي !! أنت أكبر سياسي في ( الثالولة ) !! يوميا أسمع خطاباتك وأفكر بتسليمك للأمريكان إذا أعطوني مائة دولار !! .

ضحك العجوزبطلاقة ، واضعا كفه على فمه ، كي لايسقط طاقم أسنانه كما حصل ذات مرة ، وسعل بحدة قبل أن يقول : ــ لن يدفعوا لك فلسا واحدا بي !! يلعبون القمار مع غيري ألآن !! صورتي ليست في اللعب بعد !! إسمع !! إسمع طائراتهم تقصف !! .

صب ( أخو عرنه ) قدحين من الشاي ، وضع واحدا منهما أمام العجوز ، وراح يشرب من ألآخر . تساءل العجوز وهو يضحك ساخرا : ــ من هو رئيس الجمهورية لهذا الشهر ؟! .

: ــ واحد من جحاش ( بريمر ) !! لا أعرف إسمه ولم أسمع به من قبل !! وإذا إستمر الحال كما هو عليه ألان ، فسيصلني الدور وأصير رئيس جمهورية !! .

قال ( أخو عرنه ) ضاحكا .

ضحك العجوز وهو يتساءل : ــ وهل ترضى بمنصب جحش عند ( بريمر ) ؟! .

: ــ لم لا ؟! يا عمّي !! أينما نظرت في عالمنا العربي ترى الحمير محمّلة بالذهب وتأكل الشوك !! سأكون ذكيا وأهرب بحملي كما يفعل صناع الديمقراطية الذين جاءوا مع ألأمريكان !!.

أجاب ( أخو عرنه ) ثم أطلق شتيمة غاية في البذاءة .

وسكت عندما حوّمت فوق ( الثالولة ) مروحيتان ، ووصلت مجموعة من الشبان قادمة من ( حي الزنجيلي) فسألهم العجوز وهو يشير نحو المروحيات في الفضاء : ــ ها ؟! آخر أخبار اللعبة ؟! .

أجاب واحد منهم : ــ ذهبنا إلى الشغل ولكن الطرق كلها مقطوعة !! معركة حامية في بيت ( نواف الزيدان ) !! دمر ( العميان ) البيت على من فيه !! الجائزة ثلاثون مليون دولار !! ( عدي ) و( قصي )يقاتلان هناك !! صب لي شاي ، وسجله بذمّتي في دفتر الديون !! .

** كاشان **

أيقظت ( إخلاص ) منذ الفجر وأخبرتها بان تستعد للذهاب إلى ( شغلها الجديد ) ، فراحت هذه تنتقل بخطى شبه راقصة على سعادتها بالخروج من رائحة ( مزبلة الشيطان ) إلى عالم آخر ، رائحته طيبة ، نظيف ، معافى بالطعام ونعمة الكهرباء والنقود الكثيرة .

وضعت ( كاشان ) علبة من ألأصباغ على سريرها وهي تهمس للفتاة : ــ يجب أن تظهري بأبهى صورة !! .

فإستسلمت هذه ليدي ( عمّتها ) اللتين كانتا تضعان ألأصباغ على وجهها بعناية . وعندما نظرت أخيرا في المرآة ، وشاهدت ( وجهها الجديد ) ، شهقت دهشة وقالت ( لكاشان ) : ــ كأني عروس !! .

إضطربت ( كاشان ) للحظات ، ولكنها تشاغلت بقنينة عطر ثمين رشت منه على عنق الفتاة ، وبين نهديها ، وهذه تتأوه من برودة العطر ، ولكنها فوجئت ( بكاشان ) ترش ّ العطر بين فخذيها فتجمّدت في مكانها ، إذ ماكانت تظن أن النساء يعطرن أفخاذهن أيضا !! .

شعرت ( كاشان ) بشئ من الفخر بنفسها عندما سمعت صرخات ألإعجاب الخافتة تنطلق من غرفة البنات التي دخلتها ( إخلاص ) بوجه ( جديد ) ، ودخلت الدكان ، غير مبالية باصوات نيران معركة ما في حي قريب تشخر حوله المروحيات ألأمريكية . فتحت باب الدكان الخارجي فدخل ضوء الصباح .

وإنتبهت للمرة ألأولى منذ سنين ، كم هي قذرة اللوحة التي كتبت عليها بخط ردئ ( قابلة مأذونة ) ورفوف دكانها المبرقشة ببراز الذباب والغبار وآثار ألأيادي الدبقة ، وكم هي فقيرة صناديق الخضار العتيقة المهترئة . بدا كل شئ في الدكان ( تافها !! ) ، غاية في ( الفقر !! ) ، قياسا إلى صفقات هذه ألأيام التي سمعت بعض تفاصيلها من ( كاكا صالح ) و( المخضرم ) ، ومرة أخرى شعرت بأن ( الزمن يخونها دون ان تفطن !! ) ، كما هم الرجال الذين جبلوا على خيانة النساء ، كما فعل ( البدراني ) معها مؤخرا عندما إستأجر غرفة في بيت آخر .

صممت على تغير كل شئ بالتعاون مع ( الناس ألأذكياء ) ، الذين يتعاملون بالصفقات الكبيرة فقط ، وأشعلت سيكارتها الثالثة عندما طيّر لها ( المخضرم ) إبتسامة من فمه العريض وهو يغمز لها متواطئا : ــ جئت لأخذ (الذهب الخام ) !! .

فركت ( كاشان ) أصابعها ، في إشارة لعد ّ النقود ، فمد هذا يده في جيبه وأعطاها خمس ورقات خضر من فئة المائة دولار ، تأكدت على ضوء الشمس أنها ليست مزورة قبل أن تنادي بصوت عال : ــ ( ليلى ) !! ( ليلى ) !! ( لّلاوي ) ؟! .

فجاءت الفتاة راكضة .

** زمن **

تداخلت ألأيام في ذاكرته ، على رتابة أحداثها . ( مكيّسو رؤوس ) جددا كانت السيارات ألأمريكية تقذفهم ، يجلسون كالعادة متباعدين عن بعضهم حتى تقضم غرف التحقيق بعضهم فلا يعودون إلى القاعة قط ، و( مكيّسو رؤوس ) قدامى خصصت لهم الزاويتان القريبتان من المرحاض ، مسكونين بهاجس ( التسفير ) إلى معتقلات أخرى يقال أنها أشد قسوة من هذا .

نال بطانية من مخلفات الجيش العراقي القديم ، كما ألآخرين ، وما عاد أحد يستدعيه للتحقيق. وكادت ألآلام تزول عن أصابع كفيه ، ولكن ركبته كانت تضج بالألم خاصة في الليل ، كانها ( تعاقبه !! ) عن ( عارات !! ) إرتكبها مجبرا ، تجترها ذاكرته يوميا وهو يفكر بمن تم ( تسفيره ) إلى سجون أخرى من ( مكيّسي الرؤوس ) من اهل ( الثالولة ) الذين إعترف أنهم كانوا معه في الخندق فتم تصنيفهم ( خطرين !! ) .

يوميا كان يرى الجندي ألأمريكي ( ميّت البشرة ) ، ويوميا كان يتحاشى النظرة ( الميّتة ) في عينيه الحائرتين بين الزرقة وألإخضرار . كان يصوب بندقيته وإصبعه على الزناد ، مستعدا لإطلاق النار نحوه ، مع أن ( زمن ) يكاد يمشي على قدم واحدة ، أعزل من أي سلاح ، ( مكيّس الرأس ) في أغلب ألأوقات .

نجح ( مكيّسو الرؤوس ) القدامى في تبادل معلومات برقية عن بعضهم ، آملين أن يفرج عن احدهم ليخبر ذويهم انهم ما زالوا ( أحياء ) في هذا المكان الذي ظل مجهولا حتى قال معتقل جديد أنه ( مطار الموصل ) ، وانه يعرفه (كما يعرف أصابع يديه !! ) لأنه يعمل فيه ( مراقبا جويا ) قبل ألإحتلال ، وأخبرهم ان سر ألإنفجارات التي يسمعونها بين فترة واخرى هو أن المقاومة تقصف بالهاونات والقاذفات مواقع الجنود ألأمريكان و( البيش مركة ) ، فلم ينم ( زمن ) في تلك الليلة ، وهو يفكر بأنه ليس بعيدا عن ( الثالولة )التي لايعرف ما جرى لأهله فيها بعد القبض عليه .

أحصى ثلاثة وعشرين إنفجارا حتى أوائل آذانات الفجر التي إنطلقت من مآذن المدينة ، وراح يحلم ببندقية أو قاذفة ولثام ، كما المقاومة ، ويتخيل نفسه في أوضاع قتالية شتى يواجه فيها ( ميّت البشرة ) الذي إفترض فيه من كسر ركبته وحطم أصابع كفيه ، وفكر بتعذيبه على ذات الطرق التي عذبوه بها ( ليعلمهم ) معنى ألألم وألإهانة التي تلحق بإنسان .

وعلم ( زمن ) من ( مكيّسي الرؤوس ) الجدد أن الحاكم ألأمريكي قد قسم العراقيين إلى اكراد وشيعة وسنة ، وان كل طرف سينال ( حصة ) من العراق ، فذهل من نفسه لأنه لم يعرف ( فرقا ) يجعل الشيعة منعزلين عن السنة ، من قبل ، ولا فرقا في المواطنة بين عربي وكردي ، ولكنه أيقن أن هذا الحاكم يريد أن يدمر العراق .

** الثالولة **

على التوالي بدأ ذووا ( مكيّسي الرؤوس ) يعودون من اماكن مختلفة من المدينة ، دون أن يحصل أي منهم على أي خبر يدل على المكان الذي هم فيه ألآن ، عدا ما ذكره ( دليو ) عن ( إحتمالات ) لم تتاكد ، ولكن زوارا جددا مازالوا يأتون إليه لسماعها منه عن ( مكيّسي رؤوس ) جددا أخذتهم القوات ألأمريكية من اماكن أخرى من المدينة ، فراح يمضي معظم وقته في مقهى ( أخو عرنه ) بدلا من البيت .

تلقائيا ، وبعد ان عبرت ( العضباء ) و( صمود ) ( قنطرة الحرية ) ، توجهت نحو المقهى حيث يجلس ( دليو ) مع مجموعة الرجال في أوج تحمّسه للعبة ( الدومنة ) ، وتلقائيا سألها هذا بذات السؤال الذي كرره كثيرا دون جدوى : ــ ها ( أم زمن ) ؟! بشرّي !! .

: ــ فص ملح وذاب !! .

أجابت ( العضباء ) يائسة ، ولكنها سألته ، كما إعتادت هي ألأخرى مذ أطلق ألأمريكان سراحه : ــ ألم تتذكر أين كان ذلك المكان ؟!.

: ــ لا والله !!

قال ثم صرخ فرحا وهو يرمي على المائدة قطعة ( دومنة ) : ــ شش بيش !! .

فإنصرفت ( العضباء ) عائدة نحو ( صمود ) التي كانت تنتظرها عند ( سيد فولاذ ) ، وهي تلوم نفسها لأنها لم تف بالنذر كاملا ، بعد أن وزعت ( خبز العباس ) على جيرانها ولكنها لم تشعل ( شموع زكريا ) وتعوّمها على مياه (دجلة ) .

وكانت تهم بقول ما ( لصمود ) التي كانت تنتظر متبرمة من إلحاحها ، ولكنها صرخت : ــ تأ !! .

وأشارت نحو سيارات أمريكية توقفت توّا على الجهة ألأخرى من ( وادي الحرامية ) ، مصوبة رشاشاتها نحو كل ألإتجاهات ، ونزل من واحدة منها شخص يرتدي الدشداشة إستقطب ظهوره هناك أنظار الجميع .

ركض ألأطفال نحوه ، ثم عاد بعضهم راكضين ، وهم يصرخون بفرح : ــ ( عبّو المجنون !! عبّو المجنون !! ).

فركضت ( العضباء ) نحوه ، ولكنها لم تجد في عينيه الذابلتين الزائغتين أي معنى يفيد بانه يعرف أين كان هو ، وفي أي مكان هو ( زمن ) ، لذاهمست لنفسها يائسة ( لا إله ألإ الله !! ) ، وكررت الكلمات بينما أحاطت مجموعة كبيرة من الرجال والنساء ( عبد الرزاق المجنون ) وراحت تتفحص جسده المبقع بكدمات تركتها ضربات قاسية .

وبكى هذا عندما رأى أمه تركض نحوه ثم فاجأ الجميع بأن صرخ : ــ بوش بوش إسمع زين !! كلنا نحب صدام حسين !! .

فراح ألأطفال يهتفون ببراءة معه .

بكت أمه وضحك بعض الحضور .

** كاشان **

قبل أن تركب ( إخلاص ) سيارة ( المخضرم ) سألت ( كاشان ) ببراءة وقد إرتسم خوف صريح في عينيها المصبوغتين بعناية: ــ ألا تأتين معي يا عمّتي ولو لهذه المرة فقط !!؟؟ .

ولكن ( كاشان ) تشاغلت بتوصيتها مرة أخرى أن تكون ( مطيعة !! وألآ تخاف !! ) وهي تشعر بالغضب الشديد من إبتسامة ( المخضرم ) الساخرة التي كان يرميها نحو الفتاةالمضطربة .

وعندما ألقت ( إخلاص ) عليها نظرة خائفة ، مستغيثة ، من نافذة السيارة وهي تخرج من الحوش ، شعرت (كاشان ) بما يشبه لسعة في جسدها فأشاحت بوجهها عن الفتاة التي تخرج للمرة ألأولى في حياتها مع ( رجل غريب !! ) ، وعادت لتجلس في الدكان ، ثم أشعلت سيكارة وهي تتنهد بإرتياح .

ثمة إنفجارات بعيدة ، ذكرتها بالحرب التي توقفت قبل أشهر ، وثمة مروحيات أمريكية ( تشخر ) في فضاء (الثالولة ) القريب ، وثمة ذلك العبث الطفولي المزعج من البنات الثلاث العاطلات عن العمل في الغرفة الخاصة بهن ، والذي كان يأتيها من داخل البيت ( بلا معنى !! ) ، و ( بلا هدف !! ) ، غير تمضية الوقت بطريقة أخرى ماعادت ( كاشان ) تستسيغها .

كانت قد أفرغت الدكان من محتوياته القذرة الهزيلة منذ مساء أمس ، خاصة تلك البضاعات التي ( كانت ممنوعة !!) في عهد الحكومة القديمة ، و( كانت غالية الثمن!! ) ، ولكنها فقدت الكثير من ثمنها أمام ممنوعات توفرت في الشوارع ، بعد إنفلات الحدود الدولية ، فصارت ( قديمة !! ) هي ألأخرى ، لا تساوي جهد المساومة عليها مع من كان يحتاجها في العهد القديم .

وقفت عجوز أمام باب الدكان الفارغ مندهشة للحظات ، وترددت قبل أن تسأل عن بعض الخضار ، فأجابت ( كاشان ) وهو تشير بذراعيها نحو فراغ الدكان : ــ عزّلت !! كما ترين !! سأغلق الدكان !! .

: ــ حقك !! لا تستطيع إمرأة وحدها أن تدير دكانا بلا رجل يعينها !! .

قالت العجوز ببراءة ، وعندما لمحت إستياء واضحا على وجه ( كاشان ) من هذا التلميح المبطّن إلى غياب (البدراني ) ، حولت مجرى الحديث وهي تشير نحو المروحيات ألأمريكية التي كانت تمر من فوق ( الثالولة ) قائلة : ــ يقولون أنهم قتلوا ( عدي ) و ( قصي ) في بيت ( نواف الزيدان ) ، ونال المخبر مبلغا كبيرا من المال من ( العميان ) !! .

وتوقفت شابة للحظات قرأت خلالها خلو الدكان من أي شئ ثم مضت دون أن تنطق بكلمة واحدة ، بينما واصلت العجوز كلامها رغم القرف الذي قرأته على وجه ( كاشان ): ــ كم تعادل الدولارات التي قبضوها ؟! .

فقالت هذه غاضبة و بسرعة : ــ راتب المعلم ست دولارات شهريا . كيلو اللحم بدولارين . ثلاثون بيضة بدولار واحد ، والمخبر قبض ثلاثين مليون دولار !! ماذا تريدين بعد ؟! .

: ــ يمّا !! لاشئ !! لاشئ !! .

قالت العجوز بإستسلام ثم مضت ببطء .

** زمن **

عندما إكتشف أحد الجنود ألأمريكان أن ( مكيّسي الرؤوس ) يتبادلون الهامسة المتواطئة على قصع الطعام غضب وراطن آخر ، وتكلم هذا عبر جهاز لاسلكي ، ثم راطن الجنود الذين كانوا في القاعة فإنطلقت صيحات : ــ ستوب !! ستوب !! .

جعلت الكثيرين من المعتقلين يختلسون لقما سريعة من الطعام على يقينهم بأن أمرا سيحصل .

رفس أحد الجنود القصعة القريبة منه فتناثر الطعام على وجوه الرجال الذين كانوا حولها ، وداس بحذائه على نثار الطعام ليركل أقرب ( مكيّسي الرؤوس ) إليه ، بينما كان هؤلاء يعودون بسرعة إلى ألأماكن التي خصصت لهم ، وثمة مجموعة كبيرة من الجنود تقتحم القاعة مسرعة وهي تصوب بنادقها نحو الجميع يصاحبها المترجم العراقي .

أمر المترجم الجميع الجميع بنزع ملابسهم ، فتعرّوا ووقفوا في أربعة صفوف ، ثم جاء ألأمر الثاني بالبروك ، فبركوا على ألأرض ( الكونكريتية ) حتى جاءهم ألأمر الثالث : إزحف على الركب !! .

عزل الجنود الغاضبون ثلاثة ( متحايلين !! ) على ألأوامر ، نالوا ضربا مبرحا بأعقاب البنادق والركلات من قبل مجموعة أخرى من الجنود حتى أغمي على واحد من المعتقلين .

كان ( زمن ) يستعين بركبته اليسرى ، واضعا كل ثقله عليها ، وهو يشعر بجلدة ركبته تنسلخ عنها مثيرة ألما لايطاق في جسده كله ، وهو يبتهل لله معجزة تنقذه من هذا العذاب ، مقسما في سره على قتل المترجمين العراقيين قبل الجنود ألأمريكان ، لأنه رأى المترجم العراقي يضحك بطلاقة كلما ضحك الضابط الذي يرافقه ، وكأنه رجل لا علاقة له بالرجال الذين كانوا يتوسّلون به للكف عن هذه العقوبة الجماعية .

بعد منتصف الليل ، كان معظم ( مكيّسي الرؤوس ) قد عوقبوا ( كمحتالين !! ) على ألأوامر ، وكان ( الكونكريت ) قد ( أكل ) جلودهم عن ركبهم وأكواعهم المدماة ، وكان ( زمن ) قد تهاوى على ألأرض بعد اللكمة الثانية التي نالها من جندي أمريكي غاضب يراه للمرة ألأولى ، ولم ينهض رغم الركلة الجنونية الثالثة التي تلقاها ، وعندما صحا فجرا على آلامه تكور على نفسه وبكى بصمت .

وفجأة أمرهم المترجم الذي دخل لتوه بالتعري من جديد ، بينما كانت آذانات الفجر تنطلق في فضاء المدينة .

** الثالولة **

عادت ( العضباء ) من بيت ( عبدالرزاق المجنون ) بعد العشاء ، واعلنت لبنتيها أنها لم تفهم منه شيئا عن ( زمن ) ، و( لم يتركنا نفهم أين يعتقلون الناس !! ) ، قالت لأبنتيها حزينة : ــ عذبوه !! أرتني أمه الكدمات التي إضمحل أثر القديم منها ، ومازال الجديد أزرق !! يجفل خائفا ويصرخ بعض المرات كما النساء !! ماذا يفعلون بمجنون ؟!.

ومسحت دموعها وهي تؤكد لبنتيها أن ( العميان ) يضربون ( زمن ) .

: ــ أنا أعرف دون أن يخبرني أحد !! .

قالت لهما بثقة ، ثم إسترسلت : ــ كلما شعرت بدبيب نمل ، بلا نمل ، على ثدييّ أعرف أن ( زمن ) جائع أو يبكي عن وجع !! أنا أعرف !! لم أف بعد ( بشموع زكريا ) !! ليس بخلا على ولدي والله يدري . هاهي الشموع !! وهاهي الطاسات !! وهذا البخور !! ولكن لا وقت عندي يا ربي !! وأخاف أن أذهب في الليل إلى هناك !! التجول ممنوع !! و( العميان ) يطلقون النار على كل شئ !! .

وسكتت ريثما مرت مروحيتان من فوق ( الثالولة ) ثم إلتفتت لتتحدث من جديد لبنتيها ولكنها وجدتهما نائمتين ، لذا سحبت بطانيتها لتنام على قرارها أن تصحو مبكرة للذهاب إلى مقام ( سيدنا الخضر ) على ضفة ( دجلة ) كي تشعل الشموع هناك ، ولكنها شعرت بعضلات جسدها تنكمش فجأة عندما سمعت حركة أقدام متلصّصة بين ( التانكر ) و( برج الضغط العالي ) .

إرتجفت مرعوبة وهي تفكر بأن ( كبسة ) أمريكية تحصل ألآن ، وفضلت ألا توقظ إبنتيها ، دون أن تفارق نظراتها الباب الذي توقعت أن ينفتح في أية لحظة على رفسة جندي أمريكي ، ولكن السكون طال ، ولم يقطعه غير صوت إنفجار بعيد ومواء قطة سائبة لاحقها كلب في الزقاق القريب .

كانت على يقين أن شخصا ما تلصّص حتى باب ( التانكر ) ثم غاب ، ولأنها كانت واثقة أن مامن لص يفكر بالسطو على بيتها ( الفارغ إلا ّ من رحمة الله !! ) ، فقد إزدادت رعبا من ( هذا المجهول ) وجفاها النوم . ظلت نظراتها عالقة بالباب ، وظلت أذناها تنصتان لكل حركة قريبة حتى إكتشفت وجود فأرة في البيت ، خربشت شيئا ما ثم سكنت عندما إستدرات ( العضباء ) نحوها قلقة على ما تبقى لديها من طحين وعدس في الزاوية البعيدة .

قبيل الفجر ، نهضت ووقفت إلى جوار الباب . ألصقت أذنها بالصفيح البارد طويلا ، وعندما لم تسمع أية حركة في الخارج ، تجرأت بعد أن سمعت حديثا خافتا بين رجلين مرا في الزقاق وخرجت نحو الفسحة بين ( التانكر ) و( برج الضغط العالي ) ، ولكنها لم تر ما يثير ألإرتياب ، ففكرت أنها ربما نالت شيئا من جنون ( عبد الرزاق ) الذي أنصتت له طويلا ليلة أمس!! .

إستدارت لتدخل ( التانكر ) ففوجئت بكيس مركون لصق الجدار ، قرب الباب ، لم تره من شدة قلقها عندما خرجت . ذعرت . تقدمت ببطء ، تلمسته بيدها السليمة . وعجزت عن معرفة ما فيه . أيقظت الفتاتين مذعورة . ترددت ( صمود ) من ألإقتراب من الكيس ، ولكن ( عنود ) قلبته بسرعة فإندلقت منه مجموعة من ألأكياس الصغيرة حوت طحينا وبصلا وطماطة وثوما وعدسا وملح طعام وزيتا ورزمة صغيرة من النقود .

** كاشان **

إستيقظت من قيلولتها على قرقعة حاكية الجامع إستعدادا لآذان صلاة المغرب مع دوي إنفجار ضخم ، قدرت أنه حصل من جهة ( حي المأمون ) المحاذي ( لشارع بغداد ) . أشعلت الفانوس ، ومن هدوء الغرفة المجاورة لغرفتها فهمت أن البنات مازلن غارقات في قيلولتهن .

همست ساخرة من عطالتهن عن العمل في ( وادي الحرامية ) : ــ أكل ونوم !! .

ثم نادت كبراهن فجاءت هذه بعينين ناعستين ذابلتين . أعطتها كمية من الرز والبطاطا والبصل وأمرتها بإعداد العشاء ، بعد أن أشارت لها إلى مواقع الفلفل والملح ومعجون الطماطة ، ثم همست دون أن تنظر في عيني الفتاة : ــ ( إخلاص ) قد تتأخر . لاتقلقن . هذا يومها ألأول ولديها شغل كثير .

هزت الفتاة رأسها ( متفهمة ) ما سمعته بلا مبالاة ، لذا إسترسلت ( كاشان ) بذات النبرة الهادئة : ــ عندي تصفية حسابات قديمة مع ( المخضرم ) . سيأتي بعد قليل . وإذا طرق أحد باب الدكان ، قولي أنني مشغولة وقد أغلقنا الدكان !! إذا سألت إحداهن عن توليد قولي أني تركت هذه المهنة !! . وتجاهلت نظرة ألإرتياب في عيني الفتاة عندما دخلت لتستحم ، ولكنها شعرت بالمفاجأة على إفتراضها أنهن غافلات عمّا يجري في البيت .

عندما رشت عطرها الثمين على جسدها ، بعد أن إستحمت ، رأت في عيني الفتاة ، التي أوشكت على ألإنتهاء من إعداد العشاء ، ذات النظرة المرتابة من لقائها الليلي ( بالمخضرم ) الذي إستدعى كل هذه ألإستعدادات على غير المألوف ، ولكنها تجاهلتها مرة أخرى دون أن تنسى أن هذه قد ( كبرت !! ) وصارت ( تفهم !! ) سر إنتظار إمرأة لرجل ليلا .

هدأت آذانات العشاء ، ومرت مروحيتان ، ودوى كثير من الإنفجارات على مسافات مختلفة ، قبل أن تسمع صوت محرك سيارة ( المخضرم ) وهي تدخل حوش ( البيت ألآخر ) . أغلقت باب غرفتها بالمفتاح ، وخرجت إليه . كان الليل قد حل ، و( المخضرم ) يضع ما جلبه من أكياس تفوح منها رائحة المشويات على مقدمة السيارة وهو يقول لها ضاحكا : ــ مساء ( الذهب الخام ) !! .

جارته في التلاعب بالمفردات ذات المغزى ، واجابت وهي تدفع صدرها إلى أمام مع إبتسامة واعدة : ــ مساء الكباب الساخن !! .

وحملت ألأكياس نحو غرفة ( البدراني ) القديمة ، التي نظفتها ووضعت فيها سريرا آخر ومنضدة خشبية صغيرة مستعملة ، ولكنها تبدو جديدة وقوية . طلبت منه قداحة لتشعل الفانوس في الغرفة ، فقبض على كفها الممدودة نحوه ، ثم سحبها وإحتضنها بعنف وهياج . لم تقاوم قبلاته المحمومة . تأوهت لتزيدها إلتهابا ، ثم راحت تبادله القبل ، وعندما حاول أن يرميها على السرير إبتعدت عنه ، وهي تلهث ، ثم صدته ثانية عنها ، فتساءل مستغربا : ــ ما بك ؟! .

: ــ تذكرت أمرا لايجعلني .. !! أمرا ..!! .

أجابت وهي تفرك كفيها ببعضهما ، فعاد يتساءل : ــ وهل أستطيع أن أساعدك ؟! هل يمكن ..!؟ .

إنحدرت الدموع من عينيها وهي تجيب خافضة رأسها نحو ألأرض : ــ نعم !! تستطيع !! .. إنه رجل . تعرفه انت !! ولكن حياتي نكد إذا .. ظل حيا !! .. هل فهمتني ؟! لا أستطيع إلا أن أفكر به لأنني .. !! .

: ــ رجل !؟ رجل واحد ؟! قولي عشرة . قولي عشرين . ولا تهتمي !! أسهل من شربة ماء أن يذهب إلى جهنم في هذه ألأيام !! أعتبري كأن الله لم يخلقه بعد !! لن يكلف أكثر من عشرة دولارات !! من هو ؟!.

سألها واثقا من نفسه وهو يحتضنها .

أجابت وهي تقبل جوزة عنقه : ــ هل تقسم على ماتقول ؟! .

: ــ أقسم بما تشائين !! من هو ؟!.

: ــ ( البدراني ) .

: ــ صار سلاطة لاتصلح لغير الكلاب !! .

** البدراني **

ما كنت أمتلك من هذه الدنيا غير عكازتي وملابس القرويين في ساحة ( مولوي ) في قلب مدينة ( السليمانية ) ، التي ماتخيلت قط أن أعود إليها . للحظات شعرت بنوبة بكاء تحاصرني ، بعد أن سألت نفسي : ــ أكل ّ هذا من أجل إطلاقتين طائشتين ؟! .

عشت وحدة مخبولة مع هلوسات الحمى والكوابيس منذ خمسة وتسعين يوما في ذلك المستشفى الريفي الكئيب ، شبه العاري من ألأثاث ، الذي يزوره الطبيب مرتين في ألأسبوع ، ويبقى على ذمة ممرض عجوز بقية ألأيام ، وتتصدق العوائل القريبة على مرضاه بالطعام وحتى بالملابس .

ترددت كثيرا قبل أن أقرر الذهاب إلى بيت صديقي ( أنور عبد العزيز ) . كنت أشعر بشئ من الزعل والحيرة منه ، على ظني أنه لابد عرف بما جرى لنا على الحدود الدولية ، لأن معظم الهاربين الذين قتلوا معي ، ومنهم صديقه المهرب ( بمو ) ، كانوا من أهل ( السليمانية ) ، ومع ذلك لم يزرني في وقت كنت فيه بأمس الحاجة إليه !! .

تحاملت على نفسي ورحت أدب ّ بمشيتي العرجاء ، وآلامي ، وكل إنكساراتي ، نحو البيت الوحيد الذي يمكن أن أحظى فيه على شئ من الطعام والراحة ، ريثما أفكر بما سأفعله لاحقا بنفسي . وكان جوعي يشتد كلما إقتربت من البيت ، وأفكاري تزداد تشتتا .

طرقت الباب للمرة الثانية ، ثم سمعت خطى خفيفة خلفه . جهزت كلمات العتاب للرجل الوحيد الذي أثق به في هذه المدينة التي تحكمها الميليشيات مجهولة التمويل والغايات . وعندما إنفتح الباب إلتقت نظراتي بنظرات زوجة ( أنور ) الشاحبة على غير ما أتذكره عنها ، وكانت ترتدي ملابس سوداء !! .

إرتعدت أطرافها بوضوح حالما تعرفت علي ، وانا ألقي عليها التحية راسما على شفتي إبتسامة شعرت بها مضطربة ، و أغلقت الباب بوجهي فجأة . مددت كفي لأطرق الباب للمرة الثالثة ، ولكنني توقفت مذهولا من تصرفها وتساءلت في سري : هل قتلوا ( أنور ) بسببي ؟! .

هذا ما فهمته من نظرات المرأة الشابة ، التي لم تستطع النظر في وجهي أطول من لحظات خاطفة تعرفت علي ّ خلالها قبل أن تغلق الباب بحدة من لايريد أن يرى شخصا جلب له ( مصيبة ما !! ) . مشيت خطوتين عائدا من نفس الطريق الذي جئت منه ، ثم توقفت . لعلها تفتح الباب لأعرف مالذي حصل !! .

عدت إلى ساحة ( مولوي ) . لا أدري كيف وصلتها . ثمة صورة كبيرة لقائد كردي كبير تتصدر المشهد ، وواجهات محلات تجارية ، معظمها معتم عدا قليل تنيره كهرباء المولّدات الخاصة ، وثمة مجاميع من الشبان العاطلين تتسكع بحثا عن فرصة عمل ، بينما تمر مواكب المسلحين من وإلى كل الجهات .

وفي لحظة ما ، شعرت بعجز تام عن المشي بلا هدف ، فجلست متكئا على بوابة محل مغلق ، يبعد بضعة خطوات عن مطعم إستفزت روائح الطعام المنبعثة منه كل أحاسيسي بأنني جائع منذ الصباح ، فأغمضت عيني ، ولأول مرة في حياتي إنسابت الدموع من عيني ، رغما عني ، عندما ألقت إمرأة عجوز علي حضني بضع قطع من النقود المعدنية على ظنها أنني شحاذ !! .

** الثالولة **

دامت المعركة غير المتكافئة ، نهار أمس ، أكثر من عشر ساعات بين ثلاثة رجال ، كما قيل ، وعشرات الجنود والمدرعات والمروحيات ألأمريكية التي طوقت بيت ( نواف الزيدان ) في ( الموصل الجديدة ) . خرمت الصواريخ والقذائف التي أطلقتها المروحيات والدبابات كل جهات البيت ، وبرقشت إطلاقات الجنود ألأمريكان ما تبقى واقفا من كل الجدران .

وعندما عرض تلفزيون ( أخو عرنه ) مساء اليوم جثتين رقع الجراح إصاباتهما الشديدة ، قيل أنها ( لعدي ) و ( قصي ) ، لم تصدق أكثرية الزبائن ماتراه . ولكن أكثر من نال تعاطفا كان إبن ( قصي ) الذي لم يتجاوز الخامسة عشرة من عمره ، والذي قيل أنه قاتل مع أبيه حتى قتل ولم تعرض جثته .

وسرعان ما تحولت الحوارات بين رواد المقهى من الحديث عن هذه المعركة إلى ( الجائزة المالية ) ، التي كانت ثلاثين مليون دولار ، قبضها جاسوس كردي ، كما إدعى حزب ( جلال الطالباني ) ، بالتعاون مع مخبر آخر قيل أنه من عائلة ( نواف الزيدان ) التي تمت بصلة قرابة ( لصدام حسين ) .

وأسرفت الفضائيات في عرض جثتي ( عدي ) و ( قصي ) ، وفي نقل مظاهر الشماتة بمقتلهما ، خلافا للتقاليد ، في المدن الكردية وبعض مدن الجنوب ، مما عمق شعور أهالي ( الثالولة ) بأن هؤلاء ربطوا مصيرهم بمصير القوات ألأمريكية التي إعترفت في ألأمم المتحدة بانها ( قوات إحتلال !! ) وأعلنت تقسيم العراق إلى حصص للشيعة والسنة العرب وألأكراد .

وحدها قوات ( البيش مركة ) كانت تجوب شوارع المدينة تحت حماية ألأمريكان . مددت الحكومة الجديدة فترة حضر التجول ليلا بعد أن إزدادت عمليات المقاومة ، ومنعت كل ألأطراف من حمل السلاح . كان ( البيش مركه ) وقادة ألأكراد وألأحزاب الكردية المسلحة التي فتحت مقرات لها في المدينة ( يتفاخرون !! ) بأصدقائهم ألأمريكان الذين مكنوهم ولأول مرة في التأريخ من دخول ثاني أكبر محافظة في العراق مع أسلحتهم .

نهض ( دليو ) فجأة وطلب غاضبا ، وبصوت عال ، من ( أخو عرنه ) أن يبحث عن فضائية ( لا تذلنا !! ) بهذه المشاهد فأيدته مجموعة كبيرة من الشبان ، رغم قلة أعلنت رغبتها بمزيد من ألأخبار عما يجري في البلد ، فحدثت مشادة كلامية كادت تتحول إلى عراك لو لم يسرع ( أخو عرنه ) ويطفئ التلفزيون غاضبا من الجميع !! .

** العضباء **

عندما وصلت منارة ( جامع الخضر ) ، بعد آذانات الفجر ، كانت دوريات من ألأمريكان و( البيش مركة ) ، قد إستوقفتها للمرة الثالثة ، وفتشت الكيس الذي كانت تحمله ، ولكنها تناست القهر الذي شعرت به وهي تقترب من الجامع المجاور ( لجسر الحرية ) ، حيث شاهدت ولأول مرة منذ إنتهت الحرب ( نادي الضباط ) الذي دمرته الطائرات ألأمريكية أثناء الحرب ، كما شاهدت البناية الضخمة التي كان يشغلها ( حزب البعث ) والتي إستولت عليها قوات من ( البيش مركة ) لصالح حزب كردي .

تجاوزت رصيف ( الكورنيش ) ، ثم إنحدرت على سفح الضفة اليمنى لنهر ( دجلة ) وهي تبتهل لله أن يسهل الإفراج عن وحيدها ( زمن ) . تنفست رائحة النهر الثقيلة بعمق وهي تتقدم كالمسحورة نحو ضفته ، التي سمعت منها ما يشبه الهمس المقدس عن خلود النهر . وعندما غطست قدماها في مياه النهر الدافئة ، لفت عباءتها حول خصرها ، وقرفصت . تسمرت نظراتها على الهلالات الفضية للأمواج المنحدرة جنوبا ، وهي تردد : ــ يا الله !! يا ألله !! .

إلتمعت الطاسة الجديدة بضوء ( خارق !! ) عندما زرعت في قعرها الشمعة المشعلة باناة . شعرت بأن ( قمرا صغيرا !! ) يتلألأ في كفها سارعت بوضعه على صفحة الماء ، وراحت تراقب رقصته المذهلة مع ألأمواج وهي تنحدر به جنوبا . أشعلت بقية الشموع وأرسلتها على التوالي في قافلة من ألأقمار الصغيرة وهي تبتهل لله أن يعجل بالفرج عن وحيدها مسحورة بإلتماعات النهر فجرا حتى باغتتها صرخة : ــ ش تسويّن هنا ؟! .

هبت واقفة مذعورة ، وتعثرت بنفسها عندما شاهدت المترجم العراقي بصحبة مجموعة من الجنود ألأمريكان تصوب بنادقها نحوها . فكرت أن تشرح له قصة إبنها ( زمن ) إلا انها لم تجد غير : ــ تأ !! .

ثم حاولت تدراك ألأمر ولكنها كررت : ــ تأ !! تأ !! .

وهي تتخبط بالوحل بينما كانت أوائل أشعة الشمس تنعكس على نوافذ البنايات العالية على ضفة ( الكورنيش ) .

: ــ تقدّمي رافعة يديك !! .

صاح بها المترجم آمرا .

تخلت عن عباءتها المثقلة بالطين وهي تتقدم ، متعثرة ، راجفة ، رافعة يدها السليمة فوق رأسها وهي تتمتم كلمات غير مفهومة .

إلتفت المترجم نحو أمريكي قريب منه ورطن بكلمات ، أهملوها بعدها ، وعادوا إلى سياراتهم . إنتشلت عباءتها من ضفة النهر ، وهي تتلفت مرتعدة على شعورها ( بالعار !! ) لأنها عرضت جسدها بدون عباءة على غرباء ، كما شعرت بالعار لأن المترجم العراقي كان يرتدي نفس الملابس التي كان يرتديها الجنود ألأمريكان .

** البدراني **

نمت تحت شجرة في حديقة قريبة من مبنى المحافظة ، الذي إستولت عليه ( البيش مركة ) بعد إنسحاب العراق من الكويت سنة 1991 التي فرضت بعدها أميركا وبريطانيا وفرنسا منطقة ( حظر طيران ) شمال العراق على خط عرض (36 ) ، مما إضطر الجيش العراقي لمغادرة ( السليمانية ) بعد رفع الحماية الجوية عنه .

كنت قد إشتريت رغيفين من الخبز بالنقود التي رمتها لي المرأة العجوز ، على ظنها أنني شحاذ . ورغم البرد القارص الذي هز جسدي عند آذانات الفجر ، إلا أنني صحوت على قلقي وانا أتذكر وجه زوجة ( أنور ) المرعوب مني دون أن أفهم لماذا .

بلا أوراق تثبت هويتي ، وبلا نقود ، ولا معارف في مدينة لا قانون فيها غير قانون الميليشيات والمنظمات الدولية السرية ، حيث لاحياة حقيقية لغير العقيد الركن ( عدنان ) ، الذي زوّر رتبته ليعيش مع أمثاله ، كنت نكرة حقيقية يمكن أن تموت في أية لحظة وقد ( لايتصدّق !! ) أحد حتى بدفن جثتي ، لذا قررت أن أعود مشيا إلى (الموصل )( حتى لو طالت رحلتي عاما كاملا !! ) .

قدرت أنني ساحتاج إلى عشرة أيام في ألأقل ، على عرجي ، لأصل هدفي حيث أقرر الخطوة التالية ، لذا نهضت بسرعة . إخترت كيسا نظيفا من أكياس سائبة كثيرة جلبتها الرياح والمارة نحو الحديقة المهملة قبل أن تشرق الشمس ، وشعرت بأن الله يحبني لأنني عثرت في الحديقة ذاتها على حاوية صغيرة ، تستعمل عادة لحفظ سوائل محركات السيارت ، مازالت تنبعث منها رائحة البنزين .

غسلت وجهي الملتحي ، ثم غسلت الحاوية تحت صنبور الحديقة . فقدت الحاوية بعض رائحتها الكريهة . و شعرت بشئ من النشاط . ولم يفارقني وجه زوجة ( أنور ) الحزينة .

هل قتلوه بسببي ؟! .

كان هو السؤال الذي أقسمت على معرفة جوابه حتى ولو في آخر يوم من أيام عمري ، وفي أول فرصة آمنة أعود فيها إلى ( السليمانية ) .

وقفت قرب فرن تنبعث منه رائحة الخبز الطازج ، ولأول مرة في حياتي تقدمت خطوة نحو إمرأة في ألأربعين وأنا أمد كفي المفتوحة نحوها بعد أن أشرت لها أن معدتي فارغة . وضعت في كفي ربع دينار ورقي ، لم تجد أصغر منه في محفظتها ، فإشتريت به خبزا ساخنا وضعته في الكيس الفارغ ، ثم عدت إلى الحديقة التي بت ّ فيها .

تناولت رغيفين من الخبز ، وأنا جالس إلى جوار صنبور المياه . رميت قطعة لقطة سائبة فهربت مذعورة دون أن تتناولها . شربت كل ما أستطيع شربه من الماء ، ثم أعلنت ( إتكالي على الله !! ) وخطوت خطواتي ألأولى نحو الطريق العام الذي يقودني إلى ( الموصل ) .

** الثالولة **

عندما تأكد ( اخو عرنه ) أن ( كاشان ) قد أغلقت دكانها نهائيا ، فتح ما أسماه ب ( دكان ) ملحق بالمقهى يتكون من بضعة صناديق عتيقة مما يستعمل لنقل الخضراوات ، وكلما إختلف مع شار أو شارية كان يردد غاضبا ، أو متظاهرا بالغضب ، وبلهجة بطولية : ــ أجازف بحياتي من أجلكم !! أعبر( شارع الموت ) ــ ويشدّد كلمة ( الموت ) ــ فجر كل يوم لأصل ( سوق الخضار ) !! وتيبّسون فمي من اجل خمسة أو عشرة فلوس ؟! .

قال ذلك لإمراة شابة ، ساومته ، فبان الخجل على وجهها من زبائن المقهى ، لذا شرح لها ( أخو عرنه ) بحماس : ــ هذا الفجر ، قبل ساعتين !! فجّرت المقاومة سيارة ( همفي ) !! كنت على مبعدة خطوات منها !! أوقعني ألإنفجار على ألأرض !! وربّك ستر عليّ !! أطلق ( العميان ) نيرانهم نحو كل الجهات !! لم يطلقوا علي ربما لأنهم ظنوا أنني قتلت !! ثم واصلت سيري من أجل هذه الخضراوات حتى ( سوق الخضار ) بعد ذلك !! .

ناكده رجل عجوز كان ينصت بإنتباه وعلى وجهه إبتسامة عريضة : ــ وهل إنبطحت من شدة ألإنفجار ام من الخوف ؟! . ولكن ( أخو عرنه ) أهمله ، إذ تعوّد على سخرية الزبائن من كل شئ ، وسمح للشابة أن تنتقي حباّت البطاطا بنفسها كما أرادت بدلا من أن يزن لها عشوائيا فتنال بعض الحبّات الفاسدة غير الصالحة للطعام .

إستغفر ( أخو عرنه ) الله بصوت عال ، حالما إنصرفت المرأة الشابة ، وسال ( البدراني ) الذي كان منشغلا في حوار جاد مع بعض الشبان : ــ أستاذ !! ما معنى ( فك يو !! ) بالأنكليزية ؟! .

إندهش ( البدراني ) وسأله : ــ ومن قال لك هذه الجملة ؟!.

أجاب ( أخو عرنه ) ببراءة : ــ قالها لي جندي أمريكي في ( شارع الموت ) بعد أن نهضت ورحت أتفرج على السيارة ( الهمفي ) وهي تحترق !! رأيت جثث ثلاثة جنود أمريكان مضرجين بدمائهم خارج السيارة وعندما حاولت أن أقترب منهم صوب جندي بندقيته نحوي وهو يصرخ : ( فك يو !! فك يو !! ) . معناها إبتعد . إبتعد ، أليس كذلك ؟! .

ضحك ( البدراني ) بطلاقة ثم زمّ شفتيه بشئ من ألأسف وهو يجيب : ــ لا !! مع ألإعتذار لك ، معناها : أفعل بك الفاحشة !! .

فضج الزبائن بالضحك وصاح العجوز المناكد : ــ ( أخو عرنه ) !! إذا رأيت ( العميان ) مرة أخرى فقل لهم ( فك يو !! ليبتعدوا عن العراق !! .

: ــ هل أنت جاد أم تمزح ؟! .

تساءل ( أخو عرنه ) بوجه متجهّم وهو يمسح يديه بقطعة قماش .

أجاب ( البدراني ) جادا : ــ أنا جاد يا أخي . هذا معناها !! .

عندئذ شحب وجه ( أخو عرنه ) .

هز رأسه وتمتم غاضبا : ــ سارد لهم هذا ( الجميل ) بمثله وأكثر. أي والله العظيم !! .

** العضباء **

عندما فتحت ( العضباء ) عينيها ، بعد ما يشبه إغفاءة نالتها على ضفة النهر ، قرب ( جامع الخضر) ، تأكدت بأن دورية ( العميان ) مع مترجمها العراقي قد إبتعدت عنها فهمست غاضبة : ــ إلى جهنم !! الله يا خذكم !! .

ثم نهضت ورفعت عباءتها من حافة المياه . وبعد أن يئست من العثور على فردة نعالها ، حملت الفردة ألأخرى بيدها وصعدت نحو رصيف ( الكورنيش ) حافية وهي تتلفت بقلق نحو كل الجهات .

ومرة أخرى شعرت ( بالعار !! ) عندما إنتبهت إلى نظرات المارة المبكّرين ، المندهشين من عباءتها الملوثة بالطين وقدميها الحافيتين ، وهي تمر من قرب ( بناية المتحف ) الذي نهب اللصوص محتوياته ، فأسرعت نحو ( دورة الجمهورية ) ، وعندما شاهدت الجنود ألأمريكان و( البيش مركة ) على سطوح وبوابات بناية المحافظة همست بحرارة مرة أخرى : ــ الله يا خذكم !! . دون أن تبالي بسائق سيارة شتمها بعد أن تحاشى دهسها في اللحظة المناسبة وهي تعبر الشارع .

وصلت مدخل شارع ( النبي شيت ) عندما دوّى إنفجار كبير جدا خلفها من جهة مبنى المحافظة تلاه إطلاق نار كثيف ، ثم دوى إنفجار آخر في اللحظات التي تنامت فيها شجرة دخان كبيرة خلفها من التفجير ألأول ، ولثوان فكرت أن الله إستجاب لدعائها ويريد أن ( يأخذهم !! ) بهذه الطريقة ، ثم تشاءمت من المنطقة فأسرعت في مشيتها ولكنها ركضت مع المارة الهاربين .

إصطدم بها شاب وهو يركض بجنون فترنحت وسقطت على ألأرض ، وقفز شاب آخر من فوقها في اللحظة التي رفعت رأسها فيها لتنهض فضربت قدمه الثقيلة رأسها . داخت وما عادت ترى شيئا . سمعت صوت جسد ذلك (ألأرعن !! ) وهو يتدحرج على ألأرض ، وعندما إعتدلت لتضربه بفردة نعالها عقابا له عن رعونته ، لم تجد غير نفسها وحيدة في الشارع ، فركضت بمحاذاة محلات ( الحاج موفق أبو الطرشي ) حتى وصلت ( بناية البريد ) حيث جلست على ألأرض بعد أن أسندت جسدها على الجدار متقطعة ألأنفاس .

تحسّست الدفء الغريب على فمها ، وعندما شعرت بلزوجة الدم على أصابعها ورأته غابت عن الوعي فترة لاتدري كم طالت حتى صحت على منبه سيارة تمرّ بسرعة في الشارع ، ورجل وقور يقف قريبا منها يسألها بهدوء : ــ يمّا !! هل أنت بخير ؟! .

هزت رأسها ، رغم الصداع وألألم الشديد في رأسها ، عندئذ تقدم الرجل خطوتين أخريتين منها وقرفص قربها وهو يسألها بعطف : ــ هل أعينك على النهوض ؟! .

هزت رأسها رافضة ، فأخرج الرجل من جيبه رزمة نقود عزل قسما منها وقدمه لها قائلا : ــ يمّا !! خذي سيارة إجرة وعودي بسرعة إلى بيتك .

: ــ لست شحاذة !! .

قالت له غاضبة .

قال لها بود ّ : ــ يمّا !! أعرف !! ولكن عودي بسرعة إلى بيتك .

** البدراني **

إستبدل أحد القرويين ، أثناء مبيتي في بيته ، حاويتي القديمة التي تنبعث منها رائحة ( البنزين ) بحاوية نظيفة طلبا ( للأجر من الله ) ، وكان يناديني بإسم ( درويش !! ) وهو يخاطبني بلغة ألإشارات بعد أن تظاهرت بالخرس ، مذ غادرت ( السليمانية ) كي لا يلتقط أحد أية معلومة عني ، في طريق عودتي إلى ( الموصل ) مشيا .

وفي قرية أخرى تخلت عجوز عن سلة تسوّق عتيقة ، ووضعت لي فيها خبزا . كنت لا أعرف أسماء القرى التي مررت بها والتي سأمر بها ، مشيا ، كما كنت لا أنزل من أية سيارة تقلني ، أو جرار زراعي ، حتى تحيد عن الطريق العام ، فأكثر من ألإشارات للسائق كي أتحاشى الذهاب إلى منطقة مجهولة مرة أخرى أضيع فيها وقتا على مجهول لا أعرف نتائجه .

وعندما أعانني رجلان على النزول من حوض سيارة حمل صغيرة ، نقلتني مجانا ، إلى ( كراج الشمال ) في الطرف الشرقي من مدينة ( الموصل ) ، قدرت أنني أنني أمضيت سبعة أو ثمانية وعشرين يوما في رحلة هروبي من ( السليمانية ) ، أمضيت بعضها في قرى إستضافني أهلها عطفا علي كمتشرد ، وأمضيت أكثرها نائما في عراء الجبال بين القرية ألأخيرة التي غادرتها والقرية التالية التي كنت لا أعرف إسمها .

جلست على مصطبة كونكريتية ، ودخنت السيكارة التي أعطانيها الرجل العجوز الذي كان يجلس قبلي هناك . ومرة أخرى فكرت أن ( الله يحبني !! ) لأنه نجّاني من المعارك الدموية بين الحزبين الكرديين المتنافسين على السيطرة على شمال العراق ، كما نجوت من ( المعارضين العرب ) الذين كان أكثرهم يتعاطى بيع المعلومات والتآمر مع المخابرات ألأجنبية في ( السليمانية ) و (دهوك ) و (أربيل ) .

ولكن القلق عاد ينهش أفكاري .

ها أنذا في ثاني أكبر مدن العراق بعد ( بغداد ) ، ولا أعرف أحدا من أهلها قط ، بدون أي مستمسك رسمي يثبت هويتي ، وأهلي في ( الرمادي ) لايبعدون أكثر من ثلاث ساعات بالسيارة ، وأنا (مطلوب للحكومة !! )عن إطلاقتين طائشتين محتجتين في تشييع ( متآمر ) على ( السيد الرئيس ) أكلته كلاب مجوّعة !! .

وبقيت محتارا بين أن أستمر متظاهرا بالخرس أو أن أكلم ألآخرين وأنا أسير دون هدى في أعرض شارع متجه نحو قلب المدينة حتى رأيت ( تل التوبة ) الذي يتربع عليه مرقد ( النبي يونس ) ، فصعدت إلى هناك ببطء شديد ، إذ ما زالت رجلي اليمنى توجعني ولا أستطيع ألإستغناء عن العكازة الخشبية التي تذكرني بمستشفى حدودي فقير في قرية كردية بعيدة .

وبعد أن صلّيت شكرا لله داخلتني طمأنينة هائلة فغفوت على جدار المصلى حتى آذان العصر . إستيقظت جائعا فتناولت آخر ماتبقى عندي من خبز القرى الكردية التي مررت بها ، وتذكرت هناك صديقي ( أنور ) وزوجته المتشحة بالسواد . دعوت له بالرحمة إذا كان قد قتل وبالغفران والتوفيق إن كان حيا ، ثم غادرت الجامع بعد أن أديت صلاة العصر مع الجماعة .

دخلت مطعما للمشويات دون تفكير وطلبت من صاحبه أن يشغلني عنده . نظر نحوي مندهشا وهو يقول بلهجة إعتذار : ــ لست محتاجا إلى عمال يا أخي !! .

وشجعتني لهجته المؤدبة على القول : ــ لا أريد أجورا !! . أريد طعاما فقط ريثما يفرجها الله علي !! .

نظر في عمق عيني قبل أن يهمس بشئ من الرثاء : ــ لا إله إلا الله ، ولا حول ولا قوة إلا به !! أجلس !! .

جلست على أقرب الكراسي ، ونادى على واحد من العمال . ظننت أنه سيطلب منه أن يدلني على مكان عملي ولكنه أمره أن يقدم لي طبقا من المشويات . شعرت بنظراته تخترقني وأنا ألتهم طعامي بشراهة فشلت في السيطرة عليها ، إذ لم أذق مثل ( هذا الترف !! ) ، اللحم المشوي ، منذ عدة أشهر كان آخرها اليوم الذي إنفجرت فيه السيارة التي كنا نستقلها على لغم مزروع على الحدود الدولية في ( السليمانية ) .

وعندما وضع عامل آخر قدحا من الشاي ، تنبعث منه رائحة ( الهيل ) اللذيذة ، نجحت في مقاومة رغبتي في البكاء على نفسي وعلى من عرفتهم لساعات في طريق هروبهم ألأخير نحو ( بلد آخر ) ولكنهم قتلوا وهم يتشبثون بقيمة الحياة ذاتها التي أتمتع بها ألآن .

وعندما نهضت لأغادر المطعم على ظني أن الرجل لن يستخدمني فوجئت به يقدم لي سيكارة فاخرة وهو يقول ببشاشة وود ّ : ــ أخي !! يمكنك أن تعيننا على ثرم البصل والطماطة وتنظيف الخضراوات . أدخل من باب المستخدمين ألآن !! .

** الثالولة **

عادت الحياة إلى رتابتها في ( الثالولة ) بعد ( كبستين ) أمريكيتين طالتا أكثر من خمسن رجلا ، لا يعرف أحد أين هم ألآن ، ولكن صار من المؤكد أنه يتعرّضون للتعذيب من أجل الحصول على معلومات عن الحكومة السابقة ، التي إختفت ، وعن المقاومة التي كانت تتزايد في كل مكان .

وعندما ظهرت أول سيارة مصفحة من قافلة عسكرية للأمريكان ، بين آخر بيوت ( الزنجيلي ) و( قنطرةالحرية ) في ( الثالولة ) صرخ ألأطفال الذين كانوا يلعبون هناك : ــ العميان !! العميان !! .

ثم هربوا نحو البيوت ، فدبت حركة نشيطة في الحيّين ، وخيم عليهما ترقب ثقيل .

نزل رجل ( مكيّس الرأس ) صحبة جندي أمريكي بنظارة سوداء ، رفع الكيس عن رأسه ثم عاد مسرعا نحو سيارته ، وإستدارت القافلة ألأمريكية مع أسلحتها المصوّبة نحو كل الجهات إلى ( شارع الموت ) . مشى الرجل بضعة خطوات عرجاء حثيثة نحو ( قنطرة الحرية ) فصرخ أول ألأطفال الفضوليين الذين وصلوه : ــ ( زمن ) !! . عادت مجموعة من ألأطفال راكضة نحو ( الثالولة ) وهي تصرخ بفرح منغمة صراخها : ــ ( زا .. من ) !! ( زا .. من ) !! .

ولكن العضباء لم تفهم قصدهم ، وهي تعد طعام الغداء في الفسحة الفاصلة بين ( التانكر ) و ( برج الضغط العالي) ، مع أن ما لايقل عن عشرة أطفال وصلوها راكضين ، ممزقي الملابس ، متسخي الوجوه ، وهم يصرخون : ــ ( زا .. من ) !! ( زا .. من ) !! .

حتى قال لها أكبرهم : ــ البشارة لي يا عمّتي !! ( زمن ) على ( قنطرة الحرية ) !! .

نظرت ( العضباء ) في عينيه حذرة من ( عبث ألأطفال ) ، وهي تمسح أنفها بخرقة قماش ، وهي تردد بصوت مسموع وبشئ من البلادة : ــ ( زمن ) على ( قنطرة الحرية ) !! ( زمن ) على .. هل رأيته أنت ؟! .

فضج ألأطفال في آن واحد : ــ أنا رأيته !! أنا رأيته أولا ولي البشارة !! .

عندئذ أطلقت ( العضباء ) زغرودة مشروخة ، من أنفها الذي ما زال ينزف ، وركضت نحو أقرب ألأزقة تتبعها ( صمود ) و( عنود ) متبوعات بمجموعة ألأطفال التي عادت تهتف : ــ ( زا .. من ) !! ( زا .. من ) !! .

عندما وصلن حلقة كبيرة من الرجال والنساء وألأطفال تجمعت بين مقهى ( أخو عرنه ) و ( سيّد فولاذ ) دفعت (العضباء ) كل من صادفها بعنف وهي تصرخ : ــ أين وحيدي ؟! أين ( زمن ) ؟! .

ثم إرتمت على الرجل الشاحب الجالس على ألأرض . بدا أكثر نحولا مما كان عليه وأكبر سنا . قبلته عشرات المرات بسرعة . تشمّمته . ووضعت رأسه بين ثدييها كأنها ترضعه . ولم تسمح لأحد بمسّه ، مع أن الكثيرين من الرجال بشكل خاص كرروا عليه سؤالا محددا : ــ أين كنت ؟! .

فأجاب وهو يبكي بين ذراعي ( العضباء ) : ــ في المطار !! في المطار !! .

** العضباء **

لم يكف ( التانكر ) ، ولا الفسحة الفاصلة بينه وبين مئذنة ( برج الضغط العالي ) ، للرجال والنساء وألأطفال الذين جاءوا ليسمعوا من ( زمن ) وحيد ( العضباء ) عن أيام إعتقاله وعن المعتقلين ألآخرين من ( مكيّسي الرؤوس ) . وكانت ( عنود ) تجاهد في حماية قوري الشاي الرابع على كومة حطب مشتعلة من رعونة ألأطفال ، وحتى بعض الكبار ممن نجحوا في زرع أنفسهم في ( التانكر ) الذي راح يعج بدخان السيكائر وألأنفاس اللاهثة على قصص ( مكيّسي الرؤوس ) في ( سجن المطار ) .

شق كرش ( ألأحيمر ) الحشد ، الذي ينتظر دوره لدخول ( التانكر ) في الفسحة ، تتقدمه صينية كبيرة عليها قوري شاي ضخم مع مجموعة كبيرة من ألأقداح ، تلاه ( العم ّ دليو ) بصينية أخرى ملآنة بالسيكائر ، تتبعهما ( البرشة ) وقد خبأت شيئا ما تحت عباءتها ، ودخلوا ( التانكر )على حق ّ تقديم هدية ضرورية وعاجلة ، فإنطلقت زغرودة (العضباء ) مشروخة من أنفها المتورم النازف .

وقبيل الغروب شد ثغاء نعجة عند مئذنة ( الضغط العالي ) أسماع الحضور وأعلن ( العم ّ دليو ) أن ( البدراني) تكفل بعشاء الضيوف ، فزغردت ( العضباء ) للمرة التي ماعاد أحد يدري تسلسلها في زغاريد ما إنفكت تطلقها في وجوه الضيوف وهي تحتضن وحيدها ، وتتشمّمه كما لو كان ( قنينة عطر وقعت في يد محروم !! ) .

تجاهل ( البدراني ) غمزة ( دليو ) عندما لفت عطر ( كاشان ) حواس الشم ّ وهي تمر لتقدم التهاني ( للعضباء ) من بين الرجال المعجبين بجمال وجهها ورشاقة جسدها والحاسدات من النساء اللواتي تبادلن غمزات ذات معان تفهمها النساء الفضوليات بشكل خاص ، وإستمر في تقطيع لحم الذبيحة على قطع حاول أن تكون متساوية متجاهلا دهشة ( دليو ) منه .

ولأول مرة في حياته إنتبه ( زمن ) الذي جلس في موقع الصدارة داخل ( التانكر ) ، إلى أن البالغين كانوا يصغون له بإنتباه حقيقي ، ويكلمونه بجدية كأي بالغ ، وأن ألأطفال يسكتون تأدبا كما يفعلون مع الكبار إذا تكلم ، فشعر بأنه ( كبر !! ) ، وأن من حقه ألآن أن يتباهى بصفة ( رجل !! ) ، فراح يسرف في سرد أدق التفاصيل التي إلتقطتها ذاكرته الطازجة عن المعتقلين و( العميان ) والمترجم العراقي ، الذي تفنن في كيل الشتائم له كلما ذكره ، شارحا معنى بعض الكلمات ألأنكليزية الجديدة التي إلتقطها من الجنود ، فنال في اليوم ألأول من إطلاق سراحه ألقابا عدة منها ( محروم كلام !! ) و ( ماشاف وشاف !! ) و ( راديو المحلة !! ) ، ولكن على تعاطف صادق مع فتى لم يتجاوز السادسة عشرة من عمره ، نال ما لم ينله أي فتى في عمره .

وبينما إستمرت ( العضباء ) في مسح أنفها ، المتورّم ، من مزيج الدم والمخاط الذي يعكّر صوتها وزغارديها ، منتفشة ألأطراف ، كما ( دجاجة فخورة بفرخها العجيب !! ) ، كانت تهمس لمن حولها ، متحاشية تعكير حديث وحيدها مع الرجال : ــ لو كنت أدري لنذرت ( خبز العباس ) و( شموع زكريا ) يوم قبضوا عليه ولكنني غبية ومقصرة بحق وحيدي !! .

وكان ( ألأحيمر ) يغتنم الفرصة لتبادل الحديث الودّي مع ( عنود ) ، التي كانت تساعده في توزيع أقداح الشاي والسيكائر على الضيوف ، وهو يطيّر لها إبتسامات عريضة لم يخف معناها على كثير الرجال والنساء العجائز اللواتي سمحن لأنفسهن بالبقاء في ( التانكر ) لسماع كل التفاصيل منذ ساعات دون ملل .

وفي مساء تلك الليلة سمعت ( الثالولة ) ما لايقل عن أحد عشر إنفجارا وقع في ( المطار ) ، علّق عليها أحد الضيوف ساخرا وهو يشير بإصبعه نحو جنوب المدينة وهو يبتسم ( لزمن ) : ــ حرقتهم يا رجل !!.

فأجاب هذا ، ( كما يفعل الرجال المحنكون ) ، بسرعة وهدوء : ــ يستحقون أكثر !! .

ثم نفث من منخريه خيطين حادين من دخان سيكارته .

** زمن **

صحا بعد السابعة بقليل فقبلته ( العضباء ) وهي تردد بسعادة : ــ ما أحلى صباحي وأنت في البيت !! .

كن ّ ينتظرن يقظته ليفطرن ، ولأول مرة شعر بالزهو الذي يخالج ( رجل البيت !! ) وهو يتناول إفطارا ( ملكيا !! ) تألف من البيض المقلي واللبن الخاثر وقشطة حليب الغنم وخبز التنور الساخن ، الذي صحت أمه منذ ساعة مبكرة بعد منتصف الليل لتمنحه متعته ( ساخنا كما كان يحب !! ) . تناول ثلاثة أقداح من الشاي شربها بتشه صريح ، ولم تمنعه (العضباء ) عندما أشعل سيكارة من بقايا السيكائر التي جلبها ( العم دليو ) فكان ذلك إذنا صريحا له بالتدخين .

إقترحت عليه ( العضباء ) أن يذهب إلى المقهى ، ( كما فعل عمّك دليو !! ) ، لأن الناس من ذوي ( الرؤوس المكيّسة ) كثروا في تلك ألأيام ، ولا بد أن بعضهم قادم ليسأل عن أخبارهم ،( والتانكر ضيق !! ولا نمتلك ما يكفي من الشاي والسكر لتضييف كل زائر !! ) فأطربته الفكرة .

نهض على عجل وبنشاط وأخذ ملء كفه من بقايا السيكائر في صينية ( دليو ) . مسحت ( العضباء ) أنفها الجريج المتورم من مزيج الدم والمخاط بخرقة قماش قبل أن تطبع على جبينه وخديه ثلاث قبلات ، وهي تشمه ، وتوصيه أن يتجنب ألأمريكان و( البيش مركة ) ( كما يتجنب العاقل العمى !! ) ، ودست في جيبه بعض النقود التي كان على يقين أنها إقترضتها من أجله .

نظر بتعال نحو ألأطفال الفضوليين المنبهرين به في الزقاق ، وتعمد الوقوف وهو يمد يده ببطء في جيبه ثم يخرج سيكارة أشعلها متمهلا كما يفعل المدمنون القدامى على التدخين ونفث دخانها من منخريه نحو أقربهم طالبا منه أن يبتعد عن طريقه وهو ينحدر نحو مقهى ( أخو عرنه ) الذي بادره مبتسما : ــ ها !! أخو ( صمود ) !! تعيش وتاكل غيرها !! .

فسخر رجل عجوز من زبائن المقهى المبكرين : ــ قل له وأنت معي !! .

فضحك ( أخو عرنه ) قائلا : ــ فليسترنا الله من شر فألك !! .

واثناء ذلك وصلت إمراة متوسطة العمر تقود طفلا بشئ من القسوة ، وهي تتمسك بعباءتها على صدرها ، يتبعها رجل عجوز ، وسالت ( أخو عرنه ) قلقة مستعجلة : ــ الله يرحم والديك !! أين بيت هذا الولد الذي خرج يوم أمس من سجن ( العميان ) ؟! .

فأشار لها نحو ( زمن ) ، الذي كتم إستياءه من وصف ( ولد !! ) ، ولكنه إنتفخ عندما إستدارت المرأة نحوه وهي تكاد تتهاوى عليه لشدة إقترابها منه قبل أن تسأله مباشرة عن إبنها ( سعد الله ) من اهل ( رأس الجادة ) الذي قبض ( العميان ) عليه قبل يومين ، فأجاب ( زمن ) وهو ينفث دخان سيكارته أن لم يسمع بهذا ألإسم في (سجن المطار ) الذي كان هو فيه ، ورجح ان يكون في قاعة أخرى أو سجن آخر .

خبطت المرأة صدرها بكفها حزينة وراحت تردد : ــ عمت عيني عليك يابا !! (سعدالله ) !! عمت عيني !! . ومضت شبه مهرولة نحو الرجل العجوز الذي كان يستريح على واحد من أذرع ( سيد فولاذ ) ، فواصلت مجموعة كبيرة من الزبائن ، ومن مختلف ألأعمار ، تقديم التهاني ( لزمن ) وطرح المزيد من ألأسئلة عن ( العميان ) والكلمات التي تعلمها منهم وعن الطعام والنوم وبقية ( مكيّسي الرؤوس ) .

وظل نجما للمقهى وروّادها بدون منافس منذ الصباح الباكر ، إذ توالت مجاميع من من أهالي ألأحياء القريبة في السؤال عنه وألإنصات إليه ، حتى حلقت مروحيتان ، عند الظهيرة ، على إرتفاع منخفض فوق ( الثالولة ) ، ومرتا على طول ( وادي الحرامية ) قبل ظهور رتل من السيارات المصفحة ألأمريكية طوق بيت ( الشيخ بعيو ) من كل الجهات فنهض ( زمن ) ومضى نحو ( تل العقارب ) .

تبعه شاب يكبره بسنتين ، أو ثلاث ، كما قدّر ، ثم حاذاه وهو يشير بطرف عينه نحو ( كبسة ) ألأمريكان : ــ هل تكرههم ؟! .

أجاب زمن : ــ بالتأكيد !! .

: ــ هل تطلق عليهم النار إذا إمتلكت سلاحا ؟! .

سأله الشاب وهما يجلسان على مكان قريب من نهاية ( الثالولة ) الشمالية على ( تل العقارب ) .

نفث ( زمن ) دخان سيكارته بقوة قبل أن يجيب بعد أن تنهد متألما : ــ لو أنك نلت التعذيب الذي نلته منهم لما سألتني هذا السؤال !! ضرب أحدهم أختي هل تعرف ؟! وكسر أحدهم ركبتي !! ما زالت توجعني عندما أمشي !! . وألآخر .. ؟!! بالتأكيد لي أكثر من ثأر عندهم !! وبالتأكيد سأطلق النار عليهم في يوم ما !! .

: ــ هل تعرفني ؟!

سأله الشاب وهو يبتسم .

اجاب ( زمن ) على الفور : ــ طبعا !! ولكن بصراحة لا أعرف إسمك !! أبوك خبّاز وبيتكم في زقاق ( عبد الرزاق المجنون ) . بابكم ( تنك ) مصبوغ أزرق . مكتوب عليه ( يا ألله ) بالأبيض . صح ؟! .

: ــ صح ، وإسمي ( كرم ) .

تصافحا ، وأثناء ذلك إقتحم الجنود ألأمريكان قصر( الشيخ بعيو ) الفارغ بعد أن فجروا أبوابه وراحوا يطلقون الرصاص في داخله فنهضا ولاذا بجدران ( الثالولة ) تحاشيا للرصاص الطائش .

تساءل ( كرم ) : ــ هل لديك رغبة في العمل مع المقاومة ؟؟ .

أجاب ( زمن ) على الفور وهو يطلق دخان سيكارته من منخريه : ــ هذا ما فكرت به وأنا كالدجاجة الذبيحة بين أقدام هؤلاء ( العميان ) لعنهم الله !! . ولكنني لا أعرف أحدا من المقاومة !! هذه هي مشكلتي !! .

ضحك ( كرم ) قائلا: ــ أنت تعرف واحدا منهم في ألأقل !! .

تساءل ( زمن ) مندهشا: ــ من ؟! .

أجاب ( كرم ) وهو يحتضنه بحرارة : ــ أنا يا ( زمن ) !! أنا !! .

** الثالولة **

على غير عادتها ، قبل إطلاق سراح ( زمن ) ، ظلت ( العضباء ) غارقة في النوم رغم آذان صلاة الفجر الذي اداه ( سيّد كامل ) من ( مئذنة برج الضغط العالي ) ، ولكنها صحت مذعورة عندما سمعت صيحة تكررت : ( كبسة) !! ( كبسة ) !! فنهضت مسرعة نحو الباب . فتحته بهدوء خوفا من أن يفاجأها أحد ، كما حصل ذات مرة جندي أمريكي ، ثم خرجت حافية القدمين نحو ( برج الضغط العالي ) .

رأت أشباح السيارات ألأمريكية وألأضواء الومضية لسيارات ( الحرس الوطني الجديد ) ، ومرت من فوقها مروحية أمريكية شاهدت رشاشاتها وصواريخها بوضوح على الضوء الفضي للفجر . وعندما تذكرت أنهم يراقبون كل شئ عادت مسرعة إلى ( التانكر ) وأغلقت الباب بقوة وهي تدعو الله ( ان يعميهم ويرد شرهم !! ) بتمتمات مسموعة ، ثم جلست على فراشها واضعة رأسها على كفها السليمة .

فاجاها ( زمن ) بالسؤال : ــ (كبسة ) ؟! .

أجابت بهلع : ــ أي !! إسمع !! إذا جاءوا لا تقل أننا عرب !! يكرهون العرب !! .

سخر ( زمن ) : ــ سأقول أننا فرنسيين !! .

ولكنها تجاهلت سخريته عندما رأته ينهض فنهضت بدورها مسرعة وأمسكت بذراعه قائلة برعب أيقظ إبنتيها : ــ يابا !! لاتخرج !! أستر عليّ يابا !! إبق حتى يولّون !! .

ولكنه تفلت من قبضتها قائلا بغضب لم تعتده منه : ــ يمّا !! أريد أن أتبول !! .

وظلت تراقبه من باب ( التانكر ) حتى عاد فأغلقت الباب قائلة بنبرة خافتة : ــ نقول لهم أننا عرب !! ولكننا شيعة من أقارب ( السادة ) الذين جاءوا معهم من خارج العراق .

ضحك ( زمن ) وهو يشعل سيكارة وسألها ساخرا : ــ وماذا تفعلين بإسم زوجك ( عمر العثمان ) ؟! .

وقفت وسط ( التانكر ) قلقة محتارة ، بعد أن سمعت إطلاق نار كثيفا في مكان قريب ، ثم قالت : ــ نقول نحن أكراد !! هؤلاء أصدقائهم !! .

هزأ ( زمن ) منها : ــ أكراد لا يعرفون كلمة كردية واحدة !!؟؟ .

قالت ( العضباء ) : ــ نحرق بطاقات هوياتنا إذن !! .

ضحك زمن قائلا : ــ مثل المجاهدين العرب الذين جاءوا ؟! . يعدموننا على الفور !! .

ومرت فترة صمت ثقيل ، أمضته ( العضباء ) واقفة وهي ترتجف ، حتى قال لها ( زمن ) بهدوء لم تتوقعه منه : ــ نامي يا أمي نامي !! دعينا في حضن الله !! .

: ــ هذا الصحيح !! .

قالت ( صمود ) فجلست ( العضباء ) على فراشها وراحت تتمخط .

ثمة عواءات لكلاب سائبة في فترات السكون بين رشقات الرصاص ، وثمة قطة صرخت متألمة في الزقاق كأن أحدا ما داسها بأقدام تركض بخفة هناك صاحبتها همسات خافتة مقتضبة سرعان ما إختفت ، فأشعل ( زمن ) سيكارته الثالثة .

** كاشان **

شبه ميتة من شدة النزف ، الذي كانت تعانيه بصمت وصلت ( إخلاص ) على المقعد ألأمامي من سيارة ( المخضرم ) ممزقة الملابس وبدون لباس داخلي ، منذ خمسة أيام . أفردت لها ( كاشان ) فراشا في غرفتها التي لم تسمح من قبل قط لبشر بمشاركتها في النوم فيها ، لصق سريرها ، كي تتأكد أنها لن تموت فجأة ، كما بدأت تتوقع مرعوبة مما حصل للفتاة التي ظلت ساكتة على ما حصل لها ، ولم تبدر منها غير التأوهات ، والدموع التي تنحدر من عينيها في أوقات مختلفة تتذكر فيها ما حصل لها ( هناك !! ) في بيت ( كاكا صالح ) . ورأت ( كاشان ) في عينيها إتهاما صريحا لها عما حصل .

وعندما عاتبت ( كاكا صالح ) عن عدد الرجال الذين ( مرّوا !! ) على الفتاة خلافا لإتفاقها معه أنكر وأكد أنه رجل واحد ( محروم منذ أشهر !! ثور أمريكي !! ) قال ساخرا فسكتت ، ولكنه فاجأها بتعنيف حاد ، لم تتوقعه أبدا ، عندما علم أنها أغلقت الدكان ( بدون علمه !! ) فإضطر أمام دهشتها أن يوضح لها أن كل ( المشاريع الناجحة !! ) لها علاقة بالبشر ، وأن ربحها الحقيقي ألآن هم الناس الذين يشترون بضاعة الدكان والذين يتحدثون عن أنفسهم وعن ألآخرين لها لأنهم يعتبرونها واحدة من نساء الحي تقدم لهم مساعدة ما . ( الثرثرة هي الذهب الحقيقي !! ) . قال لها . ( الذهب الخام الذي يدر عليك المزيد من الفلوس يا كاشان أكثر من أي " خام " آخر !! ) .

وذهلت عندما عدّ على كفها بحركات ماجنة بذيئة عشرة أوراق نقدية من فئة مائة دولار ( لم تطلبها منه !! ) وهو يقول لها بهدوء : ــ خمسة مساعدة وخمسة قرض !! أعيدي فتح الدكان هذا اليوم !! وإذا نجح المشروع تسقط الخمسة القرض !! العجائز وألأطفال هم أفضل مصادر ( الذهب الخام ) !! تذكري هذا !! ومع كل خبرية جيدة قد تنالين مثل هذا المبلغ ، وربما أكثر !! ثقي ( بالمخضرم ) وحده عندما يتعطل الهاتف !! .

وفي طريقها إلى إلى أسواق ( الكورنيش ) ، بسيارة ( المخضرم ) ، كان الندم يتآكلها لأنها سلّمت الفتاة مقابل خمس مائة دولار ، إذ لابد أن ( كاكا صالح ) باعها ( للثور ألأمريكي المحروم من النساء منذ أشهر ) ، بثمن أعلى مما دفعه لها بكثير . ( ربما بخمسة آلآف ، وحتى أكثر !! . أليسوا هم من يسك ّ الدولار ؟! ) . ولكنها شعرت بشئ من العزاء وهي تختار بدون تردد أفضل مما كان معروضا من بضاعات السوق الرخيصة ، التي وردت عبر الحدود الدولية السائبة ، بدون ضرائب وبدون رقابة الحكومة الجديدة .

وعندما وصلت ( الثالولة ) مزهوة ببضاعتها الجديدة وأفكارها المحمومة عن ( ذهب ) الدكان الجديد ، ألقت نظرة ساخرة نحو مقهى ( أخو عرنه ) ، حيث كان هذا يعرض بضاعته على صناديق خشبية ( أقدم من السلام عليكم !! ) ، وقدرت بأن ما ستربحه هي في يوم قد يعادل ما يربحه هذا في سنة كاملة ، فكادت تضحك عندما زمر (المخضرم ) لمجموعة لاهية من ألأطفال لم تنتبه لسيارته أجفلوا وفروا مذعورين بملابسهم الرثة كما مجموعة من الفئران المذعورة ولدت في مزبلة .

نادت البنات لمساعدتها على تفريغ حمولة السيارة من البضاعات الجديدة فجئن راكضات . أخبرتها كبراهن أن (إخلاص ) غير موجودة في فراشها ، فذعرت ( كاشان ) . فتشت عنها في كل غرف البيت ، وفي غرف ( البيت ألآخر) ، وعندما لم تجدها إصفر وجهها وراحت ترتجف محتارة فإتصل ( المخضرم ) ( بكاكا صالح ) وأخبره بما حدث ، ثم قال لها بعد أن أغلق الهاتف الجوال الجديد : ــ يقول أعرضي مكافاة لمن يخبرك عن مكانها !! مائة ، مئتي دولار !! وإذا لم تعثري عليها هذا اليوم ضعي إسمها وأوصافها على قائمة ( ألإرهابيين ) .

** زمن **

تسلل ( البدراني ) من مكان ما إلى ( الثالولة ) ، بعد محاولة القبض عليه ، واعطى ( للعضباء ) ليلا مبلغا من النقود هامسا لها بود أخوي ( هذا قرض ليشتعل به " زمن " إلى حين يفرجها عليكم !! ) ثم عاد دون أن يدخل في ( التانكر ) ( ولو لشرب قدح من الشاي !! ) ، كما تمنت ( العضباء ) عليه وهي تكاد تبكي .

ومرة أخرى تمنت لو ان هذا الرجل يتزوج واحدة من إبنتيها ، اللتين لم تكترثا بأفكارها عن زواجهما ، وهما تقترحان على ( زمن ) عددا من المشاريع منها بيع الباقلاء المسلوقة أو ( اللّبلبي ) لعمال البناء على عربة متجولة ، أو مشاركة بائع متجول ناجح يستفيد من تجربته ، ولكنه كان منشغل ألأفكار بأمر آخر ، مع انه أكد (للعضباء ) وأختيه أنه ( سيشتغل غدا بأي شغل متاح !! ) لأنه مل ّ من التسكّع في مقهى ( أخو عرنه ) .

وفاجأ ( العضباء ) بأنه ( مدعو للعشاء !! ) ، للمرة ألأولى في حياته ، عند صديقه ( كرم ) وعليه أن يذهب ألآن ، فصاحت هذه مندهشة : ــ ولكنك تعشّيت قبل دقائق !! .

فأهمل إستغرابها ، كما يفعل رجال ( الثالولة ) مع النساء ، وهو ينهض مطمئنا أمه إلى أن بيت صديقه قريب جدا ويقع في شارع ( عبد الرزاق المجنون ) وأن باب البيت ( تنك ) مصبوغ بالأزرق ومكتوب عليه ( يا ألله ) بالأبيض !!. فأوصته ( العضباء ) مستسلمة ألا ّ يتأخر ويعود بسرعة إذا شعر ( بكبسة ) على ( الثالولة ) : ــ نريد ان نموت معا ونحيا معا !! .

تعالت دقات قلبه وهو يتجه غربا في الزقاق المظلم . وعندما ألقى نظرة عاجلة نحو ( خندق الثالولة القديم ) تنهد آسفا ، ثم إستدار شمالا نحو ( تل العقارب ) بخطى حثيثة . ثمة مروحيتان امريكيتان تحلقان بعيدا فوق ( شارع الموت ) الممتد ( دورة الموصل الجديدة ) حتى ( دورة بغداد ) ، تتغامز أضواءهما على أصداء ثلاثة إنفجارت دوت على التوالي في عمق المدينة ، وثمة قطة سائبة لاحقته لبضعة خطوات ثم إختفت في ذات السكون الثقيل الذي يخيم على ( الثالولة ) عادة كل ليلة منذ زمن طويل ، وكان لا حربا دولية ثالثة مرت عليها ولا علامة تشير ( لمكيّسي الرؤوس ) من أبنائها . وحدها جهة مقهى ( اخو عرنه ) كانت مضاءة بكهرباء مسروقة من خط الحكومة القديمة لتشغيل ( الدش ) الذي صار أعجوبة لمدمني لعبة ( الدومنة ) و ( الطاولي ) ومتابعة ألأخبار ، وماعداها كان غارقا في الظلام المثير للإرتياب .

شعر بالإرتياح عندما لمح جمرة السيكارة التي كان يدخنها ( كرم ) في نهاية زقاق ( عبد الرزاق المجنون) المفتوحة على البر الغربي . تبادلا تحية هامسة مقتضبة ومضيا نحو جهة أخرى من ( تل العقارب ) حتى توقفا في نهاية زقاق آخر وقف عندها رجل ملثم ، بدا واضحا انه مسلح بمسدس كبير تحت سترة خفيفة ، قال ( كرم ) حالما إقتربا منه : ــ واجبي ينتهي هنا ، وساراك غدا !! .

ثم عاد مسرعا بعد أن عرف ( زمن ) بإسمه للرجل الملثم ولم يعرفه ( لزمن ) .

وضع الملثم كفه ، التي شعر بها ( زمن ) ثقيلة ودافئة على كتفه ، كأي صديق قديم ، وساله بحميمية عن حاله فأجاب هذا بإقتضاب : ــ ( زين ) !! الحمد لله !! .

كاتما شعوره بالقلق . كان الرجل أطول منه وأضخم جسدا . بدا رشيقا جدا ، كانه رياضي . وبدون مقدمات قال له : ــ أنت رجل شجاع . ولكن الطريق الذي إخترته خطير . قد تقتل في أية لحظة . هل فكرت بهذا يا أخي؟! .

تنحنح ( زمن ) قبل أن يجيب بثقة وسرعة : ــ نعم .

عاد الرجل يساله وهو يضع كفه اليسرى على كتفه ألأيمن ، كمن يكلّم طفلا حبيبا نضج توا على الخطوة ألأولى من مجازفة كبيرة : ــ فكّر بأمك . انت وحيدها . وباختيك . المقاومة ليست بحمل السلاح فقط . يكفينا منك أن تفكر بأن بلدك محتل ولا تساعد المحتلين وأعوانهم . هذه مقاومة أيضا . يكفي أن قلبك معنا . صدقني يكفينا هذا منك يا ( زمن ) !! . ولك أن تختار . فكر جيدا . وغدا قل ما عندك ( لكرم ) . في أمان الله !! .

ومضى الرجل الملثم فجاة نحو البرية . ظل ( زمن ) يراقبه حتى غاب في الظلام ، ولم يتوقع أن تكون المقابلة بهذا ألإختصار وبهذا الوضوح ، ثم شعر بالخجل يتآكله لأنه نسي أن يرد التحية للرجل .

** الثالولة **

منذ ساعة مبكرة من الصباح إجتمع عدد كبير من رجال ( الثالولة ) في مقهى ( اخو عرنه ) لتبادل أخبار ( الكبسة الجديدة ) التي تبين أن ( الحرس الوطني ) ، واغلبهم من المتطوعين ألأكراد ، قاموا تحت غطاء من الجيش ألأمريكي بتفتيش بيوت محددة ، بدا انها جاءت وفق إخبارية دقيقة ، كان أولها بيوت الشبان الثلاثة الذين سبق أن إختطفهم ألأكراد إلى ( دهوك ) ثم أطلقوا سراحهم ، وبيت ( البدراني ) بشكل خاص الذي أفلت من ( الكبسة ) بطريقة أثارت ألإعجاب .

قبضوا على واحد من الشبان المختطفين القدامى ، وأربعة إخوة للشابين ألآخرين اللذين غابا عن ( الثالولة ) منذ أيام ( لسبب ما !! ) ، وعلى سبعة رجال من البيوت الملاصقة للبيوت التي تعرضت للتفتيش ، ومنهم رجل عجوز في السبعين من عمره كثير التردد على ( البدراني ) في ( بيته الجديد ) .

: ــ وألان ماذ نفعل ؟! .

تساءل رجل عجوز ألقي ( الحرس الوطني ) القبض عل إثنين من أولاده وأبلغوه أنهم لن يطلقوا سراحهما حتى يسلم إبنه ( المطلوب ) نفسه لهم .

وعندما لم يسمع إجابة محددة إسترسل غاضبا : ــ عندما أفرجوا عنهم في ( دهوك ) إشترطوا عليهم التعاون مع (البيش مركة )!! يعني التجسس على أهل المنطقة لصالح ألأمريكان !! فوافقوا لحظتها ريثما يفلتون من قبضتهم !! ولكنهم لم يعودوا إليهم فجاءوا لإلقاء القبض عليهم من جديد !! وحتى ( البدراني ) تبين أنه ( مطلوب ) للحكومة الجديدة!! وهو فار ألآن !! ولا أحد يفهم هذه اللغة ال ( ... ) ألآن ليترجم لنا ماذا يريدون منا وأين ذهبوا بأولادنا الذين قبضوا عليهم هذه الليلة !! من يترجم مصائبنا ( للعميان ) ألآن ؟! قولوا لي !! قولوا لي عند من نشتكي ؟! .

ولكن أحدا لم يجيب !! .

وأثناء ذلك ظهر ( بوش ) على التلفزيون وهو يتحدث عن ( الديمقراطية الجديدة ) في العراق فنهض الرجل العجوز مسرعا وأطفأ الجهاز دون أن يعترضه أحد ، بينما إنحدرت سيارة ( المخضرم ) من زقاق ( كاشان ) فتبادل الرجال إبتسامات رافقتها غمزات ذات مغزى .

قال شاب غاضب : ــ القحبة !! لاتستطيع أن تنام بلا رجل !! باتت هذه السيارة ليلة أمس في بيتها !! ولست مرتاحا لوجه هذا ( المخضرم ) !! .

** كاشان **

أعلنت ( كاشان ) ( بشارة ) قدرها مائة ألف دينار لمن يدلها ، أو يجلب لها ، ( إخلاص ) ، ( العاقة !! الناكرة للجميل !! ) فتراكض الفتية وألأطفال بالخبر نحو كل جهات ( الثالولة ) ، وبعد أقل من نصف ساعة كانت معظم بيوت الحي تتناول سيرة ( كاشان ) وبناتها اللواتي تبنتهن من جهات مجهولة بعذر أنها لا تنجب حسب أقوال ألأطباء وأقوالها مستغلة وضعها ( كقابلة مأذونة ) تعرف ماذا يدور في معظم البيوت .

وإتفقت ( كاشان ) مع ( ألأحيمر ) ، بحضور أمه ( البرشه ) السعيدة بإبنها وضيفتها ، أن يتعلم السياقة بسرعة ليقود لها سيارتها الصغيرة المهملة في حوش ( البيت ألآخر ) مذ تركها ( البدراني ) ، لتزويد الدكان بحاجاته اليومية من السوق ، فكاد ( ألأحيمر) يرقص فرحا بهذه الفرصة ، المشفوعة بغمزة من ( كاشان ) طيرتها له في غفلة عن أمه ، لذا راح يدفع كرشه الضخم الرجراج في أزقة ( الثالولة ) باحثا عن ( إخلاص ) بقلق أم حقيقية تبحث عن إبنتها الحبيبة .

قررت ( كاشان ) في لحظة تجلّ تجاري إلغاء غرفة نومها لتوسيع الدكان لإستيعاب عدد أكبر من البضاعات ، كما قررت شراء مولدة كهرباء تكفي لتشغيل تلفزيون تضعه فيه ، قدرت أنه سيجتذب العجائز وألأطفال حوله ( كالذباب حول قطعة حلويات !! ) . وبينما إنشغل شابان نشيطان من عاطلي ( الثالولة ) بتحطيم الجدار الداخلي الفاصل بين غرفتها والدكان القديم ، ذهبت هي مع ( المخضرم ) بسيارته وإشترت بسخاء مولدة كهرباء وجهاز تلفزيون مع عدد كبير من ربطات ألأسلاك وبضعة مصابيح .

على مدى أربعة أيام من العمل المتواصل تحول بيت ( كاشان ) إلى ورشة عمل مكتضة بالعمال وأسراب من ألأطفال الفضوليين ، الذين أطلقوا صرخات إعجاب عالية عندما إشتعلت أنوار المصابيح في البيتين عند الغروب ، وسط مباركة الجيران والمارة من الجيران والزبائن وهم يكتمون حسدهم الذي سرّ ( كاشان ) وزاد من زهوها بنفسها .

وزعت الكثير من أقداح الشاي في الليلة ألأولى على العجائز اللواتي جئن ( للتمتع !! ) بنعمة الكهرباء والتلفزيون ، وشاركت المدخنات منهن بسكائرهن الرخيصة وهي تنصت بإنتباه شديد لثرثراتهن عن أزواجهن وأولادهن وكناتهن ( المتمردات !! العفنات !! ) .

ومع أن العجائز واسينها ، بمكر واضح ، في إبنتها ( العاقة !! ) ، ( الناكرة للجميل !! ) ، إلا أن بعضهن شدّدن على بعض الكلمات كأنهن ينفين أمومتها للفتاة ، وكان ( ألأحيمر ) يمر بين فترة واخرى من امام الدكان المضاء ، ( كما حارس مخلص مبهور بما يراه !! ) ، على حد وصف عجوز لمّاحة .

** زمن **

قال( أخو عرنه ) وهو يضحك حالما رأى ( زمن ) : ــ ها ( أخو صمود ) !؟ والله حرقتهم ــ وأشار نحو المطار ــ لم يهنأوا بالنوم مذ نمت عند امك !! قصفتهم المقاومة طوال الليل بالهاونات . ماذا تشرب ؟! .

أجاب ( زمن ) بإقتضاب : ــ شاي .

وإختار مقعدا بعيدا عن الزبائن على غير عادته وهو يستعيد الكلمات التي سمعها ليلة أمس من الرجل ( الملثم ) الذي ما زال يشعر بدفء كفيه عندما وضعهما كصديق قديم على كتفيه . شعر بأن الرجل الطويل الرشيق ، واحد من ضباط ( الجيش القديم ) ، يعرف عنه كل شئ ، بينما لم يعرف ( زمن ) حتى إسمه ، ولا كنيته ، ولكنه كان على يقين أن ( كرم ) يعرف عنه الكثير .

تشاغل بسيكارته بينما كان ( أخو عرنه ) يضع امامه قدح الشاي وهو يقول له ضاحكا مرة أخرى : ــ هذا على حسابي يا ( اخو صمود ) !! .

عندئذ تساءل ( زمن ) في سرّه إن كان ( أخو عرنه ) قد إنتمى هو ألآخر للمقاومة . إذ كان يعرف الكثير عن أخبار القصف والتفجيرات التي تحصل في المدينة ، والتي كان أكثرها لا يذاع عنه أي خبر عبر الفضائيات ، وحتى لايعلم عنه أية تفاصيل أكثر الذاهبين والعائدين من المدينة ، كما أن ( أخو عرنه ) كان أكثر الرجال توددا ً له في المقهى مذ أطلق ( العميان ) سراحه .

تسارعت ضربات قلب ( زمن ) عندما لمح ( كرم ) يظهر من زقاق ( عبد الرزاق المجنون ) . وعندما أخذ هذا صندوق لعبة ( طاولي ) ثم وضعه بينه وبين ( زمن ) بعد تحية مقتضبة قال وهو يفتح الصندوق بعينين ناعستين محمرّتين من أثر سهر طويل : ــ تظاهر بأنك تلاعبني .

: ــ لا أعرف اللعبة !! ولكن فلنقل أنني أتعلمها منك !! .

قال ( زمن ) بسرعة .

ومرة أخرى شعر ( زمن ) أن دقات قلبه تتسارع دون إرادة منه عندما بادر هو بالحديث ، بينما كان ( كرم ) يذيب السكر في قدح الشاي متمهّلا : ــ فكّرت في موضوع البارحة !! .

توقف ( كرم ) عن تحريك الملعقة في القدح رافعا رأسه نحوه ، وعندما إلتقت نظراتهما قال ( زمن ) بهدوء لم يتوقعه من نفسه : ــ وجوابي هو : ( نعم ) .

: ــ هل أنت متأكّد يا أخي ؟! .

تساءل ( كرم ) وهو يرتشف الشاي ويحرّك بعض قطع ( الطاولي ) .

: ــ لي أكثر من ثأر يا أخي !! تذكر هذا !! لذا أقول : ( نعم )!! وسأرى ما كتبه الله لي لاغير !! .

أجاب ( زمن ) ببساطة وهدوء وهو يجاري صاحبه في تحريك قطع ( الطاولي ) عشوائيا ً .

ومرت فترة صمت قصيرة إرتشف ( كرم ) شايه خلالها ثم قدم سيكارة ( لزمن ) وأشعل لنفسه واحدة قبل أن يهمس ، متظاهرا بأنه يتفرج على التلفزيون : ــ زين !! غدا عندك واجب .

: ــ لا أصدق !! .

صاح ( زمن ) بفرح .

: ــ كنا واثقين أننا سنسمع هذه ألإجابة منك يا رجل !! جهّزت لك هاتفا نقالا . سأعلمك كيفية إستعماله . وهناك أمور أخرى . لا أريد أن أطيل في الجلوس معك في المقهى . عيون ألأعداء تتكاثر . ثم أنا تعبان . لم أنم الليلة الماضية ــ وأطلق ضحكة قصيرة قبل أن يسترسل غامزا ــ كنت في واجب !! سنلتقي هذا المساء . بعد العشاء . هل هذا الوقت مناسب لك ؟ .

تساءل ( كرم ) وهو ينهض .

أجاب ( زمن ) : ــ بالتأكيد .

وقبل أن يمضي قال ( لزمن ) : ــ هناك رجل يدعى ( المخضرم ) يتردد على ( كاشان ) أريد ان أعرف عنه كل شئ .

** الثالولة **

حلقت مروحيتان أمريكيتان على إرتفاع منخفض فوق ( الثالولة ) . كان واضحا أن الجنود يراقبون ما يجري على ألأرض من خلف نظاراتهم السود وهم يصوبون رشاشاتهم الثقيلة نحو البيوت . حاولت مجموعة من ألأطفال أن تنالها بالحجارت وما تيسر من أشياء سائبة في متناول أياديهم الصغيرة .

إنتهرهم رجل عجوز ليكفوا عن ( هذا العبث !! ) ولكن عجوزا آخر سخر منه : ــ دعهم يعبّرون عن آرائهم يا رجل !! نحن في عصر الديمقراطية التي يريدها ( بوش ) لنا !! هل أنت ضد الديمقراطية ؟! .

: ــ الله يلعن هكذا ديمقراطية !! .

أجاب العجوز ألأول ثم قال للأطفال ضاحكا : ــ إبحثوا عن ألأحذية القديمة !! .

جاء فتى وأخبر جده ، الذي نصح بضرب ألأمريكان بالأحذية ، أن جدّته ( تريده ألآن لأمر مستعجل !! ) ، فمازحه العجوز الثاني وهو يغمز له : ــ يبدو أنها لن تصبر حتى يحل الليل !! .

فضحك الفتى الذي فهم ألإشارة ووضح : ــ جيراننا !! بيت ( ملا ّ حمادي ) !! كلهم غير موجودين في بيتهم منذ يوم البارحة !! هكذا قالت جدتي !! . حتى ألأطفال !! .

خمّن العجوزان بعد أن دخلا بيت ( ملا ّ حمادي ) أن العائلة إستخدمت البيت قبل يومين في ألأقل بدلالة جفاف أرضية المطبخ وأدوات الطبخ الذي ما زال بعضها يحتوي على بقايا طعام ، وبعض فرش النوم ما زالت مفروشة ، مما يشير إلى أن العائلة لم تستعد لسفر أو مغادرة جماعية ولكنها غادرت ، أو أخذت على عجل !! . وإعترف الجميع ( بغفلتهم !! ) عما يجري في ( الثالولة ) ، ولكنهم إتفقوا أن العائلة قد أخذت بالقوة في آخر ( كبسة ) قام بها ألأمريكان قبل يومين مع ( الحرس الوطني ) دون أن ينتبه أحد لذلك .

غطت حكاية عائلة ( ملا ّ حمادي ) على كل حكايات ( الثالولة ) في ذلك المساء الذي قرر فيه الرجال العجائز حفظ محتويات البيت ( كأمانات ) في بيوت ألآخرين ، ريثما يعود ( ولو فرد واحد !! ) من تلك العائلة ، لذا فوجئت (العضباء ) بأربع دجاجات ( بيوضات !! ) ، أعدّت لهن قناّ ً على عجل ، ثم أودعت كل الفرش والمخدات في بيت ( سيّد كامل ) وزوجته ، المحرومين من ألأطفال ، فيما حصلت ( البرشه ) على أدوات المطبخ ، واودع بقية العفش ، من براميل وحاويات ماء في بيت ( عبدالرزاق المجنون ) ألأكثر إتساعا من بقية البيوت المجاورة .

وعندما أطلقت الكلاب السائبة في ( وادي الحرامية ) عواءات الفراق الحزينة الطويلة أطلق أحدهم نحوها ثلاث طلقات تزامنت مع قرقعة مكبرة الصوت وهي ترفع أذان صلاة العشاء بصوت ( سيد كامل ) ، تزامنت هي ألأخرى مع آذانات بعيدة في عمق المدينة ، فبدا الفضاء المعتم مفعما بنبرات حزن عميق ، لذا بكت الكثير من النساء .

مسحت ( العضباء ) دموعها بظهر كفها السليمة ورفضت ، كعادتها كلما حزنت تناول العشاء الذي تألف من ثلاث بيضات مقلية وقليل من الراشي ورغيفين كبيرين من الخبز ، مكتفية بقدح من الشاي ثم قالت ( لزمن ) والفتاتين : ــ يا سبحان الله !! ما أن وضعت الدجاجات في القنّ وشربن الماء حتى بضن !! سنكون مدينين ( لملا ّ حمادي ) بكل بيضة !! صحيح أن ( مصائب قوم عند قوم فوائد ) !! عسى الله يفرجها عنهم . ترى أين هم ألآن ؟ ! ماذا يفعلون ؟! وأي حال يا رب نحن فيه ألآن ؟! .

ثم بكت مرة أخرى .

** كاشان **

تحدثت لأكثر من ساعة على هاتف ( الثريا ) مع ( كاكا صالح ) قبيل منتصف الليل ، وشجعها على مزيد من (ألإبداعات !! ) بعد أن أقر لها بحقها في نيل مكافأة جديدة قدرها خمس مائة دولار حالما أخبرته أن ( الذهب الخام ) قد إنضم مع ألإرهابيين ، ونصحها بأن تسمح ( للمخضرم ) في السكن عندها بصفة ( سائق ) لتزويد الدكان الجديد بالبضاعات ، ولترسل معه كل المعلومات الجديدة بدلا من طرحها على الهاتف ، فوافقت بعد تردد من طريقة ( المخضرم ) الفجة في ممارسة الحب .

وعندما سألها هذا عن ( ذهب خام جديد !! ) شعرت بالنشوة وأجابت على الفور : ــ عندي !! . عندي !! . وإتفقا بعد مساومات على ألف دولار هذه المرة والتسليم بعد ( ثلاثة أيام ) . وظلت شاحنة الهاتف تئز بعين حمراء حتى الفجر الذي عكّرته إنفجارت عديدة في أماكن متفرقة من المدينة ، على أرق ( كاشان ) مع أفكارها المنتشية بثراء عاجل ، ثم أغفت ولم تستيقظ حتى سمعت منبه سيارة ( المخضرم ) في الحوش على شمس عالية .

عدّ ( المخضرم ) على كفها خمس عشرة ورقة من ذوات المائة دولار ، جديدة متسلسلة ألأرقام ، كأن يدا لم تمسها قبل يده ويدها ، دسّتها في جيبها بسرعة ، دون تدقيق إن كانت صحيحة أم مزورة كما كانت تفعل من قبل ، بينما تساءل ( المخضرم ) سعيدا : ــ أين أضع فراشي ؟! .

: ــ في مخزن الدكان !! .

اجابت بحسم ، وعندما لمحت دهشته إسترسلت : ــ نحن في ( الثالولة ) يا رجل !! لا مكان لرجل عند إمرأة وحيدة مثلي غير مكان بعيد عن غرفة نومها . الشك والحكايات هنا تدوخ ألأنبياء حتى !! . لذا سارع بحمل فراشه إلى هناك ثم عاد إليها وقال لها آسفا وهو يشير نحو الجهة التي يقع فيها بيت ( البدراني ) : ــ لقد أفلت هذه المرة !! ولكن إطمئني !! . هناك ألف طريقة لعلسه !! .

وشعرت بقشعريرة في جسدها عندما سمعت الكلمة ألأخيرة ، إذ تذكرت عواءات الكلاب الحزينة ليلة أمس ، فأشاحت بوجهها عن ( المخضرم ) عندما همس لها بلهجة ذات مغزى : ــ سيكون عشاءنا ( دسما !! ) هذه الليلة ، أليس كذلك ؟! .

** البدراني **

نمت لمدة أسبوعين في مطبخ المطعم مع بقايا البصل والخضراوات والفئران القادمة من جحور عجيبة . كان ( الحاج عبد الستار ) يغلق المطعم من الخارج قبيل منتصف كل ليلة ، وكان الصوت المنبعث من ألأقفال يذكرني بأنني قد إخترت لنفسي عقوبة لامثيل لها عن حماقة إطلاقتين طائشتين في مأتم ، مع أنني لم انتم إلى حزب سياسي ، ولن أنتمي أبدا .

راجعت نفسي في هدوء الليالي التي أمضيتها هناك ، ووجدت أن عودتي إلى ( الرمادي ) ، أو وصول أي خبر عن وجودي في ( الموصل ) يعني ببساطة كبيرة إلقاء قبض عاجل أو آجل علي في مدينة تمتاز ، رغم إتساعها الكبير ، بسرعة إنتقال ألأخبار فيها عبر روابط عائلية وعشائرية متينة ومدهشة .

لذا قررت أن أنتظر قدري هنا . لعل عفوا يصدر من الحكومة عن ( المطلوبين ) ، كما إعتادت أن تفعل في في معظم المناسبات الوطنية . وعندما وضع ( الحاج عبد الستار ) في كفي بعض النقود ، مع العمال ألآخرين ، دون أن يعرف غير إسمي المستعار ، تطابقت الجملة التي قالها لي تماما مع ما كنت أفكر به توا : ــ جد لنفسك غرفة تنام فيها يا ( أحمد ) !! .

فإحتضنته وقبلت خدّه شاكرا .

دلني أحد عمال المطعم على غرفة شاغرة في ( الدركزلية ) ، تقع في بيت قديم يتكون من ثماني غرف مبنية من الحجارة والجص ، تشترك كلها في مرحاض واحد . ولم أساوم صاحب البيت طويلا على أيجارها الذي قدرت الجشع المذهل فيه . ولكنني علمت بعد شهرين من ألإقامة هناك أن صاحب البيت من أكبر المرابين في ( الموصل ) وله علاقات مذهلة مع كل ألأجهزة ألأمنية .

عند الصباح تتبارى خمس عوائل ، ويتعارك اطفالها أحيانا ، من أجل الدخول إلى المرحاض الوحيد الذي لم أر أقذر منه في حياتي . النساء يحرسن بعضهن لأن باب المرحاض بلا قفل ، ولأن الباب الخارجي يبقى مفتوحا دائما ، ليلا ونهارا. لذا إشتريت لغرفتي قفلا متينا خوفا على فراشي الذي لم يكن ثمينا بكل تأكيد عدا الراحة التي أنالها عليه عندما أعود متعبا من المطعم تفوح مني رائحة البصل والخضراوات .

خليط من العوائل الكردية الهاربة من حروب الشمال والعرب من سكان المدينة ألأصليين والتركمان و( الشبك ) ، ضربه البؤس والركض اليومي وراء لقمة العيش التي شحّت من جراء ( الحصار الدولي ) يشغل كل البيوت القديمة في ( الدركزلية ) ، ويمارس عادة الحياة إلى جوار ( تل التوبة ) الذي تربع عليه بمهابة كبيرة ضريح ( النبي يونس ) .

وما كدت آلف المكان ، حتى فوجئت بعد أسابيع من إقامتي فيه برسالة دسّها أحدهم من تحت باب غرفتي يطلب فيها كاتبها ( الرفيق فتحي الناعس ) أن أراجعه على عنوان ذكره في الرسالة لأغراض ( الجرد ألأمني !! ) للمنطقة يوم الخميس القادم ( حتما ً ) !! .

** الثالولة **

لم يبال ( أخو عرنه ) بدكان ( كاشان ) الجديد ، ولا بمولّدتها الكهربائية التي إستقطبت أنوارها ألأطفال المنبهرين والعجائزالفضوليات في ( الثالولة ) ، ولكنه إستاء من إعتراف الزبائن بأن ( كاشان ) ( أشطر منه !! ) في أمور التجارة ، إذ سمّر تلفزيونها ألأطفال على أفلام ( الكارتون ) المضحكة والعجائز على ألأفلام العربية والهندية المبكية ، لأول مرة في تأريخ ( الثالولة ) مذ بنيت !! .

وزيادة في ( مناكدته ) كرر رجل عجوز سخريته منه : ــ وهي أشطر منك في الحب أيضا !! ها هي ( تستدفئ !! ) بالرجل العاشر ، أو العشرين ، لا أدري !! ، حالما فقدت ( البدراني ) ، وانت على زوجة واحدة مذ خلقت !! .

سكت ( أخو عرنه ) عن المناكدة الثانية كاتما غضبه .

فكر بأنه ( يعرف !! ) ما لايعرفونه عنها ، مع أنه كان متاكدا أن بعضهم يتظاهر بأنه ( لايعرف !! ) حسب ، بعد ان ثبت ومنذ زمن طويل بأن معرفة بعض ألأمور عن الناس خطيرة على من يعرفها ، كما هو خطير ألا يعرف المرء شيئا عن بعض الناس . لملم آخر أواني المقهى ، في ساعة متأخرة من الليل ، ثم أغلق مقهاه وهو يجتر جملة ( أشطر منك !! ) بأسف .

ولكنه صحا من نومه ، على طرقات حادة على باب بيته ، بعد صلاة الفجر . تنحنح في الحوش ليتوقف الطارق عن لجاجته ، وفي سرّه كرر ( خير إن شاء الله !! خير إن شاء الله !! ) ، وعندما فتح الباب واجهته إبتسامة (ألأحيمر ) الدسمة وكرشه المندلقة من دشداشته وهو يقول له بدون تحية الصباح : ــ تاخرت عن فتح المقهى !! والناس تنتظرك !! يقولون أن ( العميان ) ألقوا القبض على ( صدام حسين ) في حفرة !! الدنيا مقلوبة !! وانت نائم !! .

: ــ تعال !! خذ التلفزيون والصحن وألأسلاك . ساغسل وجهي وألحق بك !! .

قال له ( أخو عرنه ) وهو يفرك وجهه ليطرد بقايا النعاس .

وضع ( ألأحيمر ) التلفزيون على كتفه وخرج ، وتساءلت زوجة ( أخو عرنه ) خائفة : ــ ماذا يريد هذا السائب ؟! ماذا هناك ؟! .

أجاب هذا بلامبالاة : ــ يقول أن ( العميان ) ألقوا القبض على ( صدام ) !! .

وغسل وجهه بسرعة ثم قال لزوجته : ــ أيقظي ألأولاد وأرسلي لي شيئا من الطعام إلى هناك .

ثم خرج مسرعا ، وهو يفكر بأن كل ما هو سائب في هذا البلد يتعرض للسرقة حتى البشر الحي ، عدا الجثث المجهولة التي لم يخل منها شارع مذ دخل ( العميان ) البلد .

** العضباء **

جلست على تلة مشرفة على ( شارع الموت ) منذ الصباح الباكر وإلى جوارها حاوية بلاستيكية فارغة لحفظ نفط الوقود ألأبيض . مرة تراقب جهة ( الموصل الجديدة ) ومرة تراقب جهة الشارع القادم من ( بغداد ) ، لعلها تحظى بواحد من باعة النفط الجوّالين ، ويدها السليمة تنبش أرض التلة بغصن شجرة يابس رسمت به خطوطا عابثة على ألأرض غير مبالية بحطام بناية ( الفرقة الحزبية ) خلفها التي تحولت إلى معبثة للأطفال ومعثرة للمارة بعد أن قصفتها الطائرات ألأمريكية مرتين في أوائل أيام الحرب .

وعندما لمحت بائع نفط على ظهر عربة يجرها حصان قادما من جهة شارع ( بغداد ) ، نزلت التلة مستعجلة دون أن تبالي بالسيارات المسرعة التي كانت تمر من وإلى الجهتين . تحاشتها سيارة بصعوبة وأطلق سائقها شتيمة لم تسمعها ولم تابه بها ، وهي تلوح بالحاوية الفارغة عاليا لبائع النفط ، ثم فرّت مرعوبة من الحصان الذي كاد يدهسها وهي تصرخ : ــ الله يرحم والديك !! الله يرحم والديك !! .

ركضت نحو العربة التي توقفت بعيدا عنها ، وهي تسترسل في توسلاتها : ــ الله يسهل أمرك !! الله يستر على عرضك !! .

وقفز البائع نحو ألأرض مستاء وهو يقول لها : ــ والله ياعمّتي هذا أسوأ مكان !! هل تعرفين ؟! يسمّونه ( شارع الموت ) !! .

وراح يملأ الحاوية على عجل وهو يقول لها مؤنبا : ــ هل تريدين أن تموتي ؟! لا أحد يعرف متى يمر ( العميان ) ولا أحد يعرف متى تضربهم المقاومة في هذا الشارع !! ماذا أفعل بدعواتك إذا قتلت انا أو قتل حصاني ؟! تعيش على هذه العربة عائلتان !! أربعة عشر فردا !! وأنت واقفة كانك في ( جنات النعيم ) !! .

وعدّ النقود التي أعطتها له بسرعة ثم لسع الحصان بضربة غاضبة من سوطه مع صرخة حادة وإبتعد وهو يتلفت نحو كل الجهات قلقا ، بينما حملت ( العضباء ) حاويتها الثقيلة بيدها السليمة وهي ( تحمد الله !! ) ، ولكنها أسرعت بدورها في مغادرة الشارع .

تحاملت على ثقل الحاوية حتى وصلت ( قنطرة الحرية ) . شعرت بأن مفصل ذراعها قد ( ماع !! ) هناك ، فنادت أحد ألأطفال وطلبت منه أن يذهب لينادي ( صمود ) أو( عنود ) لإعانتها ، فركض هذا متبوعا كالعادة بجوقة من ألأطفال السائبين راحت تردد : ــ وزير النفط يا عمّي !! بتنكتين تزوّل همّي !! .

وأسندت ( العضباء ) ظهرها على واحد من أذرع ( سيد فولاذ ) وهي تلعن وزراء النفط من أوّلهم حتى آخرهم ، مع أول من إكتشف النفط في البلد ، وهي تراقب عددا غير مألوف من الزبائن في مقهى ( أخو عرنه ) جاء ليتأكد من خبر إلقاء القبض على ( السيد الرئيس ) الذي إختبأ مذ سقطت الحكومة .

** البدراني **

صافحني ( الحاج عبد الستار ) بكلتا يديه تأكيدا لصدق ما يقول وهو يودّعني : ــ عليك أمانة الله يا ( أحمد ) أن تعود إليّ إذا إحتجت لأية مساعدة !! أنا أخوك هنا !! .

فشكرته ثم غادرت المطعم منذ الصباح . صعدت ثلاث حافلات للنقل العام حتى وصلت ( الزنجيلي ) ، وأخذت طريقي مشيا إلى ( الثالولة ) . عبرت ( قنطرة الحرية ) ، التي بناها ألأهالي من أنبوب نفط مسروق من الحكومة وحجارات ضخمة وحصى وطين ،وعبرت أشرطة النذور الملونة المرفرفة على أذرع ( سيد فولاذ ) وجوقات ألأطفال اللاهين العابثين بكل شئ ، وبعض النساء العجائز المتشحات بالسواد ، ثم وصلت المقهى الوحيد في الحي .

سألت ( أخو عرنه ) عن غرفة للأيجار ، فألقى نحوي نظرة فاحصة متأملة قبل أن يجيبني بشئ من الحيادية : ــ إذا لم تعثر على غرفة عند ( كاشان ) فلا تضيّع وقتك وأذهب إلى حي آخر !! سل ألأطفال عن بيتها !! .

وأجابتني هذه بحماس بعد أن أسكتت ألأطفال الذين رافقوني ، مستمهلة عجوزا جاءت لتشتري بعض الخضار الذابلة : ــ أي عندي !! .

كانت غرفة مبنية من الطين المجفف ، سقفها من صفيح وحصران قصب ، مدعمة بأسلاك متينة ساورني الشك بانها مسروقة هي ألأخرى ، وجدرانها مطلية بجص عتيق تفتت في بعض ألأماكن . وافقتها على بدل ألأيجار الذي طلبته بعد مساومة مختصرة ، قبل أن يحين موعدي مع ( الرفيق عبد الرزاق الناعس ) بيومين ، وحالما ( إتفقنا !! ) أشارت لي بأن أعدّ على كفها المفتوحة نقودي ، فدفعت لها مقدما وبدون مماطلة ، وانا أكتم إعجابي بإمرأة قاربت الخمسين من العمر لم تفارق حيوية شابة في الثلاثين جميلة الملامح دون أي شك .

في صباح اليوم التالي في بيت ( القابلة المأذونة ) ( كاشان ) ، إشتريت منها علبة سيكائر دفعت ثمنها نقدا فسألتني بجرأة عن شغلي ، قبل أن تسألني عن إسمي ، وعندما قلت لها : ــ أبحث عن شغل !! .

بدلا من كلمة ( عاطل ) التي أكرهها ، سألتني إذا كنت أجيد السياقة فأجبت على الفور : ــ نعم !! .

ولم تسألني عن إجازة سوق وهي تعرض علي مرتبا شهريا يكفي لدفع بدل أيجار الغرفة ويتبقى القليل منه ، فوافقت بدون تردد على فرصة عمل قد لاتحصل بسهولة في ( الحصار الدولي ) الذي ضرب كل ألأعمال .

وعندما عدت مساء من مقهى ( أخو عرنه ) نادتني ( كاشان ) ، وأشارت نحو سيارة حمل صغيرة قديمة في زاوية الحوش ألآخر وهي تعطيني مفاتيحها مع رزمة نقود ، مع دلالات على محل تاجر الجملة في ( سوق المعاش) الذي تتعامل معه عادة لشراء الخضار الخاصة بالدكان ، وختمت تعليماتها : ــ قل له هذا ( لكاشان ) وهو يعرف ماذا أريد !! والمهم ، المهم ، أن تجلب لي وصلا مختوما منه بثمن المشتريات !! .

فنمت ليلتي الثانية في ( الثالولة ) وأنا مرتاح البال ، على ضوء الفانوس الخافت الذي أعارته لي ( كاشان ) مع إبتسامة واعدة ، رغم خربشات الفئران في سقف الغرفة وحتى في عمق الجدران ، المنخورة ، ولم أستيقظ حتى قرقعت الحاكية اليدوية ، التي تعمل بالبطارية ، فجرا وأطلق أحدهم منها آذان صلاة الفجر في حي ( خارج على القانون ) ، كما يحلو لأهله وصفه ، لا تتردد عليه الحكومة كثيرا لكثرة مشاكله !! .

** الثالولة **

منذ ساعة مبكرة من صباح خريفي غائم ، ينذر بمطر ما ، كانت جمهرة كبيرة من أهالي ( الثالولة ) تنتظر إنحسار الخطوط الملونة الراقصة ونمش شاشة تلفزيون ( أخو عرنه ) ، الذي ترك مهمة تنظيم البث ( للأحيمر ) الذي تطوع لها جالسا على أقرب الكراسي بصدر يعلو ويهبط على قلقه من صلاحية هذا الجهاز ( اللعين !! ) .

ثم إستقرت الشاشة فجأة على تعليقات مطولة كان يلقيها أحد المحللين السياسيين عن تأثيرات إعتقال ( صدام حسين ) على الوضع المحلي والدولي ، لم يعرها الزبائن كالعادة أي إهتمام ، على يقين شاع أن صفة ( محلل سياسي ) غالبا ما تعني ( كذابا أنيقا ) يقبض أجوره عن ألأكاذيب التي يلقيها على الناس ، ولكن نظراتهم ظلت عالقة بالجهاز حتى عرض رجلا أشعث الشعر يتعرّض لفحص فم بضوء بطارية ، فإنقسم الحضور بين مصدق أن هذا هو ( صدام حسين ) ، وبين مكذب أن الرجل يشبهه .

ولكن تأكيد ( القائد ألأمريكي ) ، و( تأكيدات ) المراسلين في قنوات أخرى ، رجّحت رأي الطرف ألأول ، مع أن الطرفين أجمعا على أن ما يرونه هو ( إهانة صريحة !! ومقصودة !! ) موجهة للعرب جميعا ، بمن فيهم الرؤساء والملوك ، على إذلال متعمد لأسير عربي ، تحت كل الظروف .

بكى رجل عجوز فأبكى من حوله ، وغادر المقهى متوكئا على عصاه تاركا لأطراف عباءته مس ّ ألأرض بين خطوة وأخرى ، فتبعه آخرون بوجوه حزينة ، مع أن بعضهم كان قبل الحرب يغمز من قناة الحكومة و( السيد الرئيس ) و ( الرؤوس الكبيرة !! ) المحيطة به التي إختفت ولم تقاتل .

وفي طريقه من مقهى ( أخو عرنه ) إلى ( الموصل الجديدة ) ، باع ( زمن ) أربعة سيكائر من علبة فتحها لهذا الغرض لشابين صادفاه قرب ( طريق الموت ) ، ثم باع قطعة لبان بالنعناع لإمرأة متوسطة العمر ، ولكنه كان يدفع العربة بسرعة ليصل المكان الذي وعد ( كرم ) بالتوقف فيه وهو يتحسّس الهاتف النقال في جيب دشداشته بشئ من الزهو الذي يتملك المرء عندما يقتني شيئا جديدا نادرا بين الناس .

ومن أعرض أرصفة ( دورة الموصل الجديدة ) راحت نظراته تمسح الشوارع الرئيسية ألأربعة وهي تصب السيارات والجرارات الزراعية والمارة من وإلى ( الدورة ) في ألإتجاهات كلها ، مستمتعا بعالم بدا جديدا في عينيه ينتبه له للمرة ألأولى في حياته ، حتى أنه إكتشف معالم أخرى للمدينة لم يفطن لها من قبل مع أنه رآها عشرات المرات .

قبيل الظهر ، إلتقطت نظراته القلقة مروحيتين أمريكيتين من جهة ( المستشفى الجمهوري ) تتأثران الشارع العام من جهة ( الجسر الخامس ) ، ظهرت بعدهما مروحيتان أخريتان ، وراحت السيارت والجرارات العراقية تتوقف على الجانب ألأيمن من الطريق لتمر قافلة من السيارات المدرعة ألأمريكية .

شعر ( زمن ) بدقات قلبه تتعالى وهو يتحسّس جهاز الهاتف في جيبه دون أن ينتبه لرجل قروي أخذ علبة سيكائر من عربته وهو يمدّ يده بثمنها منذ مدة طويلة حتى قال له هذا ساخرا بصوت عال : ــ الذي أخذ عقلك لا هنئ به يا بني !! .

فأطلق ( زمن ) ضحكة متوترة ودسّ النقود في جيبه دون ان يعدّها كما أوصته ( العضباء ) .

وصل الرتل الأمريكي ( الدورة ) ، فإبتلع ( زمن ) لعابه قلقا وهو يرى الجنود ألأمريكان يصوبون أسلحتهم ، المستعدة لإطلاق النار ، نحو المارة ، وأكثرهم يرتدي نظاراته السوداء التي كان يكرهها . تحسس الهاتف في جيبه مرة أخرى ، وعندما مرت السيارة ألأمريكية ألأخيرة أخرج الجهاز من جيبه ، مسّ زرّين فقط ، كما علمه ( كرم ) ، وحالما سمع رجلا على الطرف ألآخر قال له محاولا السيطرة على رجفة إعترت جسده : ــ أنا إبن أختك ( فاطمة ) !! مرت من عندي عمتك ( العمياء ) قبل قليل مع أولادها السبعة ، وخمسة من أولاد جارتها ، في طريقها إلى ( حي المأمون ) ، وأبلغتني أن أسلم عليك وأنقل تحياتها .

: ــ سلمك الله . شكرا !! .

قال الرجل من الجهة ألخرى وأغلق الهاتف .

وشعر ( زمن ) بتعب شديد مع رجفة ثانية في جسده ، لذا جلس على الصفيحة الفارغة التي إستصحبها معه منذ الصباح . فرك كفيه ببعضهما على مزيج من الشعور بالسعادة والخوف وطلب الدفء ، وظلت نظراته عالقة بالجهة التي غاب فيها الرتل ألأمريكي ، منصتا بإنتباه شديد .

** العضباء **

في الفسحة الفاصلة بين ( التانكر ) و( برج الضغط العالي ) قرفصت ( صمود ) إلى جوار قدر الغداء الذي وضعته على كومة محترقة من ألأغصان اليابسة وقطعتين من خشب كرسي عتيق وبعض أوراق الجرائد القديمة ، بينما كانت ( العضباء ) تحدثها عن تأثير ( خبز العباس ) و ( شموع زكريا ) والدعاءات لله والصالحين ثم إنتبهت إلى أن إبنتها لم تكن تصغي لها غارقة في أفكارها الخاصة فسألتها مستغربة : ــ ما بك ؟! بماذا تفكرين ؟!.

: ــ ( بالبدراني ) !! فصّ ملح وذاب !!.

أجابت ( صمود ) .

دبت الحياة في وجه ( العضباء ) وقالت بحرارة : ــ هذا رجل تتمناه كل أم لإبنتها !! وعلاقته ( بكاشان ) لاقيمة لها !! هكذا هم كل الرجال ، وهكذا هن كل النساء السائبات !! حظه أسود !! مطلوب لكل الحكومات !! ويستحق أن أنذر له ( خبز العباس ) وحتى ( شموع زكريا ) كما فعلت ( لزمن ) !! يمّا !! ــ صاحت مندهشة ــ كيف نسيت ولدي ؟! قلبي يقول لي إذهبي لتري ماذا يفعل ألان في ( دورة الموصل الجديدة ) !! عاب قلبي عليه !! أقرانه مازالوا طلابا في المدارس وهو .. ؟! إسودّ وجهي عليه !! .

ثم أسرعت نحو ( التانكر ) ، وعندما خرجت واضعة العباءة النسائية الوحيدة في البيت ، الممزقة ألأذيال والكالحة اللون ، أوصت ( صمود ) بالإنتباه إلى قن الدجاجات من الكلاب الجائعة ، وذكرتها ربما للمرة المائة منذ أيام بأن الدجاجات ( أمانة !! وألأمانة ثقيلة لم تتحمل حتى الجبال ثقلها !! ) ريثما يظهر ( ملا حمادي ) أو واحد من أفراد عائلته المختطفين .

وجاءت ( البرشه ) دون سابق موعد .

أخذت ( العضباء ) بعيدا عن ( صمود ) وراحت تهمس لها قرب ( برج الضغط العالي ) بأمر بدا ( لصمود ) هاما وإستثنائيا . عادت ( العضباء ) مسرعة بعد ذلك نحو ( التانكر ) وقالت لإبنتها جادة : ــ رتبي البيت !!. لدينا ضيوف !! .

رتبت ( صمود ) و ( عنود ) عفش البيت القليل على عجل ، وجلستا ساكتتين بإنتظار ( الضيوف المجهولين ) الذين ذهبت ( العضباء ) لإستقبالهم من بيت ( البرشه ) ، ونهضتا مسرعتين عندما سمعتاها في الفسحة وهي تخاطب إمرأة : ــ تفضلي يمّا !! تفضلي !! البيت بيتك !! .

وفوجئت الفتاتان بأن الضيفة هي ( إخلاص ) التي أعلنت ( كاشان ) مكافأة كبيرة لمن يقبض عليها أو يخبر عنها . دخلت ممتقعة الوجه بخطى بطيئة مريضة ، وألقت التحية على الفتاتين دون أن تنظر في وجهيهما ( خجلا !! ) من أمر ما ، ثم جلست ساكتة في الزاوية البعيدة المظلمة من ( التانكر ) ، بعد أن ردت على تحيتي ( صمود ) و( عنود ) بإنكسار وصوت واهن .

** البدراني **

كل ما تراه العين في ( الثالولة ) له تأريخ سرّي ، حتى الجدران التي حوى بعضها قطع كونكريت وحجارات مسروقة من مكان آخر ، ومنها ( برج الضغط العالي ) ، الذي كان برجا للكهرباء في مكان ما . يقال هنا أن واحدا من الجياع نجح في سرقة محفظة سائح بريطاني فتبرع بجزء من النقود لبناء أربعة جدران وسقيفة لغسل الموتى طلبا للمغفرة من الله ، ولكنه لم يعترف بذلك للناس حتى بني ( مغسل الموتى ) وكاد يتهدم من كثرة الموتى الذين مروا به نحو المقبرة !! ولا أحد يعرف مصدر مكبرة الصوت بالبطارية التي ينادي المؤذن بها للصلوات الخمس يوميا ، لأن أحدا لم يسأل أصلا !! .

لم ترخص البلدية البناء في هذا الحي منذ بيته ألأول ، على يد المرحوم ( ضايع عبد الموجود ) ، وعد ّ حيا (خارجا على القانون ) داخل حدود البلدية ، لا يكاد يمضي عام دون أن يتعرض مرتين في ألأقل للتهديد بالهدم ببلدوزرات وكاسحات الحكومة ، كلما ( أفلس !! ) موظفو البلدية ، أو أزعجت ( الثالولة ) ( رأسا كبيرا ) من الحكومة ، رغم الحصار الدولي القاسي الذي أجبر الكثير من العوائل على ألإكتفاء بوجبتين هزيلتين من الطعام والذي كانوا يتشفعون به من أجل رخص بناء تمسح القلق عن وجوهههم الهزيلة المتعبة . وفرخت القوانين عشرات ( الممنوعات ) القانونية ، ومنها منع إستعمال السكر في الحلويات ، فتحولت ( الثالولة ) إلى مأوى لكل ما منع وكل مطلوب للحكومة عن تعاطي الممنوعات حتى تداول الدولار وحبوب منع الحمل .

الكل هنا يعلم بما يفعله الكل ، والكل لايعلم أي شئ عن الكل أمام غريب عن ( الثالولة ) ، بعد أن قتل مجهولون بعض الوشاة ، ونال البعض ألآخر جراحا دائمية ألأثر أسست لنظام الصمت الذي حكم كل شئ تلقائيا عبر ألأزقة الضيقة المتعرجة المبرقشة بنفايات البيوت وغوائط ألأطفال اللاهين عن ملابسهم الرثة منذ الصباح حتى مساء كل ليلة لا تنيرها غير أضواء الفوانيس ، والشموع !! .

و( الثالولة ) تكتال مياه الشرب وألإستحمام والطبخ من ( التانكرات ) الجوالة ، ومن ألأحياء ( القانونية ) المجاورة لها ، مقابل ثمن يتصاعد يوميا مذ بدأ الحصار . وحده الماء المجاني كان يتوفر من مياه الغدران في البرية القريبة بعد مزنات المطر في الشتاء والربيع ، ومياه ( وادي الحرامية ) المالحة غير الصالحة للشرب ، الذي حولته البلدية إلى مكب لنفايات المدينة نكاية ( بالثالولة ) ، لعل رائحة المزبلة العملاقة النتنة وغابات الذباب والحشرات والفئران تطرد ( الخارجين على القانون ) نحو مكان يسري القانون عليه ، دون جدوى .

ومن رحم تلك النكاية ولدت شركة ( أصابع كاشان ) من الفتيات والفتيان النابشين في جبال الزبل عن مفردات معدنية وبلاستيكية مقبولة الثمن ، مهما قل ، تدفعه معامل البلاستيك الوطنية التي أغلق الحصار الكثير منها ، والمهربين الدوليين المتخصصين في تهريب المعادن من البلد إلى ( تركيا ) و( أيران ) بشكل خاص عبر جبال الشمال والوسطاء ألأكراد .

هنا إخترت لنفسي إسما مستعارا ، من أكثر ألأسماء شيوعا هو( أحمد محمد البدراني ) ، دون أن يسألني أحد من أهل ( الثالولة ) عن بطاقة هويتي ، ثم رفدني بعض المطلوبين ، ممن تعرفت عليهم في مقهى ( أخو عرنه ) ، ببطاقة هوية رسمية متقنة التزوير بهذا ألإسم مقابل مبلغ زهيد ، مزدانة بصورتي الشخصية التي يشير لقبها العشائري إلى إنتمائي إلى عشيرة معروفة تمتد من ( الموصل ) إلى ( البصرة ) في ( العراق ) وإلى ( دمشق ) في ( سوريا ) ومعظم دول الخليج العربي .

** الثالولة **

لم يعر أحد من زبائن مقهى ( اخو عرنه ) المروحيتين ألأمريكيتين إنتباها حتى دوى إنفجار هائل في ( شارع الموت ) ، أعقبته زخات كثيفة من الرصاص ، فإنشدت ألأنظار وألأسماع نحو تلك الجهة ، وأعقب ذلك دوي خافت لمح الكثيرون بعده إحدى المروحيات وهي تترنح بشدة ثم تشتعل النار بها قبل أن تهوي بسرعة نحو ألأرض ، فصاح شاب : ــ الله أكبر !! الله أكبر !! أسقطوها ( أولاد الحدباء ) !! أسقطوها !! .

وإشتد إطلاق النار بعد ذلك ، فإمتلأت سطوح البيوت وألأزقة والنوافذ بالفضوليين ، وسرعان ما ظهرت مروحيات أخرى ، حلقت عاليا على غير عادتها فوق ( شارع الموت ) وألأحياء المجاورة ، ثم هدأ كل شئ فجأة ، بعد أقل من ساعة على أخبار وصلت مع المارة تفيد أن المقاومة فجرت سيارة ( همر ) وأسقطت مروحية ، وقتل من فيهما ، لذا قطع ( العميان ) حركة المرور في كل الشوارع المؤدية نحو مكان الحادث ريثما يرفعون آلياتهم المدمرة كما إعتادوا .

وعندما عاد ( زمن ) ، بعد آذان العصر ، مارا ( بشارع الموت ) لم ير غير آثار الحرائق وبعض النثار المعدني على ألأرض ، ولم ير المروحية التي سقطت ، كما سمع من المارة ، على مقبرة قديمة بعيدة عن الشارع ، ولكنه أشعل لنفسه سيكارة ، من أثمن السيكائر التي كان يعرضها للبيع على عربته ، وعب دخانها بشراهة وهو يتمنى لو أن الجندي الذي كسر ركبته والمترجم العراقي اللئيم بين من قتلوا في هذه القافلة .

ومع انه كان على ثقة بأنه ( شريك ) للمقاومة في ما جرى ( للعميان ) ، وانه يمكن أن يتباهى في يوم ما بأنه من ( رجال المقاومة ) الذين كسروا هيبة أقوى جيش في العالم ، ولكنه فكر أن ( مجرد مهاتفة قصيرة لايمكن أن تعد أمرا يفخر به المرء كثيرا !! ) ، لذا دفع عربته ببطء في شوارع ( الزنجيلي ) حتى تجاوز ( قنطرة الحرية ) و ( سيد فولاذ ) .

شاهد ( كرم ) يلعب ( الطاولي ) مع شاب آخر ، ولكنه هذا إبتسم له إبتسامة ذات مغزى مع إبهامه المرفوع نحو ألأعلى ، فشعر ( زمن ) عندئذ ( أنه فعل أمرا هاما هذا اليوم !! ) ، لذا أشعل لنفسه سيكارة ثمينة أخرى مع قدح الشاي الذي وضعه ( أخو عرنه ) أمامه وهو يبتسم له إبتسامة عريضة مع جملة ودودة : ــ هذا على حسابي يا (أخو صمود )!! تستاهل يا بطل !! .

ففهم ( زمن ) أن ( أخو عرنه ) لابد يعرف أنه مؤازر للمقاومة بطريقة ما ، وربما هو نفسه من رجال المقاومة في أواخر الليل . وعندما طلب قدحا آخر من الشاي ، كما إعتاد ، أخبره ( أخو عرنه ) أنه ( مدفوع الثمن من الجماعة !! ) ، وأشار بطرف عينه فقط ( متواطئا !! ) نحو ( كرم ) ورفاقه من الشبان ، لذا شعر ( زمن ) مرة أخرى بزهو حقيقي لم يشعر به من قبل قط ، قطعته ( العضباء ) التي جاءت قلقة تبحث عنه قبيل الغروب في ( يوم شغله ألأول ) بعد أن سمعت بما جرى في ( شارع الموت ) .

دفعت بيدها السليمة عربته الملآنة بعلب السيكائر وقطع العلك وحلويات ألأطفال ، وإستهلت قلقها عليه بالقول : ــ يابا !! لا تقف في الشارع عندما ترى ( العميان ) و( البيش مركة ) !! يطلقون النار على المارة دون تفريق بين المقاومة والمارة على طريق الصدفة . يابا !! أستر علي ّ من المشاكل حتى يفرجها الله على خير !! إذا حدث لك مكروه سأموت . ولا تقرض أحدا . أكتب على العربة مثل الدكاكين : ( الدين ممنوع والعتب مرفوع !! ) . وتبوّل إذا خفت من التفجيرات وإطلاق النار . تبوّل بلا تأخير . في أي مكان !! .

** العضباء **

على غير عادتها إنعطفت ( العضباء ) ، وهي تدفع العربة يتبعها ( زمن ) ، نحو أول زقاق صادفها قبل أن تصل دكان ( كاشان ) وهمست لإبنها وهي تشير بطرف عينها نحو الدكان : ــ لا أريد أن أرى هذه القحبة !! وسأقول لك لماذا عندما نصل البيت . عندنا ضيفة . ولا أريد لأحد أن يعرف أنها عندنا . هذا زمن العاهرات والقوّادين !! .

ثم تركت العربة فجأة ( لزمن ) ، ومشت خلفه ، إذ كان الزقاق لا يتسع لمرور إثنين دون أن يمسّا بعضهما ، وسألته : ــ هل كانت المعركة قريبة منك ؟! .

أجاب على الفور : ــ لا !! حصلت قبالة ( حي الشهداء ) على شارع ( بغداد ) .

: ــ لاتعد غدا إلى ( دورة الموصل الجديدة ) . يمر( العميان ) من هناك بكثرة . يابا !! أستر علي !! .

قالت برجاء .

فتظاهر ( زمن ) بانه ( يفهم ) ما تطلبه وهما يصلان الفسحة الفاصلة بين ( التانكر ) و ( برج الضغط العالي ) . وضعت ( العضباء ) يدها السليمة على كتفه وهمست له بصوت جاهدت أن يكون خفيضا : ــ إبتعد عن طريق هذه القحبة ( كاشان ) . كما يبتعد البصير عن العمى . وإذا صادفتك ، هي أو هذا القواد الذي سكن معها قبل يومين ، ( خدرم ) ، ( مخدرم ) ، لا أعرف إسمه الخراء ، فتجاهلهما ولا ترد لهما تحية . هل فهمت ؟! . هل فهمت ؟! ضيفتنا هي ( إخلاص ) . نعم . ( إخلاص ) . والبنت مريضة جدا . باعتها ( كاشان ) لرجال فعلوا بها الفحشاء ، أستغفر الله ، غصبا عنها !! . وستبقى عندنا حتى يأتي بعض الناس هذه الليلة لأخذها . زين ؟!

تساءلت ( العضباء ) وهي تنظر في عيني إبنها ، أشعل هذا سيكارة وأجاب متنهدا : ــ زين يمّا !! زين !! .

ألقى التحية على الفتاة دون أن ينظر في وجهها ، كما جرت العادة ، ثم إستأذن أمه للذهاب إلى المقهى ، إذ ما كان محبذا له ( كرجل !! ) البقاء وحده بين نساء ، وسلك طريقا آخر لا يؤدي نحو دكان ( كاشان ) ، كما طلبت أمه ، وهو يفكر بالفتاة التي ظن الجميع انها إختفت من ( الثالولة ) كلها ولكنها ظهرت في ( التانكر ) فجأة كما واحدة من القصص الخرافية التي ما إنفكت ( الثالولة ) تتناقلها عن ألأوّلين كل مساء .

لاعب ( زمن ) أحد الرجال العجائز ثلاث جولات من لعبة ( الدومنه ) خسرها جميعا تحت سخريات الرجل العجوز اللاذعة ، والذي كان يصرخ بين رمية رمية وأخرى : ــ إلعب يا ( إبن العضباء ) !! إلعب !! عندما كنا بأعماركم كنا نلهو مع الذئاب في البرية !! ونأكل حتى بيوض ألأفاعي من الجوع !! وأنتم تأكلون ( النستلة ) ألآن ، فلا تعرفون كيف تلعبون ( الدومنه ) !! .

وعندما أعلن ( زمن ) إنسحابه ( خاسرا !! ) إقترح عليه العجوز مازحا : ــ ما رأيك يا ( أخو صمود ) في جولة رابعة ؟! الرابح فيها يتزوج أمّ الخاسر ؟! .

ضج الحضور بالضحك .

ولكن الرجل العجوز أمسك بكف ( زمن ) بقوة وهو يقول له جادا ، كأنه يتواطأ على أمر ما يفهمه هو وحده : ــ الحياة جولات يا بني . وأمثالك من الرجال الحفاة الشرفاء هم الذين يربحونها في النهاية !! .

** زمن **

حالما قرقعت مكبرة الصوت بيد المؤذن لصلاة الفجر ، إستيقظ ( زمن ) وإستيقظت ( العضباء ) هامسة بصوت ناعس : ــ سأعد ّ لك ألإفطار . هل تأكل من خبز يوم أمس أم تنتظر حتى أخبز لك غيره ؟ .

أجاب : ــ سأفطر في السوق . أعطيني من خبز ألأمس . إشتهيت ( اللّبلبي ) منذ البارحة .

وعندما فتحت ( العضباء ) الباب وهي ( تبسمل ) و ( تحوقل ) كما إعتادت أن تفعل في كل صباح ، إلتفتت نحوه مندهشة : ــ مازال الوقت مبكرا !! . ليل !! . إذهب بعد ساعة ساعتين !! .

قال وهو يتمطى : ــ العمال يذهبون لأعمالهم في هذا الوقت ويشترون الكثير من السيكائر بالمفرد !! .

وراح يرزم بضاعته في العربة بينما ( العضباء ) تكرر نصائحها له بان لايذهب إلى ( دورة الموصل الجديدة ) ولا يتوقف في مكان تمر منه قوات ( العميان ) و( البيش مركة ) وان يتبول إذا خاف ، وختمت نصائحها : ــ أستر علي يابا !! .

سلك طريقا لايمر بدكان ( كاشان ) تلفحه نسمة باردة أنعشته ، قبل أن يفتح ( أخو عرنه ) مقهاه ، وعبر ( قنطرة الحرية ) بعد أن ألقى تحية الصباح على ذوي ( الرؤوس المكيّسة ) الذين إعتادوا التجمع عند ( سيد فولاذ ) مذ إنتهت الحرب ، ولكن بدون ( مترجم الفجائع !! ) ( البدراني ) ، في هذه المرة .

مازالت الكلاب والقطط السائبة تعبث في ألأزقة التي سلكها ، وما زالت بعض النجوم تتلألأ من بين غيوم الخريف العالية ، وثمة إنفجار بعيد ، قدر أنه في الطرف ألأقصى من ( الساحل ألأيسر ) للمدينة ، بينما كان لون ألأفق الشرقي يبهت عن ظلمته الزرقاء الداكنة وتحمر أطراف الغيوم مثل بدايات حرائق متناثرة .

لاحقته قطة سائبة مسافة طويلة حتى فطن إلى أنها ربما شمّت رائحة الخبز معه فتوقف . إقتطع كسرة من الرغيف وضعها على مكان نظيف من الرصيف بمحاذاة جدار ، وحالما إبتعد عنها إنقضت القطة عليها وراحت تأكلها ، فأطلق ( زمن ) : ــ الحمد لله !! مرتين .

صادفته مجموعة من الرجال والفتيان ذاهبين إلى عمل ما ، إشترى بعضهم قليلا من السيكائر وإشترى إثنان بعض قطع العلك ، نصحه واحد منهما بحرارة ألآ يمر من ( طريق الموت ) في مثل هذه الساعة التي تمر خلالها دوريات أمريكية فشكره ( زمن ) وهو يكاد يضحك لأنه ذكره بنصائح ( العضباء ) .

عندما بدأ قرص الشمس الفاقع الحمرة يظهر في ألأفق الشرقي ، غمس ( زمن ) قطعة من خبز التنور في مرق (اللبّلبي ) وراح يمضغها متلذذا وهو يراقب الشوارع العامة التي لابد لها أن تلتقي في ( دورة الموصل الجديدة ) ، وكاد ينتهي من إلتهام إفطاره ( الشهي ) عندما ظهرت مروحيتان من جهة ( فندق الموصل ) فتوقف عن المضغ ، وتحسّس الهاتف النقال في جيب دشداشته .

إنتظر أن يرى رتلا بعد ذلك ، ولكن المروحيتان مرتا نحو ( شارع الموت ) منذ فترة طويلة دون أن يرى أية سيارة أمريكية عدا السيارات العراقية المدنية والجرارات الزراعية ، فأنهى إفطاره بقدحين من الشاي شربهما من مقهى جوال لرجل طاعن في السن كان يسعل بكثرة وهو يردد لنفسه بصوت مسموع آسف : ــ البارحة وين واليوم وين !!؟؟ .

باع علبتين من السيكائر لفلاّحين نزلا توا من جرار مغبر ، وبينما كان يقبض النقود من شاب إشترى أربعة سيكائر مفردة ، إنتبه إلى أن السيارات والجرارات العراقية قد توقفت على الجانب ألأيمن من الطريق لتفسح المرور لرتل أمريكي من خمس مدرعات ترافق تسع شاحنات ( تركية ) عملاقة ، فتشاغل بمحتويات عربته حتى مرت المدرعة ألأخيرة متبوعة بمروحيتين ، عندئذ فتح هاتفه وقال للطرف ألآخر بهدوء ، ودون أن يرتجف هذه المرة : ــ خالتي (حسنه ) تسلم عليك . مرت من هنا قبل قليل مع أطفالها الخمسة . ومعها بنات أختها السمينات . تسعة ما شاء الله !! في أمان الله !! .

** الثالولة **

أطعمت ( العضباء ) الدجاجات وإستبدلت ماء الطاسة في القن بماء أنظف ، كانت قد إشترته قبل يومين من (تانكر) مر ( بالثالولة ) على عجل ، ثم اوصت ( صمود ) للمرة الخامسة بالإنتباه والحذر من الكلاب السائبة التي قد تغير على الدجاجات ، فهزت هذه رأسها ( متفهمة ) وصايا أمها ، عندئذ وضعت ( العضباء ) عباءتها على رأسها لتذهب إلى ( سوق الخضار ) مشيا ، حافية القدمين إذ لم تعثر على نعال بمقاس قدميها مذ ضاع نعالها رعبا من دورية ( العميان ) عند ( الكورنيش ) على ضفة النهر المجاورة لمرقد ( سيدنا الخضر ) بعد أن أرسلت ( شموع زكريا ) مشتعلة على وجه ( دجلة ) فعاد وحيدها من ألأسر .

ولأن ( أخو عرنه ) ماعاد يبيع الخضار بعد أن فتحت ( كاشان ) دكانها الجديد المضاء بتلفزيون ومصابيح ملونة إجتذبت العجائز الفضوليات وألأطفال ، فقد أقسمت ( العضباء ) ألا تشتري من تلك ( المقحبة ) شيئا ( حتى لو ماتت من الجوع ) وإضطرت للزحف على ركبتيها من أجل الوصول إلى السوق من أجل الطعام .

وعندما مرت من زقاق بيت ( دليو ) تلقفتها ( البرشه ) ومضتا في ثرثرة هامسة ، حذرتين من أن يسمعها (ألأحيمر )الثرثار ( الذي لم يحتفظ بسر منذ ولد !! ) ، عن ( البدراني ) الذي جاء ليلا مع بندقية ولثام وأخذ البنت ( إخلاص ) إلى مكان ما ، وأقسمت ( العضباء ) ( للبرشه ) أنها نذرت ( خبز العباس ) و ( شموع زكريا ) إحتفالا يوم خروج ( العميان ) و ( البيش مركة ) و( سود الوجوه الذين جاءوا معهم ) مهزومين من البلد .

دلتها ( البرشه ) على دكان خضار قريب في ( حي الزنجيلي ) ، بدلا من المرور ( بشارع الموت ) نحو ( سوق الخضار ) ، وجلبت لها فردتي حذاء من أحذية زوجها ( دليو ) على سبيل ( ألإعارة ريثما تعود !! ) ، إحتذتهما ( العضباء ) ممتنة شاكرة لها فضلها ولم تبال بالهواء الذي تسلل من مقدمة الفردة اليمنى عبر شق ّ مهترئ عصي على الترقيع .

رأت أربعة أطفال يلعبون على منتصف ( قنطرة الحرية ) ، وهي تنحدر نحو ( سيد فولاذ ) ، وثمة مجموعة كبيرة من النساء وألأطفال تشتري الماء الصالح للشرب من ( تانكر ) ضخم هناك ، في اللحظات التي توقفت فيها ثلاث سيارات على الجهة ألأخرى من ( وادي الحرامية ) ، نزل منها خمسة ، أو ستة رجال ، راحوا يطلقون النار نحو مقهى ( أخو عرنه ) والناس الذين تجمعوا حول ( تانكر ) الماء .

لم تصدق ( العضباء ) ما تراه وتسمعه ولكنها صاحت : ــ تأ !! تأ !! .

وهي ترى ألأطفال يفرون عن ( قنطرة الحرية ) مذعورين ، ثم راتهم يتساقطون واحدا بعد ألآخر صرعى على ألأرض المتربة . و( ماعت !! ) مفاصلها فسقطت هي ألأخرى وهي تشعر بالرصاص يمزق الهواء الراكد من حولها ، إصطدم بعضه بالجدار الذي لاذت به ونثر عليها الكثير من التراب .

** كاشان **

من وحي ( النجاحات ) التجارية التي حققتها مع ( كاكا صالح ) صارحت ( المخضرم ) أنها تريد ( بيع سيارتها القديمة لشراء سيارة أحدث ) ، من تلك ( الجديدة التي دخلت البلد في هذه ألأيام !! ) ، وٍسألته عن الثمن الذي يقدره لسيارتها المهملة في الجانب ألأبعد من حوش ( البيت ألآخر ) مذ ( خانها ) ( البدراني ) ، فقال ( المخضرم ) على الفور : ــ تساوي ثلاثة ملايين إلى ثلاثة وربع !! رخصت السيارات في السوق في هذه ألأيام . الحدود مفتوحة . ولكن لاتبيعينها لأحد . انا أشتريها منك بثلاثة ونصف !! يمكنك ان تتاكّدي من السعر من كل الناس . سعري هو ألأفضل . عندي صديق يحتاجها !! وسأدفع لك نقدا وبالدولار متى تشائين !! .

ولأن ( ألأحيمر ) كان قد جلب لها شاريين مختلفين دفع ( أسخاهما !! ) مليوني دينار بالسيارة في غياب ( المخضرم ) ، إبتسمت سعيدة وقالت لهذا على الفور : ــ بعتها لك إذن !! أثق بأنك لست كالآخرين المخادعين !! .

قال ( المخضرم ) : ــ وانا إشتريتها !! وسأدفع لك ثمنها هذا المساء !! أنت تعرفين ، أنا أودع نقودي عند ( كاكا صالح ) !! لا أمان في المصارف ولا امانة عند أكثر الناس !! .

ومضى هو ألأخر سعيدا نحو المدينة مصحوبا بأغنية كردية راقصة يحبها .

مذ هربت ( إخلاص ) وهي تحرص في التأكّد من وجود البنات في غرفتهن بين فترة وأخرى بخطى متلصصة وتحاول أن تتفهم أحاديثهن خوفا من هروب أخرى ، وعندما تأكدت أنهن يتمتعن بنوم عميق أغلقت باب الغرفة بهدوء ، وهي تتمنى أن يتعافين من الهزال الذي أصاب أجسادهن في سنوات الحصار الدولي ، ثم فتحت باب الدكان ، وشغلت التفزيون على قناة عربية تعرض ألأغاني الراقصة بخلاعة غير مسبوقة ، لإدهاش العجائز اللواتي حان موعد مجيئهن لشراء الخضار الطازجة لهذا اليوم .

فكرت ، سعيدة ، بأنها جنت خلال أسابيع ، من علاقتها مع ( كاكا صالح ) و ( المخضرم ) ، ما لم تجنه طوال عمرها ، ولكنها إحتارت بين فكرة ألإنتقال إلى حي أرقى من ( هذه المزبلة !! ) وبين البقاء في هذا المكان الذي يبدو أنه مصدر ( رائع !! ) لجني المزيد من المال .

عندما عاد ( المخضرم ) قبيل الظهر بقليل ، أخذت منه أكياس ( الفطور المتأخر ) ، عمدا حسب خطتها الجديدة لتسمين البنات ، وعزلت على الفور شيئا من الكباب والكبدة المشوية مع رغيف خبز في صحن على حدة ، وقالت (للمخضرم ) الذي كان يراقب ما تفعله ساكتا : ــ هذا للبنت الكبرى !! .

فضحك هذا وهو يغمز لها : ــ تعلفينها جيدا !! فعلا هي مجرد كيس عظام !! مؤخرتها لا تملأ الكف !! عندك الوقت الكافي ريثما يحين موعد إحتفال رأس السنة ويراها ( كاكا صالح )!! .

: ــ أو ( ثور محروم ) من النساء كما حصل مع تلك ال ( ... ) التي هربت !! لا أرضى أن يتكرر معي هذا !! لا أرضى !! .

قالت بشئ من ألإحتجاج المهذب .

وظلت تتناول طعامها ببطء غير مبالية بثرثرته عن بطولاته التجارية مع المهربين ألأكراد وألأتراك ، ولكنه إلتقط لامبالاتها فسألها : ــ أراك منشغلة البال بأمر ما !! وأنا أعرف أن لديك أفكارا عبقرية !! شاركيني !! لعلني أساعدك !!

أجابت : ــ أريد أن أشتري بيتا كما ألأوادم الحقيقيين في حي غير ( خارج على القانون ) ولا توجد إلى جواره ( مزبلة للشيطان ) ولا ( واد للحرامية )!! .

ضحك ( المخضرم ) وقال لها على الفور : ــ يمكنك هذا !! وخلال أسابيع !! حتى لو كان الثمن ، ثمن البيت ، ستين أو سبعين مليونا وأكثر !! .

: ــ كيف ؟! .

سألته بلهفة لم تستطع السيطرة عليها .

مد يده في جيبه وأخرج لفافة صغيرة من ورق ، ثم إنتقل من مكانه وجلس لصقها واضعا كفه اليسرى على فخذها ، دون ان تمانع ، ثم ربّت على جسدها اللدن وهز ّ اللفافة قائلا : ــ بهذا !! بهذا ، نعم !! يمكنك أن تشتري عشرة بيوت بدلا من واحد !! .

ثم فتح اللفافة عن أقراص صغيرة جدا ، أذهل مرآها ( كاشان ) التي إبتلعت لعابها بصعوبة وهي تتساءل : ــ حتى لاتبدو من الذهب لأقول انها ثمينة حقا !! .

عندئذ أبعد كفه عن فخذها ، وضحك من جهلها ، قائلا : ــ وهي أثمن من الذهب والبلاتين حتى !! تضعين قرصا واحدا في مكان ما فتقبضين مائة دولار !! تخيّلي !! كم من هذه ألأقراص الجميلة تستطيعين توزيعها في شوارع مدينة كاملة ؟! شغلة نظيفة وسهلة جدا !! .

لهثت وهي تتلمّس قرصا بطرف إصبعها وسألته : ــ نعم !! لا أسهل من هذا الشغل أبدا !! ولكن قل !! بماذا تفيد هذه ألأقراص ؟! .

أعاد اللفافة إلى جيبه بعناية ، ثم وضع كفه على فخذها وربّت عليه وراح يهمس لها بصوت خفيض : ــ انت تعرفين !! بعد هروب حكومة البعثيين المجرمين وفتح الحدود ، وتمتع الناس بالحرية ، ظهر إرهابيون كثيرون يعملون ضد الحرية . يضربون القوات التي حرّرتنا !! صحيح ؟!

: ــ صحيح !! .

أجابت وهي تنظر في عينيه فاتحة فمها .

همس بصوت أخفض : ــ هذه ألأقراص للدلالة عليهم . يكفي أن تضعي واحدا منها في مكان ما لنعرف أن فيه إرهابيا ، فتقبضين مائة دولار !! .

إبتلعت لقمة هواء وهي تنظر في وجهه بعينين مندهشتين وفم مفتوح على صدر يعلو ويهبط بسرعة ، وتشاغل هو بإرتشاف شئ من قدح الشاي قبل أن يسألها : ــ ها !!؟؟ ماذا قلت ؟؟!! .

أجابت وهي تبتلع لقمة هواء أخرى : ــ لا !! مائة وخمسون دولارا !! بل مائتان !! نعم !! مائتان !! .

** زمن **

دوت ثلاثة تفجيرات متوالية من جهة ( شارع الموت ) ، ودوت على أثرها صليات رشاشات ثقيلة ، ثم دوى إنفجار كبير ، لم يسمع ( زمن ) مثيلا له إلا في الحرب ، تلته ثلاثة أو أربعة إنفجارت أقل دويا .

صاح ( زمن ) مرحا في وجه قروي عجوز إشترى لتوه علبتين من أرخص السيكائر : ــ علقت !! .

ضحك القروي وقال : ــ على من إشتهاها يابا !! .

ثم مضى نحو جراره الزراعي وهو يردّد آسفا : ــ لاحول ولاقوة إلا بالله !! .

وظهر سرب من المروحيات ألأمريكية متجها نحو ( حي الشهداء ) .

جلس ( زمن ) على الصفيحة الفارغة . تلمّس ركبته ، ومرة أخرى تمنى لو أن الجندي ألأمريكي الذي كسر ركبته والمترجم العراقي اللئيم في تلك القافلة التي تعرضت لتوها إلى ضربة شديدة من المقاومة ، وفكر بتكريم نفسه بوجبة كباب ساخنة من المطعم القريب ، ولكنه شعر بتأنيب ضمير من فكرة أن يتناول هذا ( الترف !! ) دون أمه وأختيه اللواتي ( لم يتناولن الكباب منذ سنين !! ) ، لذا قرر ان يتقاسم هذه الوجبة معهن في العشاء .

سلك الطرق الجانبية البعيدة عن ( شارع الموت ) ، بعد آذان العصر ، بعد أن غطى وجبة الكباب بالصفيحة الفارغة ، ومع ذلك كان يشم ّ رائحتها الذكية الشهية ، وإستوقفته إمرأة عجوز إشترت لطفلين يرافقانها بعض الحلويات ، ثم إستوقفه رجل في ألأربعين ظل يحدّق بمحتويات العربة دون هدف واضح قبل أن يمضي غاضبا من امر ما .

واصل ( زمن ) سيره مستغربا غضب الرجل ، ولكنه فوجئ بشابين ملثمين يستوقفانه ويسحب احدهما مسدسا من تحت سترته صوبه نحوه طالبا منه ( كل الفلوس التي معه !! ) بصوت عال ومستعجل ، بينما كان رفيقه يجمع كل ما كانت يداه تطاله من علب السيكائر ، فوقف ( زمن ) مذهولا ، لا يدري ماذا يفعل ، حتى سمع رجلا يصرخ من خلفه : ــ ماذا هناك ؟! .

: ــ يسرقونني يا عمّي !!

صاح ( زمن ) .

عندئذ سحب الرجل مسدسا ضخما واطلق رصاصتين وهو يصرخ غاضبا : ــ يا أولاد القحبة !! .

ففر اللصان بسرعة عجيبة ، واطلق الرجل رصاصة ثالثة خلفهما فإختفيا في أول ألأزقة . وظل ( زمن ) واقفا في مكانه مذهولا بما يجري له للمرة ألأولى في حياته ، إذ ما كان يتوقع قط أن يفكر لص بالسطو على بائع متجول في حي فقير .

سأله الرجل : ــ أولاد القحبة !! بدلا من السطو على من سطا على البلد ... !! ماذا أخذوا منك ؟! .

نظر ( زمن ) نحو علب السيكائر المتناثرة على العربة بدون إنتظام وعلى ألأرض ، وراح يجمعها بشئ من الخجل وهو يقول للرجل : ــ أربعة أو خمسة علب ، وبعض قطع العلك والنعناع ، و .. و .. لا شئ !! .

ولم يقل للرجل أن اللصين سرقا وجبة الكباب ، التي كان يحلم بتذوقها في ذلك المساء ، أيضا .

: ــ من أية محلة أنت ؟.

تساءل الرجل وهو يربت على كتفه بحميمية .

أجاب ( زمن ) : من ( الثالولة ) .

قال الرجل بفخر : ــ على رأسي !! والله رفعتم رأسنا يا أهل ( الثالولة ) !! .

** الثالولة **

أعانت بعض النساء ( العضباء ) على الجلوس متكئة على الجدار الذي خرمته صلية رصاص كانت موجهة نحوها ، بعد أن تعثر بها كثيرون كانوا يركضون من وإلى الأماكن التي تناثرت عليها جثامين القتلى وأجساد الجرحى ، وكانت كثرة من النساء قد بدأن لطما جماعيا عند ( سيد فولاذ ) و ( تانكر ) الماء الذي قتل صاحبه وأصيبت حاويته برصاصات ينساب من ثقوبها الماء على ألأرض دون أن يبالي به أحد .

رأت ( العضباء ) اللطّامات ، فنهضت مستعينة بيدها السليمة حالما تذكرت ( زمن ) ، وركضت نحوهن وهي تصرخ : ــ ( زمن ) !! ( زمن ) !! . مع أنها كانت تعرف أن هذا ليس موعد عودته إلى ( الثالولة ) ، حتى قبض على كتفها رجل عجوز وهو يقول لها غاضبا : ــ إهدأي يا إمرأة !! إبنك لم يكن هنا !! إهدأي !! .

فسألته وهي تبكي وهي تشير إلى ما حولها : ــ لماذا ؟! لماذا ؟! .

ولكنه أهملها .

مسحت مخاطها بإصبعين نظفتهما بألأرض المتربة وقالت لإبنتيها القلقتين : ــ انا سلامات !! ( زمن ) سلامات !! في الشغل !! ولكن أنظرن ماذا فعل المجرمون !! قتلوا ( الثالولة ) كلها حتى ألأطفال !! .

ونزعت فردة الحذاء الذي إستعارته من ( البرشه ) وهي تولول قائلة : ــ ضيعت الفردة ألأخرى !! ماذا أقول ( للبرشه ) ألآن ؟! هذا حذاء ( دليو ) !! .

ولكن الفتاتين أهملتا شكواها ، لأنهما سمعتا دوي ثلاث إنفجارات مرعبة أعقبتها صليات رشاشات ثقيلة في ( شارع الموت ) ، ونهضت ( العضباء ) عندما سمعت إنفجارا أقوى من ألإنفجارت التي سبقته ، ودوت إنفجارات أخرى ، بينما كان رجل عجوز يشجع الرجال على ألإسراع في نقل الجثث إلى بيوت ذويها ، وكان من بينهم ( أخو عرنه ) الذي أصابته رصاصة في رأسه وثلاث رصاصات في صدره الذي مازال ينزف دما .

وأثناء ذلك مرت مروحيات أمريكية تحلق عاليا في الفضاء ، خاطبتها ( العضباء ) غاضبة : ــ الله ياخذكم !! الله يا خذكم !! الله لايرحمكم !! .

** كاشان **

أيقظت البنت الكبرى بلطف مبالغ به وأشارت لها أن تتبعها . طلبت منها أن تغسل وجهها من ألإبريق الخاص بها وبالصابونة المعطرة التي منعت الفتيات من إستعمالها سابقا . أنعش الماء البارد والصابون الفتاة ونشفت وجهها بطرف ثوبها الطويل كما تعودت منذ زمن بعيد ، فأنكشف ساقاها ، اللذين كانا غاية في الهزال ، دون حرج من ( المخضرم ) الذي كان يراقبها بعينين وقحتين ، ثم تساءلت ببراءة : ــ يمّا !! ماذا أفعل ألآن ؟! .

: ــ تعالي وكلي !!.

قالت لها ( كاشان ) مستاءة من غفلتها عن تسمين البنات مبكرا ، ثم أردفت بشئ من الحميمية والخصوصية : ــ إسمعي !! لاتخبري أختيك عن هذه الوجبة . أحبك أكثر منهما !! قلت ذلك ( للمخضرم ) من قبل !! ــ وهز هذا رأسه مؤيدا كاتما إبتسامة ساخرة ، بينما إسترسلت ( كاشان ) في توددّها للفتاة ــ وسأشتري لك ثيابا جديدة غدا أو بعد غد . صرت إمرأة ، ولا أريد أن يسخر من ثيابك أحد . أنت خاصة !! .

ضحكت الفتاة بسعادة وهي تلتهم الكبدة المشوية والكباب مع صحن من اللبن الخاثر ورغيفين من الخبز إلتهمتها على عجل مع قدحين من الشاي ، ولكنها تساءلت بعد أن شبعت : ــ يمّا !! ألم تحصلي على أخبار عن ( إخلاص ) ؟! .

فإمتقع وجه ( كاشان ) قبل أن تصرخ بوجهها : ــ لا !! ماتت !! ماتت !! .

غسلت الفتاة أواني الطعام الفارغة ثم عادت بها إلى الغرفة ، فتوقف ( المخضرم ) و( كاشان ) عن حديثهما الخافت . نشفت الفتاة كفيها المبللتين بطرف ثوبها فكشفت عن ساقيها الهزيلين مرة أخرى ، عندئذ صرخت بها (كاشان ) غاضبة : ــ كفيّ عن هذه العادة !! صرت إمرأة !! عيب على النساء أن يكشفن عن سيقانهن أمام الرجال !! عيب !! عيب !! الشبان في ( الثالولة ) يفكرون بالزواج منك !! إذهبي وسخني الماء في الحمام وإستحمي وإلبسي ثوبك النظيف !! ناديني قبل أن تستحمي لأعلمك كيف تستحم النساء !! .

فركضت الفتاة نحو الحمام قلقة مما يجري حولها ، بينما ذهبت ( كاشان ) إلى الدكان حيث سبقها ( المخضرم ) ليساوم مجموعة من العجائز على الخضار الطازجة التي جلبها قبل ساعة من ( سوق المعاش ) ، وكان التلفزيون يعرض وجوها من رجال الحكومة الجديدة التي قسّمت البلد إلى ( حصص ) للأكراد وللعرب الشيعة والعرب السنة والتركمان وللأقليات ألأخرى .

** زمن **

وهو يقترب من ( قنطرة الحرية ) كان يتخيل النظرة التي سيراها في عيني ( كرم ) وإبهامه المرفوع ، ولكنه فوجئ بمقهى ( أخو عرنه ) مقفلا ، ولا أثر حتى للأطفال العابثين على القنطرة وحول ( سيد فولاذ ) عادة . بدت (الثالولة ) شبه خالية من الناس . وإنتبه إلى بقع دماء على معظم الطريق من القنطرة حتى ( تانكر ) الماء الذي لاحظ ان زجاج نوافذه وواحد من بابيه وحتى حاوية الماء مخرومة بالرصاص ، فشعر بقلق كبير لذا أسرع نحو البيت .

كانت ( العضباء ) تنتظره قلقة هي ألأخرى عند ( برج الضغط العالي ) فسألها فورا عما حصل ، أجابت وهي تربط العربة بسلسلة فولاذية على جدار ( التانكر ) : ــ كارثة !! . وتأكدت من سلامة القفل الثقيل ، ثم إسترسلت وقد بدا الخوف في عينيها : ــ يابا !! كارثة !! مسلحون ، لا أحد يعرفهم ، أطلقوا النار علينا !! قتلوا ( أخو عرنه ) وإمرأة كانت تشتري الماء من ( التانكر ) !! . صاحب ( التانكر ) ، قتل أيضا !! . وقتل شاب ورجلان عجوزان في المقهى !!. والمصيبة المصيبة أنهم قتلوا أربعة أطفال !! أطفال !!؟؟ ما ذنب ألأطفال ؟! يابا !! يمكن هذا من علامات يوم القيامة !! الدماء في كل مكان !! والجثث !! أين الرحمة ؟! أين ألإنسانية ؟! أين الحكومة الجديدة ؟! .

أشعل سيكارة وإرتجفت يده عندما أعطاها كيس الكباب الجديد الذي إشتراه بدلا من الكيس المسروق ، ثم سألها كاتما غضبه: ــ هل عرفت من هو الشاب الذي قتل ؟؟ .

أجابت وعلى وجهها علامات الخوف كأنها تعيش ما رأته في الصباح : ــ لا والله يابا !! هربنا إلى البيت ولم نخرج لحد ألآن !! إلى أين ؟! .

سألته عندما رأته يعود نحو الطريق الذي جاء منه ، أجاب دون أن يلتفت نحوها : ــ إلى بيت ( كرم ) . ومضى مسرعا . طرق الباب مرتين . سمع ضوضاء عادية في الداخل ، فكرر الطرق على الباب بقوة أكبر ، تساءلت إمرأة بصوت عال : ــ من ؟! .

أجاب على الفور : ــ أنا !! أنا ( زمن ) !! .

إنفتح الباب عن ألأخ ألأكبر ( لكرم ) ، وكان يقبض على مسدس في جيب دشداشته ، وقال له هذا حالما رآه : ــ أهلا بك !! تفضل على العشاء . جاهز والله !! . هيا أدخل يا رجل ، أنت واحد منا !! .

ولكن ( زمن ) شكره بحرارة وسأله عن ( كرم ) ، فأخبره هذا أنه خارج البيت منذ البارحة وقد يعود هذا المساء ، لذا عاد ( زمن ) إلى البيت وهو يفكر بسؤال أمه ( ما ذنب ألأطفال ؟! ) .

** الثالولة **

أطلقت الكلاب السائبة في ( وادي الحرامية ) عواءات طويلة حزينة من بين ماتبقى من ( مزبلة الشيطان ) ، حالما خرجت من ( الثالولة ) قافلة من الرجال والنساء وألأطفال تحمل أحد عشر تابوتا محمولا على ألأكتاف ، مرت من خلف ( موقع الرشاشة الرباعية ) المدمّر وخندق ( فم الضفدع ) المتروك ، نحو المقبرة ، وأطلق أحدهم ثلاث طلقات نحو الوادي فسكتت الكلاب .

وبينما كان الجميع يؤدون صلاة الميّت عن أرواح القتلى ، المشفوعة بولولات النساء الحزينات ، والدعاءات لذوي ( الرؤوس المكيّسة ) مجهولي المصير بالفرج القريب ، ، حوّمت مروحيتان أمريكيتان حول المقبرة والمصلين ، حاول بعض ألأطفال نيلهما بحجارات تناولوها من تربة القبور الجديدة قبل غيابهما في أفق المدينة الرمادي الواسع، ووصلت من مكان ما مجموعة كبيرة من الرجال الملثمين مع أسلحتها لتؤدي الصلاة .

جاسم الرصيف

أميركا . نبراسكا

نيسان 2004 ــ أيلول 2006

arrseef@yahoo.com

الروايات المنشورة للمؤلف :

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 . الفصيل الثالث . الجزء ألأول . 1983 . طبعة أولى

2 . الفصيل الثالث . الجزء الثاني . 1983 . طبعة أولى

3 . القعر . من جزأين في مجلد واحد . 1985 . طبعة أولى

4 . خط ّ أحمر . 1987 . 2000 طبعة ثانية

5 . حجابات الجحيم . 1988 . 2000 طبعة ثانية

6 . أبجدية الموت حبا . 1991 .2000 طبعة ثانية

7 . تراتيل الوأد . 1992 . 2004 طبعة ثالثة

8 . ثلاثاء ألأحزان السعيدة .2001 . 2004 طبعة ثانية

9 . مزاغل الخوف . 2004

10 . رؤوس الحرية المكيّسة . 2006

* جميع الحقوق ، ولكافة الروايات المذكورة محفوظة للمؤلف ولا يسمح بإعادة إصدارها ، أو أي جزء منها ، أو تخزينها في نطاق إستعادة المعلومات ، أو نقلها ، بأي شكل من ألأشكال ، إلا بإذن خطّي من المؤلف

About Me

My photo
مؤمن بحقيقة تقول : إن شبرا من ألأرض يكفي لمتحابّين وألأرض كلّها لا تتسع لمتباغضين http://2arraseef.blogspot.com/